الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

أحداث غزة إفراط في السياسة والخيال والقوة والحزبية

أحداث غزة إفراط في السياسة والخيال والقوة والحزبية
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٢١ مايو ٢٠١٠ - ٠٩:٥٩ ص
1858

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمنذ أشهر قليلة تعرضت "غزة" لمأساة الغزو الإسرائيلي الغاشم إلا أن صمود أبنائها وتضحياتهم حولتها إلى رمز للعزة، ومنبع للفخر، ولكنهم أبوا إلا أن يحرمونا من ذلك الفخر؛ حينما انفجرت أحداث "مسجد ابن تيمية"؛ لتكون مأساة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ حيث كان الصراع في هذه المرة إسلاميًا - إسلاميًا.

لقد ظن البعض أن "حركة حماس" بمجرد تشكيلها للحكومة في "غزة والضفة" -قبل الانفصال- سوف تطبق الشريعة الإسلامية؛ فلما لم تفعل حكم عليها بأنها عالمانية تتستر باسم الدين.

ومن المعلوم عن "حركة حماس" شأنها في ذلك شأن كل فصائل الإخوان في العالم الإسلامي، وشأن معظم الاتجاهات الإسلامية التي تقبل بالحل البرلماني لم تعلن أنها ستطبق الشريعة فور توليها الحكم، ولكن هذه الاتجاهات تتبنى حال وصولها للسلطة حل بطيئًا بزيادة الدعوة إلى الخير، وترغيب الناس في تطبيق الإسلام، وتنقية القوانين تدريجيًا مع إرجاء أو استبعاد صدور قوانين تلزم آحاد الناس بأداء الطاعات، أو اجتناب المنكرات؛ كتبرج النساء مثلاً.

وهذا التوجه يواجه نقدًا عنيفـًا من قِبَل السلفيين فضلاً عن الاتجاهات الأخرى: كالتيار المسمى بـ"السلفية الجهادية" فضلاً عن الاتجاهات التكفيرية على اختلاف درجاتها.

وبالنسبة للسلفيين: فإنهم يعترضون على أن يتولى الإسلاميون بأنفسهم تنفيذ قوانين، بل وأحيانـًا سن قوانين مخالفة للشريعة بدعوى "الضغوط الخارجية".

فإذا كان الإسلاميون إذا حكموا أجبروا على أن يحكموا بالقوانين الوضعية، فالواجب عليهم أن يعتزلوا ذلك المنكر، ولا تصح المصالح الجزئية التي تحصل من ذلك ذريعة لكي يتولى الإسلاميون تطبيق المناهج العالمانية؛ لا سيما مع ما في ذلك من فتنة للناس في دينهم، وإكساب هذه المبادئ الاحترام لدى العامة.

وتـُظهر الإسلاميين وكأنهم لا يختلفون عن العالمانيين إلا في النكهة وطهارة اليد، والتي ربما تحلى بها بعض العالمانيين، بل إن الأمر يزداد خطورة حينما يضطر الإسلاميون بالإضافة إلى ذلك إلى التصريح بأنهم مخلصون للديمقراطية! وبجميع إفرازاتها! ولن ينقلبوا عليها مهما أتت به من منكرات!

وفى حالة "حماس" استندت في قضية من أهم ثوابتها: وهي عدم الاعتراف بشرعية الاستيلاء اليهودي على أراضي 48 رضيت فيه من حيث المبدأ إلى الاحتكام إلى الأغلبية.

اختارت "حماس" أن تستمر في إخلاصها للقانون الفلسطيني مما يعني أن "حماس" سارت على نفس درب التجربة التركية؛ والتي يغيب فيها حلم تطبيق الشريعة في العقل الباطن للقادة دون أن يسمحوا لأنفسهم حتى بالفضفضة عنه، وهم مع ذلك يمنون أنفسهم بالتدرج البطيء في إدراج بعض الإصلاحات التشريعية من خلال المظلة البرلمانية.

ولا ندري ما هي الدعوة التي يمكن لهؤلاء أن ينقلوها إلى الأجيال القادمة من أبنائهم وأتباعهم، وقد صار مجرد التصريح بأن الشرع يلزم الحاكم والمحكوم معًا بشريعته خروجًا على الخط الديمقراطي؟!

ومع وجود هذه الاعتراضات إلا أن تصاعد الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس"، ومحاولة "فتح" إقصاء "حماس" من السلطة من أجل تمرير اتفاقات سلام جديدة أكثر تنازلاً مع اليهود جعل جميع الإسلاميين يلتفون حول "حماس"، ويقبلون بقيادتها للمشهد الإسلامي في "فلسطين" لا سيما في "غزة".

ثم لما انفصلت "حماس" بـ"قطاع غزة" ظن الجميع أن "حماس" بعد تخلصها من عبء الدستور الفلسطيني، ومن عبء التداخل مع مؤسسة الرئاسة الفلسطينية التي يسيطر عليها "رئيس فتح"، أنها ستخطو خطوات أوسع في تطبيق الشريعة، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، وظلت "حماس" على إخلاصها للديمقراطية.

وهذا إفراط بالغ من "حماس" بالتمسك بثوابت الخط السياسي على حساب الثوابت الشرعية، حتى وهي منفردة تمامًا بالسلطة في "غزة".

وكأن الأعداء حينما سارعوا بادعاء أن "غزة" قد تحولت إلى "إمارة إسلامية" قد وجهوا تحذيرًا لـ"حماس" من تحويلها بالفعل إلى إمارة إسلامية.

وتلقت حماس التهديد ووضعته نصب عينها رغم أن الأعداء شنوا عليها حربًا نتيجة عدم استجابتها لرسالة أخرى أكثر صراحة تطالبها بالاعتراف بـ"إسرائيل"، وكان يمكن للثمن الذي دفع لرفض الاعتراف بـ"إسرائيل" أن يكون هو أيضًا ثمن الإعلان للتطبيق الشامل للشرع، ولكن هذا لم يحدث للأسف الشديد، وكان هذا هو الإفراط الأول في المشهد الفلسطيني.

وكان الواجب على الدعاة السلفيين في "غزة" أن يستمروا في منهجهم الدعوي والتربوي، وأن يحيوا في الأمة معاني الولاء والبراء، ولزوم تحكيم شرع الله مع نصيحة إخوانهم في "حماس"، مستصحبين مسألة العذر بالتأويل، ومراعين المصالح والمفاسد التي يراعيها السلفيون مع الأنظمة التي تتبنى العالمانية شكلاً وموضوعًا، فمراعاتها مع الاتجاهات الإسلامية المتأولة من باب أولى.

إلا أن المشهد الفلسطيني لم يغب عنه إفراط من نوع آخر من قبل الشيخ "عبد اللطيف موسى" -رحمه الله- والذي كان محسوبًا على الاتجاه السلفي ثم صار محسوبًا على ما يعرف بالاتجاه السلفي الجهادي كما أفادت بذلك التقارير التي تحدثت عن الواقعة.

لقد أثارت حفيظة ذلك الداعية أن يوجد تيار إسلامي في سدة الحكم ومع ذلك لا يطبق أحكام الإسلام في القضاء، وفي غيره. فمتى يطبق الإسلام إذن؟!

ويبدو أن الشيخ المذكور قد دخل في حالة من التفكير والحزن تبعها أنه رأى رؤيا وهو أمر معتاد في مثل هذه الحالات تأولها -رحمه الله- بأنه سوف يطيح بضلالات "حماس".

ورغم أنه من الثوابت السلفية أن الرؤى لا تعتبر مصدرًا للتشريع كما أنها لا تعتبر مغنية لصاحبها عن الأخذ بالأسباب الشرعية والكونية في كل ما يقدم عليه، إلا أن حال البعض قد تصيبه حالة من الوقوع تحت سيطرة فكرة ما تغلق عليه تدبره.

وهنا يأتي دور الأتباع؛ إن الحركة الإسلامية بجميع طوائفها ينبغي أن تربي أتباعها على التأني في دراسة القرارات، والتعقل في النظر في الأمور، وعلى الشورى لا سيما في القرارات المصيرية حتى لا تقدم على عمل قد يكون نابعًا من حالة شخصية خاصة جدًا لشخص مهما بلغ من العلم والفضل.

بنى الشيخ على هذه الرؤيا؛ واتخذ قراره بإعلان "إمارة غزة الإسلامية" في "رفح"، وتحديدًا في  مسجد "ابن تيمية"، ودعا المقاتلين من خارج "الإمارة" بأن يأتوا ليأخذوا التوجيهات العسكرية من المسجد.

وهو تصرف بعيد كل البعد عن الفقه لا سيما والمنكرات التي يريد إنكارها، والحدود التي يريد تطبيقها غالبًا إن لم يكن دائمًا ما ستكون خارج حدود المسجد الذي هو إمارته فضلاً عن الطعام والشراب وكل شيء.

وإذا كان البعض يعتبر تصرف "حماس" في الاستقلال بحكم "غزة" أشبه بذلك إلا أنه يبقى أنهم استطاعوا ولو بسلاح "الضعف" فرض الأمر الواقع على الأطراف الأقوى.

غالب الظن أنه حاول استنساخ التجربة مستخدمًا سلاح "الضعف" الذي استخدمته "حماس" إلا أنه فاته أن محاولة الاقتحام الإسرائيلية لـ"غزة" كان هناك موانع دونها بينما لم توجد لدى "حماس" موانع من هذا الاجتياح فالأخوة الإيمانية لم تشفع لهم عند "حماس"؛ لأنهم رأوا أن "جند الله" هم الذين بدأوا بتكفيرهم، ونسوا سلوك الصحابة -رضي الله عنهم- مع الخوارج الحقيقيين الذين خرجوا على أعدل الناس؛ لقد صبر "عثمان" -رضي الله عنه- على القتل ببشرى بشره بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ) (متفق عليه)، رغم أن الخوارج عليه كانوا من حثالة الناس، وما أنكروه عليه لم يخرج عن كونه إما أشياء غير منكرة، وإما أكاذيب.

ولم يشأ "عثمان" -رضي الله عنه- أن يدافع عنه من في المدينة من الصحابة -رضي الله عنهم- لعدم تكافؤ القوى، وأرسل في طلب مدد بحيث يمكنه السيطرة على الموقف بدون إراقة دماء، وإلا فيكفي دمه هو، وقد كان، وتأخر المدد حتى لقي ربه شهيدًا -رضي الله عنه وأرضاه-.

و"علي" -رضي الله عنه- لم يقاتل الخوارج حتى كانوا هم البادئين، وأما قتاله مع "معاوية" -رضي الله عنه- فكان فيه التشاور والمناظرة، ومحاولة إصلاح ذات البين، ثم لما حدث القتال لم يكن فيه إتباع المدبر، ولا الإجهاز على جريح.

وإذا لم تشفع لهؤلاء الإخوة أخوتهم الإيمانية فهلا شفع لهم "القانون" الذي تتمسك به "حماس" والذي هو سبب الخلاف بين الفريقين؟؟!!

وبعيدًا عن الروايات المتناقضة حول البادئ، وحول ملابسات مقتل الشيخ "عبد اللطيف" نفسه؛ فإن "حماس" لم تتصرف في هذه الواقعة كسلطة مسئولة عن حماية رعاياها حتى وإن شطحوا، وإلا فإن السلطات في كل بلاد الدنيا تمتلك من التكتيكات التي يمكنها بها أن تجبر مجموعة متحصنة داخل مبنى، وليس معهم رهائن من غيرهم على الاستسلام دون وقوع خسائر في الأرواح حتى لو بدأوا بالقتال فتوجد لدى السلطات وسائل قتالية وقائية تستنزف ذخيرتهم حتى تفنى، ولكنه الإفراط مرة أخرى؛ ولكنه في هذه المرة إفراط في استخدام القوة بدون سند شرعي ولا قانوني.

إن من أخطر الأمور التي تواجه الحركات الجهادية كـ"حماس" و"جند الله": وجود السلاح في اليد مما يغري باستخدامه في مواطن قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثلها: (فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ) (رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وصححه الألباني).

وأما ردود الفعل فكانت -إلا ما رحم ربي- إفراط في الحزبية، والعصبية، واتخاذ المواقف المبدئية بناء على درجة القرب أو البعد الفكري والتنظيمي عن كل طرف، وكأن المعلقين قد فاتهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).

فإلى حماس: طالما أنكم ممكنين في "غزة" فأقيموا شرع الله تنعموا في الدنيا والآخرة، ولا يضركم تخذيل المخذلين؛ (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)، فإن أبيتم إلا الترخص بما تظنونه رخصة في ترك تحكيم الشريعة رغم تمكنكم خشية من غضب هذا أو ذاك، فلا أقل من الرفق مع من "يخرج" عليكم ظنـًا منه أن هذا هو الواجب عليه، وتجنبوا دم المسلم فإن حرمته عند الله عظيمة، واعلموا أن دفع الصائل لا يجوز إلا بأهون ما يندفع به فإن تعدى ذلك فهو بغي في رد العدوان.

وأما هؤلاء الخارجون فنقول لهم: بقليل من التأمل في نصوص الشرع نجد أن الصبر مع استمرار الدعوة والبيان هو الواجب في مثل هذه الأحوال.

ونصيحة لمن بقى من جماعة "جند الله" بعد ما شاهدوا بأعينهم مقتل شيخهم وإخوانهم: أن هذا لا ينبغي أن يزيدهم إلا صبرًا؛ تقديمًا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولأنهم لا يستطيعون معرفة القاتل الحقيقي لإخوانهم، وهل بدأهم أم هم بدأوه ولا يغني هاهنا أن نقول إن فلانـًا يستحيل أن يقدم على كذا.. أو يكون هو البادئ بكذا...

وإن كانت النصيحة لحماس أيضًا: أن تبادر بكل شجاعة ومن منطلق مسئولية شرعية وقانونية -أن أبوا إلا الكلام عن القانون- بتحري الأمر ومعالجة آثاره؛ بدفع الديات، وتطبيق العقوبات، الشرعية على كل من يثبت تورطه في العدوان.

ولكل المعنيين بالشأن الإسلامي في العالم: ساهموا في إطفاء الفتن، وكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر.

نسأل الله -تعالى- أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها، وما بطن.

www.salafvoice.com