الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

نحو مراجعات أعمق أثراً

فهل كان خيار الصدام الذي اتخذته بعض فصائل الصحوة الإسلامية -ثم تراجعت عنه مؤخراً بحمد الله- خياراً فقهياً محضاً، أم كان خياراً انفعالياً في المقام الأول ثم طُوِعت القراءة الفقهية للنصوص، والواقعية للأحداث لكي تُنظـِّر لما أوجبه هذا الانفعال؟

نحو مراجعات أعمق أثراً
الثلاثاء ٠٥ فبراير ٢٠٠٨ - ١٦:٥٠ م
3522

نحو مراجعات أعمق أثراً

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فهل كان خيار الصدام الذي اتخذته بعض فصائل الصحوة الإسلامية -ثم تراجعت عنه مؤخراً بحمد الله- خياراً فقهياً محضاً، أم كان خياراً انفعالياً في المقام الأول ثم طُوِعت القراءة الفقهية للنصوص، والواقعية للأحداث لكي تُنظـِّر لما أوجبه هذا الانفعال؟

وإذا كان الاحتمال الأخير هو الأرجح، فهل كانت المراجعات مشتملة على معالجة هذا الجانب الانفعالي أم أنها لم تعالج إلا الجانب الفقهي فقط؟

وإذا كانت قد عالجت أو تخلصت من هذا الانفعال "الاستعجالي"، فهل سلمت من الوقوع في غيره من الانفعالات؟! هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال، ونسأل الله -تعالى- التوفيق والسداد.

بادئ ذي بدء نحب أن نؤكد على أن الإسلام منهج جاء ليحكم حياة أتباعه، وينظم جميع شئونهم، وهذا المنهج يبين للمسلم ما الذي ينبغي عليه فعله في حال السراء وفي حال الضراء، وفي حال الرضا وفي حال الغضب، وهذه قضية بديهية مسلمة، ولكن مما ينبغي التنبيه عليه أيضاً أن الأفضل في حق عامة الناس، والواجب في حق خاصتهم أن يتعلموا حكم الله -عز وجل- في كافة النوازل حتى وإن لم تكن نزلت؛ لأن النازلة متى نزلت لم يكن ثمة وقت لطلب العلم والبحث في الأدلة، بل ربما اشتدت النازلة أحياناً حتى تجعل صاحبها يذهل عن أمور يعلمها جيداً.

وانظر إلى حالة الذهول التي أصابت الصحابة -رضي الله عنهم- عند وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قرأ عليهم الصديق -رضي الله عنه- قوله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)(آل عمران: 144)، فكأنها لم تنزل إلا في تلك الساعة.

ومن هنا جاء تشديد الشرع على أن يعزل الناظر في أمور الدين نفسه عن أي مؤثر يمكن أن يؤثر على قدرته على النظر السليم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) رواه البخاري، والناظر في هذا الحديث يجد أن فيه مراعاة كبيرة لأمر النظر في دين الله -تعالى-، فعلى الرغم من أن القاضي قد درس أمور الشرع وهو في حال هادئة واستقرت لديه الأحكام الشرعية، ولم يبق إلا تنزيلها على الواقع، فقد نهاه الشرع عن الحكم وهو في حال الغضب، هذا على الرغم من أن الغضب من أمور تخصه -يعني القاضي- لا يلزم أن ينتج عنه تحامل على أحد الخصمين، لكنه قد يؤثر على قدرته على قياس الأمور، فلذلك جاء هذا النهي.

ومن ثم أخذ أهل العلم من هذا الحديث من باب أولى أن لا يقضي القاضي بين اثنين وفي نفسه ميل -مع أو ضد أحدهما-، وكذا قاسوا على الغضب كل الأحوال التي تؤثر على قدرة القاضي على النظر السليم من شدة الجوع أو غيرها.

ولذلك كانت البصيرة في دين الله -عز وجل- لازمة لكل أحد لاسيما لمن يتصدر لبحث الأمور العامة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، ومن رحمة الله بالأمة أن جعل في سيرة الأنبياء عموماً وفي سيرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خصوصاً، كل الأحوال التي يمكن أن تمر بها الأمة في مستقبلها فتراوحت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بين الاستضعاف المطبق إلى التمكين التام إلى أحوال بينهما.

وواجهت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- مشركين مجاهرين بالعداوة، وواجهت معاهَدين -منهم من وفى ومنهم من نقض العهد- وصارت للمسلمين دولة في حين بقي بعضهم مستضعفاً عند الكفار، ثم عمت دولتهم جزيرة العرب كلها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورغم نصر الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في عامة المواقع التي حضرها فقد قدر الهزيمة في "أحد" ليتعلم المسلمون أخلاق الهزيمة كما تعلموا أخلاق النصر، وواجه النبي -صلى الله عليه وسلم- كيد المنافقين في الداخل، ثم واجه الردة المعلنة في الخارج.

واستكمل الصحابة بعده، وهم أعلم الناس بدين الله -تعالى-، فابتلاهم الله بالمرتدين وابتلاهم بالخوارج المارقين، وقدر الله وقوع الخلاف بينهم، فبغى بعضهم بتأويل منهم على إمامهم ومنهم تعلمنا كيف تكون هذه المواجهات.

كل هذه الوقائع ومعها أحكامها من الكتاب والسنة واجتهاد الصحابة -رضي الله عنهم- يتعرض لها من يدرس دين الله -عز وجل-، وكلما كان الإنسان بعيداً عن ميدان المواجهة، كلما كانت دراسته أتم، وكلما كان أبعد عن الوقوع تحت مؤثر نفسي، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فمن ابتلي بأن داهمه أمر لم يكن قد أعد له عدته، فعليه حينئذ بالإكثار من التضرع إلى الله أن يهديه إلى الحق، وأن يستعين على ذلك بمشورة كل ذي رأي، وما أفقه عمر -رضي الله عنه- الذي رغم أنه كان في زمن خلافته أفضل وأعلم أهل الأرض، إلا أنه كان إذا نزلت به مسألة جمع لها أهل بدر الذين كانوا أهل مشورته أصالة، ومع ذلك كان يستشير شباب الصحابة يلتمس حدة رأيهم، وربما أدخل بعضهم -ممن وجد فيهم حكمة ووقار الشيوخ- مع أهل الشورى كعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- والقصة في ذلك مشهورة.

ومما يـُستنبَط من هذه القصة أن حداثة السن عند تقارب سائر الأحوال مظنة الخطأ، للعجلة وقلة الخبرة، ويؤخذ منها أيضاً أنه ينبغي على أئمة كل جيل أن يقربوا منهم من يتوسمون فيه أنه ستؤول إليه الريادة يوماً ما، كما فعل عمر -رضي الله عنه- مع عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.

ويتفرع عليه أن من آلت إليه الريادة رغماً عنه، مع حداثة سن وقلة خبرة في مكان ما فعليه أن يستعيض عن ذلك بالاستعانة بشيوخ ذهبت حدة شبابهم وعركتهم تجاربه، فإن وجدهم في غير مكانه فعليه أن يستشيرهم ولو أن يضرب إليهم أكباد الإبل.

ومن التحدث بنعمة الله -عز وجل- على دعوتنا المباركة، أن نذكر أن الله -عز وجل- عصمها من الانزلاق فيما انزلق فيه غيرها رغم تشابه ظروف النشأة، برجوعهم إلى أهل العلم في زمانهم وإن تباعدت ديارهم، وما زال التاريخ يذكر ما نصح به أحد دعاتنا الأفاضل إخواننا في الجهاد والجماعة الإسلامية حينما كانوا ما زالوا في طور التكوين أن يرجعوا إلى أهل العلم كابن باز والألباني، ولكن وللأسف فبدلاً من الرجوع إليهم تم الرجوع عليهم من بعض منظري جماعة الجهاد بالطعن والسب، ومحاولة الإسقاط، وما زال هذا حال بعض أبناء الصحوة، وبعضهم رجع عن ذلك ،فجزاه الله خيراً، وبعضهم رجع عن كثير من آرائه التي من أجلها ضلل هؤلاء الأفاضل، ولكن فاته أن يعتذر للتاريخ عما قاله في حقهم، وأن ينشر محامدهم في الورى، لعل أن يكون ذلك شافعاً له في تجاوزهم عنه يوم القيامة في حقهم.

وكم كان أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- جبلاً في تراجعه عن عقيدة ظل يدافع عنها وينافح، أمام تلاميذ الإمام أحمد، فلما تبين له أن الصواب مع الإمام أحمد كتب عقيدته الجديدة في "الإبانة"، وذكر فيه مجمل عقائد المعتزلة وبيـَّن ضلالها، ثم بيـَّن عقيدته من حيث الإجمال أنها مأخوذة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وموافِقة لما كان يقوم به الإمام أحمد، ووصفه بأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، وأن الله أبان به الحق، وقمع به البدع، وأنه إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم، فرحم الله أبا الحسن من رجَّاعٍ إلى الحق عارفٍ بأقدار الرجال.

وهكذا فالواجب على من ابتلي أن يستعين بمشورة من هم أعلم وأكثر خبرة، فإن لم يجد ولم يكن بد، فلا بد من جـِدِ وجلدِ ومحاولة لعزل النفس قدر الإمكان عن المؤثرات، ودراسة نصوص القرآن والسنة دراسة مطلقة قبل تنزيلها على الواقع، ثم قراءة الواقع قراءة متأنية وفاحصة، ثم إنزال الأحكام المطلقة على الواقع بدقة.

وحذارِ من أن يلتبس المطلق بالنسبي، والحكم بالفتوى، مع الاستعانة في كل ذلك بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع السنن الكونية المختلفة، وبطريقة أهل العلم القدماء في التعامل مع الظروف المشابهة، على أن يعيد تحليل مواقفهم التي تصل إليه كفتوى بطريقة عكسية للطريقة التي وصفناها آنفاً.

والسؤال: هل تم ذلك في وسط الصحوة الإسلامية المعاصرة في مصر في القرن العشرين الميلادي على وجه التحديد، وهو القرن الذي شهدت أوائلُه سقوطَ الخلافة العثمانية؟

ولن تجد صعوبة في أن تكتشف أن الحركة الإسلامية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين بدأت عقلانية على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثم تحولت إلى سلفية على يد محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، ومن بعدهما محمد حامد الفقي، ولكنها سواء في طورها العقلاني أو في طورها السلفي اتسمت بالهدوء والتوأَدة، ومحاولة إعادة البناء، ومراعاة السنن الكونية في طريقة تجديد المجتمع المسلم الذي كان يعاني آنذاك من أعراض الجهل واليأس والإحباط، وفقدان القيادة العلمية والسياسية والمجتمعية.

ولم يكن خافياً على جيل العلامة محمد رشيد رضا والعلامة محب الدين الخطيب أهمية تضافر الجهود، وخروج الدعوة من شرنقة الداعي الأوحد إلى العمل الجماعي الشامل، ولكن فرضت عليهم الظروف طريقةَ عمل يغلب عليها الطابع الفردي أو الجماعي النخبوي على أقصى تقدير، من خلال بعض الجمعيات الخيرية كجمعية الشبان المسلمين وجمعية أنصار السنة المحمدية.

وقد رأى هذا الجيل في الأستاذ حسن البنا القيادة الجديدة الواعدة فضموه إليهم كما ضم عمر -رضي الله عنه- ابن عباس إليه، ولله درهم، ولكنَّ نقـْل الأستاذ البنا إلى الإسماعيلية وقف عائقاً من أن يستمر هذا التلاحق بين الأجيال، وانتقلت القيادة بالفعل إلى حسن البنا الذي أدار عجلة الدعوة بسرعة مذهلة، وأسس جمعية الإخوان المسلمين، وهو في الثانية والعشرين من عمره وقتل -رحمه الله تعالى، وبلغه منازل الشهداء- وهو في الثانية والأربعين من عمره، أي أن جماعة الإخوان قد أُسست بروح شبابية في كل صفات الشباب من قوة وفتوة وعجلة، ورغبة في جمع كل الخيارات في قبضة واحدة مهما بدا ذلك الأمر غير منطقي.

وشهدت حياة الأستاذ البنا -على قصرها- كل التجارب من التزام خيار الدعوة، إلى المُنَازَلة السياسية، إلى المنازلة العسكرية، إلى التحالف مع القوى الأخرى، وكان تحالف الإخوان والضباط الأحرار هو التحالف الذي قضى على سائر خصومه، ثم كان ما كان من الصدام الدامي بين الطرفين، والذي انتهى بإيداع كل من مر يوماً بجوار شعبةٍ من شعب الإخوان في سجون مغلقة بمفاتيح فقدت من السجَّان -كما يقولون في الأمثال-.

وفي أثناء وجود الإخوان في السجون عاد بعض الشباب إلى مكتبات مساجد أنصار السنة، فإذا فيها رسائل محب الدين الخطيب ومحمد رشيد رضا، ومعها بعض كتابات الإمام محمد  بن عبد الوهاب، وكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومعظمها كانت رسائل انتقائية من انتقاء محب الدين الخطيب، ومن نشر مكتبة السلفية، إذن فيمكن اعتبار أن مرحلة الأستاذ حسن -رحمه الله- قد استـُقطعت من تاريخ الصحوة، وعاد الشباب مرة ثانية إلى الفكر التربوي الهادئ البنَّاء لرشيد رضا ومحب الدين الخطيب، مع الاستفادة من تجربة توسيع القاعدة المشارِكة في الدعوة من الأستاذ حسن البنا، ولكن ماذا حدث؟

لقد تحركت رموز معينة معظمهم من تلاميذ الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-، والذي كان يمثل جناحاً مستقلاً داخل دعوة الإخوان، تحرك هؤلاء لكي يقنعوا الجيل الجديد بألا يستسلم وليحاول، فإذا كانت الثورة قد أسقطت المَلَكية والإنجليز، فلماذا لا يسقط الإسلاميون الثورة؟

هكذا بدأت الفكرة بلا تنظير شرعي، ولم يكن للأستاذ رشيد رضا، ولا للأستاذ محب الدين الخطيب أي تنظير في هذا الاتجاه، وبطبيعة الحال لم يكن لجماعة الإخوان تنظير واضح في هذا الاتجاه ولا في غيره، حيث أنها كانت قد جربت عدة حلول لم يكن من بينها المواجهة الشاملة، وكانت أقصى درجة من درجات المواجهة عندهم هي دعم الضباط الأحرار في انقلابهم الذي بدأ في الجيش، ثم امتد إلى الحكم ككل، أي أن جيل "الجهاديين" الجُدُد لم يكن مسبوقا بأي تنظير في هذا الاتجاه، اللهم إلا الاغترار بالمد الثوري الذي حقق نجاحات في مواطن عدة منها مصر، وتحكمت الانفعالات وطغت جرأة الشباب، وتراءت أمام العيون أحلام الأمس، حينما وصل الضباط الأحرار إلى السلطة نيابة عن الحركة الإسلامية، وفي هذا الجو المشحون خرج النداء الذي أشرنا إليه آنفاً: "عودوا إلى أهل العلم فهم موجودون بحمد الله"، ولكن قدر الله وما شاء فعل، أعدت كتيبات صغيرة، ثم أصبحت كتباً كبيرة، ثم كتباً جامعة، وكلها تدافع عن موقف انفعالي اتخذه مجموعة من الشباب المتحمس.

بينما انصرف فريق آخر من الشباب ضبط حماسته بكلام علماء زمانه إلى العلماء الربانيين السابقين الذين عايشوا ظروفاً كهذه، لاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية، وحاولوا أن يستفيدوا الأحكامَ المطلقةَ من كلامه وكلام من سبقه المستفادةَ من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ثم يتعلمون كيف طبـَّق هؤلاء العلماء الحكم على واقعهم، بينما سار الآخرون في طريقهم وبعد فترة طويلة من الزمن عاد منهم من عاد وبقي منهم من بقي، نسأل الله أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.

وخرجت مراجعات فقهية تحاول في جملتها أن تبين الأحكام المطلقة، وأن تبين أن كثيراً من أحداث الماضي كانت تنزيلاً لأحكام على غير واقعها، ولعل بعضها كان بسبب لبس في فهم الحكم أصلاً.

ولكن السؤال: هل تم التنبيه على الآفة الأصلية؟ وهي بحث المسائل الشرعية تحت تأثير انفعال معين؟ البعض عالج هذا، والبعض ما زال في مراجعاته, رغم أن مبدأ المراجعة يفرض على صاحبه لغةً هادئة ونظرةً متعمقة، إلا أن البعض يظل مصراً على نبرة انفعالية في جلد الذات، ومحاكمة الآخرين وتتبع النوايا والتخوين والتضليل مما قد يضعف أثر أي دليل يورده، أو حجة يدلي بها مهما كانت واضحة وقوية، وفي المقابل هناك من وقع تحت تأثير التجربة ومرارتها وقسوتها أكثر من التركيز على خطئها وصوابها، مما قد يؤثر على الباحث ذاته في طريقة معالجته للقضايا، ومما يلقي بظلال من الشك في نفوس بعض المتربصين بالدعوة، وحتى في نفوس الأجيال الجديدة من الشباب المتحمس الذي بطبيعته في كل الميادين يرفض أن يكون أسير تجربة الجيل الذي سبقه، ولو كانت تجربة أبيه نفسه، لاسيما والإعلام يقدم لهم وجبات إعلامية مبهرة تحت عنوان "لن أعيش في جلباب أبي"، وبعض شباب المنتديات الإسلامية يرفعون راية "لن أعيش في جلباب المتراجعين".

ومع التسليم بأنه من المستحيل كبح جماح كل متحمس إلا أن التأصيل الشرعي، والتخلص قدر الإمكان من أسر التجربة يعطي فرصة أكبر لإقناع أكبر عدد ممكن من هؤلاء الشباب الذين لو تركوا لكرروا نفس التجربة الأليمة.

إننا نأمل أن نرى مراجعات تخلو من عبارات التخوين والتشكيك، ومن سرد خلافات شخصية بين أصحاب الاتجاه الواحد، أو الاتجاهات المتعددة. كما نود أن نرى مراجعات خالية من الكلام على الأمهات الثكالى والزوجات الحزانى، والأطفال الذين فاقوا في بؤسهم بؤس اليتامى.

نريد مراجعات بلغة فقهية راسخة، وبعبارات لا توحي بأن صاحبها واقع تحت تأثير تجربة بعينها، وهذا وإن كان هاماً بالنسبة لهذا الجيل، فهو أكثر أهمية للأجيال القادمة، بل إننا نتمنى أن نرى كتابات متكاملة في فقه الجهاد تقرر الأحكام المطلقة بروح واثقة، وبلغة خطاب موجهة لكل متعلم مسلم في كل مكان وزمان، ثم يكون معها بيان بعض نماذج من التطبيق الموافق للكتاب والسنة، ونماذج من التطبيق المنحرف، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك في غيرها من القضايا.

ولتعلم أخي الكريم أن كل العاملين في الساحة الإسلامية، بل والمكلَّفين عموماً مأمورون باجتناب الهوى، فالهوى لا يسلم منه أحد وكلنا مطالب بأن نجعل أهوائنا محكومة بالشرع لا حاكمة عليه، والناس -ومنهم الدعاة إلى الله- منهم من فُطِر على الإقدام، ومنهم من فُطِر على الإحجام وكلاً منهما مدعو إلى أن يضبط هواه بالشرع، وفي كلٍ صعوبة، كما ذكر الأستاذ محمد قطب أن المرحلة التي أمر فيها الصحابة -رضي لله عنهم- بالكف والصفح والإعراض كانت أشد على نفوسهم -وهم العرب الأباة- من المرحلة التي أمروا فيها بالجهاد وبذل النفوس في سبيل الله، والفتوة أن ندور مع إسلامنا حيث دار.

نسأل الله -تعالى- أن يهدينا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه.

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف

الكلمات الدلالية