الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نفسية المستمع ...!

عندما أبدأ الاستماع إلى محاضرة أو قراءة موضوع من الموضوعات أقول لنفسي ما الهدف الذي أردت من أجله أن أقرأ هذا الكتاب أو أستمع إلى هذه المحاضرة؟فلابد من حضور القلب قبل حضور البدن ولابد أن أدقق النظر في النفسية التي أُقدم لها..فنفسية المستمع أو القارئ على إحدى صور ثلاث:

نفسية المستمع ...!
سعيد السواح
الثلاثاء ٢٣ نوفمبر ٢٠١٠ - ١٣:٤١ م
2729

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ..

فهذا الكلام أوجهه إلى نفسي أولاً قبل أن أتوجه به إليك كقارئ أو مستمع، فأقول لنفسي: عندما أبدأ في الاستماع إلى محاضرة أو قراءة في كتاب أو قراءة موضوع من الموضوعات، أقول: ما هو الهدف الذي أردت من أجله أن أقرأ هذا الكتاب أو أستمع إلى هذه المحاضرة؟ حيث لابد من الحضور القلبي قبل الحضور البدني، ولابد أن أدقق النظر في النفسية التي أُقدم من خلالها للاطلاع أو الاستماع، فنفسية المستمع  أو القارئ على إحدى صور ثلاث:

1- أستمع -أقرأ- للمعرفة: أي: لزيادة في رصيد المعلومات، والمعرفة بمعنى آخر: كثقافة وإلمام بهذا الأمر سواء كان دينيًا أو غيره، ولوجود الرغبة الكافية داخل نفسي ومحبتي لهذه الموضوعات "دينية كانت أو دنيوية".

2- أستمع -أقرأ- بكل جوارحي للجدال والنقد، فهذا يقرأ ويستمع بنفسية يحاول من خلالها إيجاد الثغرات التي سيجادل ويعارض من خلالها؛ لإبطال أو دفع ما يسمع أو يقرأ.

3- أستمع -أقرأ- وقد تهيأت جوارحي للتنفيذ، فأسمع بهذه النفسية؛ لكي أقف على ما هو المطلوب، وقد تهيأت تمامًا للتنفيذ الفوري.

وأنا وأنت أيها القارئ -المستمع- نقرأ -نسمع- وينطبق علينا ما قال الله -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:16-17).

فالكل قد استمع، والكل حضور في مجلس واحد، ويستمعون من معلم واحد! ترى ما هي النفسية التي جاءت بها الطائفة الأولى الذين حرموا الفهم؟!

فالحضور البدني موجود، ولكن الحضور القلبي ما زال معلقًا لم يزل عليه القفل الحاجز والمانع من الاستيعاب والفهم.

الله يعلمنا ويرشدنا، ما هي النفسية التي نستمع -نقرأ- من خلالها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال:20-24).

انظر إلى ما بين النداءين.. فالنداء الأول: ينبهنا على وجوب طاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما، ويحذرنا من التولي والإعراض بعد ما سمعنا ما هو المطلوب، وبعد ما تليت علينا من آيات ربنا، فعرفنا ما وصانا الله به وما أمرنا به وما نهانا عنه، وحذرنا الله -تعالى- أن نتشبه بهؤلاء الذين اكتفوا بأنهم سمعوا سماع إدراك لم يتعد الأذان وقلوبهم مغلقة، ما زال عليها القفل، فلم تدخل المعاني إلى نفوسهم وقلوبهم، فكانت منهم الدعوى الخالية التي لا حقيقة لها، وهؤلاء هم شر الدواب.

ولم يكتف ويقف الوعظ عند ذلك، بل بيَّن الاتجاه الصحيح وما يراد من الاستماع؛ ألا وهو الإجابة، فكان النداء الثاني الذي بيِّن لنا أن الغرض من الاستماع إلى آيات الرحمن: السمع والطاعة، وإجابة الداعي.

- نفسية الجن عندما استمعوا إلى كلام الله -تعالى-، عندما كان يقرؤوه النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الصبح: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا . وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) (الجن:1-3).

لقد تعلمنا من الجن كيف نستمع.. فكان هذا هو معيار الاستماع، هؤلاء الذين صرفهم الله -تعالى- إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليستمعوا إلى قراءته وتلاوته التي كان يتلوها في صلاة الصبح، وهذه هي نفسية الباحث عن الحق، والحقيقة فإنه يبحث بكل كيانه وجوارحه؛ ولذا قال الله عنهم: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) (الجن:13).

وإليك هذه الآيات التي تصف لنا كيف تهيؤوا للاستماع فكان حضور القلب قبل استماع الأذن: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ . يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأحقاف:29-32)، فانظر إلى هذا الأثر الظاهر على سلوكهم بعد ما سمعوا ووعوا وفهموا المعاني والدلالات.

نفسية من سعى وبحث للوصول إلى الحق:

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ . فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:82-85).

فتراهم عندهم معيار للحق، فإذا وصل إلى مسمعهم آيات الرحمن علموا مباشرة أنه الحق وذلك من خلال الميزان الذي أقاموه في نفوسهم وقلوبهم.

فنقول: ماذا بعد السماع؟!

هل نقف عند الوصول للمفهوم الصحيح وانتهى الأمر، نقول: نحن نتعلم ونستمع ونقرأ؛ لكي نقف عند المدلول الصحيح لكي ننطلق إلى العمل والتنفيذ؛ لأن صحة العمل موقوفة على صحة الفهم.

النفسية التي يستمع بها المؤمن:

(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا . قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا . وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعً) (الإسراء:106-109)، فعمل الظاهر يدل على أن السماع كان صحيحًا.

النفسية التي يستمع بها العقلاء "نفسية أولي الألباب":

(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمرن:193-194). فهم استمعوا سماع المستجيب لما تدعوه إليه الآيات؛ ولذا ترى علاقة الاستجابة متمثلة في الأعمال الصالحة واللجوء إلى الله -تعالى- بالدعاء وطلب المغفرة، (فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:17-18)، فهم استمعوا إلى آيات الرحمن وأعقبوا ذلك بالعمل من خلال ما دلت عليه الآيات.

نفسية المنشغل بالمطالب الدنيوية:

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (الأنبياء:1-3). فهذا المنشغل يستمع سماع إدراك فقد وصل الكلام إلى أذنيه، ولكن انشغال القلب ما ترك له فرصة للتدبر والفكر، فكان الحضور البدني، أما الحضور الروحي فهذا مفقود؛ فالقلب منشغل مغلق غير يقظان.

نفسية المجادل:

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال:31). فهذا المجادل يسمع، ولكن ليست بنفسية المستمع المستجيب الذي يبحث عن الحق، وعن طريق النجاة، ولكن بنفسية الكاره للحق فهو لم يرغب من استماعه الوصول إلى الحق، ولكن قضيته في السعي لإبطال الحق.

نفسية المستكبر:

فهذا المستكبر يستمع، ولكنه ليس بباحث عن الحق، ولكن بنفسية المتعالي عن الحق المتعاظم في نفسه: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الجاثية:7-8).

النفسية التي كانت الصحابة -رضي الله عنهم- يستمعون بها:

فلقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- عندما يستمعون إلى كلام ربهم، يستمعون إليه وقد هيئوا تمامًا للاستقبال والتنفيذ الفوري، فكانت الآذان تستمع ثم تنقل هذا المسموع على الفور وفي نفس اللحظة إلى قلوبهم؛ ليترجم ذلك المسموع، ويظهر في صورة التطبيق الفوري بلا تأخير، يتمثلون في ذلك قول الله -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف:204)، (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة:15)، فكانت هذه الآية هي القاعدة التي يتعاملون من خلالها مع آيات ربهم.

وإليك هذه القصة:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).

قَالَ: (نَعَمْ).

(رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).

قَالَ: (نَعَمْ).

(رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ).

قَالَ: (نَعَمْ).

(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

قَالَ: (نَعَمْ) (رواه مسلم).

فهل رأيت كيف فهم الصحابة -رضي الله عنهم- الآيات؛ فاندفعوا عندها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشتكون ضيقهم، وأن مدلول الآية لو طبق؛ لهلكوا!

ثم انظر إلى تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة، وتربيتهم على تصحيح النفسية التي يستمعون بها، فلا تكن كحال نفسية اليهود والنصارى الذين يستمعون بنفسية المتولي والمعرض، ولكن نفسية المؤمن؛ نفسية المستمع المستجيب.

وانظر إلى نفسية الصحابة -رضي الله عنهم- لما سمعوا ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فقالوا على فورهم بلا تردد ولا تباطؤ: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ".

نفسية أنس بن مالك -رضي الله عنه-:

فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلاثًا وَيَقُولُ: (إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ). قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلاثًا. (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).

نفسية الصحابة -رضي الله عنهم-:

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: اتَّخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) فَنَبَذَهُ وَقَالَ: (إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) (رواه البخاري).

نفسية ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-:

(عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:1-10)، فالله -تعالى- يخبر عن نفسية ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-، لماذا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ جاء قاصدًا ليهتدي بما سيقوله له النبي -صلى الله عليه وسلم-، جاء بنفسية الباحث عن الحق المستمع المستجيب.

فما هي النفسية التي تهيأت من خلالها للاستماع أو القراءة؟

ينبغي أن تربي في نفسك هذه النفسية التي تسمع بها، فلك قبل أن تشرع في القراءة أو الاستماع أن تدقق النظر في نفسيتك التي ستسمع بها، وأن تعيد النظر مرة من بعد مرة حتى ترى التهيؤ الكامل؛ أنني أسمع لكي أجيب وأنفذ.

وإليك بعض التجارب التي تظهر لك نفسيتك التي تسمع بها:

فلتكن هذه الآية هي منطلقنا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21). فأذكر لك بعض سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي في حقيقتها ميسورة للجميع، ولكن من خلالها تستطيع أن تقيس نفسيتك التي تستمع بها.

1- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، فما حالك أنت مع السواك؟ هل أحسست في جيبك ترى مكان السواك فيه أم أين فقدت سواكك؟

وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ.. ). قَالَ: فَكَانَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِى الْمَسْجِدِ وَسِوَاكُهُ عَلَى أُذُنِهِ مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ لاَ يَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ إِلاَّ اسْتَنَّ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

2- في لبس النعال: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى وَإِذَا خَلَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا) (رواه مسلم).

فما هي النفسية التي تلقيت بها هذه الرواية؟ هل اعتمدت هذه الرواية في حياتك فأصبحت لا تخطئ في التنفيذ؟ وماذا عليك لو دخلت المسجد؟ فالمطلوب الدخول للمسجد بتقديم اليمنى، وفي المقابل خلع النعال ابتداءً بالشمال. فهل فكرت كيف توفق بين هذين الأمرين؟!

3- في الذكر والدعاء: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) (متفق عليه).

فما هي النفسية التي تلقيت بها هذه الرواية المشهورة المعروفة؟! ماذا لو نظرت إلى مفكرتك اليومية؟! هل ترى سأجد هذا الذكر من ضمن أذكارك اليومية؟! وإن وجدته، فكم عدد المرات الذي تكرر فيه هذا الذكر يوميًا؟!

فما قصدت بهذه الأمثلة إلا إظهار نفسيتك التي استمعت بها لهذه الروايات المشهورة التي ما أظن أنها تخفى على أي مسلم، فهل وقفت الآن على نفسيتك عند الاستماع.. ماذا بعد؟!

salafvoice

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً