الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

طريقة أهل الكفر والعناد في معارضة الأنبياء وأتباعهم (1)

وفي هذه المقالات نعرض لبعض صور هذه العداوة وطرائقها التي تفننوا فيها عبر العصور وكر الدهور، ونرى كيف أن الكفر كله ملة واحدة، وأن المجرمين الأواخر ما زالوا على نهج الأوائل ، ونرى كيف جلَّى الله طريق الحق ،وكيف بيَّن لنا طريق المعاندين

طريقة أهل الكفر والعناد في معارضة الأنبياء وأتباعهم (1)
علاء عبد الهادي
السبت ١١ ديسمبر ٢٠١٠ - ١٥:٣١ م
2287

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فطريق الهدى والإيمان قديم قدم الحق، وطرق الكفر والنفاق قديمة قدم الباطل، وأهلهما سائرون على هذه أو تلك (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء:84)، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيمًا) (النساء:175)؛ ولأن هؤلاء المؤمنين هم أتباع الأنبياء، والأنبياء أبناء لعلات دين واحد وشرائع شتى؛ تجد أن الله -تعالى- خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين، وأمرهم أن يسيروا على دربهم ويعتبروا بسِيَرهم؛ لذلك لما سمع المؤمنون قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام:90)، قالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).

ولما قرؤوا قوله -تعالى-: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87)؛ علموا يقينًا أنهم مصيبهم لا محالة بعض ما أصاب هؤلاء الأنبياء فأشد الناس بلاء (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ولما (قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)، هؤلاء هم المؤمنون وهذا هو دأبهم، على الحق ثابتون وفي طريقه سائرون (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).

وأما الكافرون وإخوانهم المنافقون؛ فعلى اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم كانوا دائمًا على الجانب الآخر قد (شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال:13)، (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء:5)، فحاربوا المؤمنين واضطهدوهم، وما تركوا سبيلاً للصد والتكذيب إلا سلكوه (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات:52-53)، وما تركوا صورة للعداوة والإجرام إلا وقد أتوها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31)، ولجوا في الفُجر والخصومة (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (غافر:5).

وفي هذه المقالات نعرض لبعض صور هذه العداوة وطرائقها التي تفننوا فيها عبر العصور وكر الدهور، ونرى كيف أن الكفر كله ملة واحدة، وأن المجرمين الأواخر ما زالوا على نهج الأوائل (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً) (المائدة:33)، ونرى سويًا كيف جلَّى الله طريق الحق ووصف الثابتين عليه، وكيف بيَّن لنا طريق المعاندين وأوضح لنا صفاتهم المميزة وعلاماتهم المبينة.

وسنتكلم أولاً -إن شاء الله- عن الطريقة التي رأى بها هؤلاء الكافرون الإيمان والمؤمنين وحكمهم عليهم.

1- كيف قابل الكافرون دعوة الإيمان:

إن لكل سلوك فكرًا حثَّ عليه، ولكل بلية أصلا أدى إليها، فيا ترى ما أصل بلية الكافرين التي أصيبوا بها حتى يعاندوا ويكابروا رسل الله الذين جاءوا (مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا) (النساء:165)؟! وما السبب وراء كل هذه العداوة والتي واجهوا بها أنبياء الله ورسله وتابعيهم وما زالوا؟!

فأصل ذلك -والله أعلم-: "خراب العقيدة وفساد القلوب": فالكافرون موصوفون في كتاب الله بأنهم ضالون مضلون، فاسدون مفسدون، جاهلون لا يعقلون ولا يعلمون، ولا ينتفعون بالذكرى؛ أما ضلالهم فعبادتهم غير الله بعد أن خلقهم (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لقمان:11)، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54).

ومن ضلالهم كذلك: شركهم بالله بعد ما تبين لهم الحق (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22)، (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) (محمد:3).

ومن ضلالهم أنهم: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146).

ومن ضلالهم كذلك: أنهم حريصون على إضلال غيرهم بشتى الطرق (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيرًا) (النساء:89).

وأما فساد أعمالهم وأخلاقهم فنابع من فساد عقيدتهم وانتكاس تصوراتهم، فأهل الكتاب مثلاً تراهم: (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (آل عمران:23).

ولئن سألت: ما السبب في هذا الإعراض؟! تأتك الإجابة بأنهم قد فسدت تصوراتهم وعقيدتهم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (آل عمران: 24)، (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً) (آل عمرن:75)، ما السبب أيضًا؟ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمرن:75)؛ لذلك عوقبوا بأن (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (آل عمران:112).

ولم يكتفوا بفساد أنفسهم، بل راحوا يحاولون إفساد غيرهم أسوة بزعيمهم إبليس الذي (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا) (الإسراء:62)؛ لذلك فهم إذا أُمروا بالمعروف وإذا نُهوا عن المنكر (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12)، وهؤلاء حكم فيهم ربنا وقال: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل:88).

فبعد ذلك ماذا تنتظر من مثل هؤلاء إلا الضلالة والجهالة: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46).

وأنى لهؤلاء أن يكون لهم سمع أو أبصار أو أفئدة ينتفعون بها: (سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ . وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:177-179)؟!

أم كيف بعد ذلك تنتظر منهم إلا كل فعل مقيت وصفة مذمومة ونعت مخزٍ؟! فلا تتبعهم أيها المؤمن ولا تطعهم: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (القلم:10-15)، و(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ . نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ . فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (الهمزة).

ومن ضلالهم أنهم:

 يسوون الكفر بالإيمان:

جاء الأنبياء إلى الناس بدعوة التوحيد وإفراد الله بالعبادة (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل:36)، وإنما فعلوا ذلك بأمر الله ليردوا البشر إلى الطريق المستقيم الذي أمروا بلزومه، ويجمعوهم عليه بعد تفرقهم في السبل المعوجة، قائلين لكل مكلف: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ) (يونس:106).

وجاءوهم بكل آية بينة وحجة دامغة، فما كان من أولئك الكافرين إلا أن قابلوا دعوة الحق هذه بالصد والجحود والتكذيب (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (فاطر:25)، ذلك أنهم قد انتكست فطرتهم، وأظلمت قلوبهم، وأشربوا فيها الجحود والكفران (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) (النحل:108).

وقد بلغت بهم الغفلة أن يروا أنهم على الصواب وأن دينهم الباطل يستوي مع دين الله الحق (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1)، فسووا بين الخالق -سبحانه- وبين خلقه، ولك أن تعجب كيف انقلبت فطرهم على هذا النحو (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل:60)، (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) (البقرة:165).

ثم ازداد هؤلاء الضلال كفرا (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (فصلت:17)، ونتاجَ عقولهم السقيمة على منهج الأنبياء المعصومين، والفكرَ البشريَ القاصرَ على الوحي الرباني الكامل، ومذاهبَ أساتذتهم في الضلال على طريقة المهتدين أتباع الأنبياء، وها هم (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (النساء:51)، فمالوا لإخوانهم من أهل الكفر ونقموا على أهل الإيمان، فلا تحزن أيها المهتدي (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:95-99).

وجراء ذلك تجدهم:

يزكون أنفسهم ويحقرون أهل الإيمان!

أفرأيت أيها الغريب أضلَّ من إنسان أخرق ينسب الحمق إلى غيره؟! أو فاسد يتهم بدائه الصالحين؟! أو وضيع يرمي الشرفاء بما هم منه براء؟!

فهذا هو حال القوم حينما يأتيهم النذير: (قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ) (الأعراف:66)، فرموهم بالسفاهة وهي بهم أليق، وبالكذب وهو بهم ألصق، وقديمًا قال فرعون -مضرب المثل في الظلم والفساد- في موسى -عليه السلام-، -مضرب المثل في الصلاح والقوة والأمانة-: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26)؛ فهو إذن الكبر الذي هو: (بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ) (رواه مسلم)، ورؤية النفس واستعظامها حتى يُختم على القلوب.

وهو إذن الكبر الذي حمل الكافرين على أن يقولوا: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) استصغارًا لشانهم، واحتقارًا لحالهم؛ فرد الله عليهم: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام:53)، (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، فتكفل الله بإجابتهم أيضًا: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيمًا) (النساء:54).

كذلك حينما ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي يحملهم كبرهم على أن يقولوا: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)، وقد توعدهم الله بقوله: (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ) (القمر:26)، وكان أجدر بهم أن يتبعوا الحق مجردًا بغض النظر عمن جاء به، فما بالك وقد جاءهم كريمُ الأخلاق، وافرُ العقل، معه الآيات البينات: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً . وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً . قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً) (مريم:73-75).

وهذا القدر من التهم الباطلة لم ينل الأنبياء فحسب، ولكن نال ورثتهم أيضًا، بل لقد كانت استجابة هؤلاء الأتباع في نظر المجرمين انتقاصًا من قدر الأنبياء وقدحًا في دعوتهم، فقالوا: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ) (الشعراء:111)، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (الأحقاف:11)، إذ الإيمان في عرفهم تخلُّف وضلالة، والمؤمنون في حكمهم: إما سفهاء أغرار، وإما رجعيون ظلاميون!

وعلى النقيض: رأوا في أنفسهم ومَن على شاكلتهم إصلاحًا وتنويرًا، وظنوا في أنفسهم استحقاقًا لتبوء منزلة النخبة القائدة الموجهة وأن مَن سواهم عليه أن يتبعهم (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس:35)، (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ . وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ) (فاطر:19-22)، وماذا جنى هؤلاء الأبرار حتى يستصغر شأنهم المجرمون؟ (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ) (المطففين:32)، (وإذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) (البقرة:13)، ولكن الله -سبحانه- رد التهمة عن عباده المؤمنين، فقال عن هؤلاء الأدعياء: (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13).

ومِن أجل ذلك تجدهم:

 ينسبون كل شر وفساد إلى المؤمنين:

فالمؤمنون -بزعمهم- أصل كل مصيبة تحل بالبلاد والعباد، وهم كذلك -أي المؤمنون- بضعف عقولهم وفساد رأيهم وتصرفاتهم قد استجلبوا أنواع الشؤم والفساد، لم يخل نبي إلا اتهموه بذلك حتى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء:78).

ومن قبله أخوه موسى -عليه السلام-: (فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأعراف:131).

ومن قبله صالح -عليه السلام-: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (النمل:47).

وأصحاب يس قالوا لرسلهم: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (يس:18-19).

وكذلك ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في علامات قرب الساعة أنه يؤتمن الخائن ويخون الأمين، ويوسد الأمر إلى غير أهله، إذ المستأهلون له حقًا بلغة ذلك العصر هم الضالون السفهاء أصحاب الشر والفساد.. (أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل:59).

فيا للإسلام وغربته.. ويا للحق وأهله... اللهم انصر دينك وجندك وعبادك الصالحين.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وللحديث بقية -إن شاء الله-..

salafvoice