الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

احقنوا الدماء

كان في الجَعْبة الكثيرُ مِن المُناشدات ولكن يَمنع مِن الإدلاء بها دماؤهم الزَّكِيَّةُ التي سالتْ وجِراحاتُهم العَطِرةُ التي ما زالت طَرِيَّةً. ولذلك فإننا الآن نرى أنَّ نقطةَ البداية للخروج مِن الوَرطة هو بذلُ كل الجهود الممكنة في الدِّفاع عنهم، ومِن أَهَمِّها استبسالُ الجَيش في...

احقنوا الدماء
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٠٤ فبراير ٢٠١١ - ١٠:٤٦ ص
5577


دَعَتْ أطياف كثيرة مِن الشعب المصري إلى التظاهر ضد مظاهر الفساد المنتشر في كثير مِن الجوانب؛ مِن أَهَمِّها: الحُرِّيَّات، وتوزيع الثروة، والضمان الاجتماعي. وانضم إليهم بعضُ الإسلاميِّينَ الذين فَضَّلُوا عدمَ إدراج تطبيق الشريعة على قائمة المطالب حتى لا تُرفَضَ المطالبُ بأَسْرها، وهو أمرٌ كان كفيلاً بجعل ميزان المصالح والمفاسد مِن وجهة نظر الدعوة يميل إلى غلبة المفسدة؛ لأنه طالما استُبعِدَ هذا المطلبُ فكُلُّ تَحَسُّنٍ بعدَه لن يربوَ على المفاسد التي كانت متوقعةً وصارت الآن واقعة.


وعلى أَيٍّ مضى كُلُّ فريق في طريقه الذي اختطَّه لنفسه، وقد عَلَّمَتْنا التجاربُ أنَّ استهلاكَ طاقة الإسلاميين في المِراء لا يحل الخلافَ وإنما يَزيد الشقاقَ؛ فأعرضتْ الدعوةُ عن اجترار كلامٍ طالما رَدَّدْناه.

والعلاقة بين الدعوة وأبنائِها قائمةٌ على مَرجعيَّة الدليل في الأمور الشرعية، وعلى الثقة في المشايخ في الأمور الواقعية، لا سيما تلك التي يحتاج وزنُها إلى تقديراتِ القُوَى المتصارِعة. راجع مقالة "المشاركة السياسية ومَوَازين القوى".

ومِن ثَمَّ فقد شَدَّدَتْ الدعوةُ في النصيحة على مَن يَثق في قياس شيوخها للأمور -والتي تتلخص في أنها ترى مفاسدَ المظاهرات في هذه الحالة أكبر- ولم تتعرَّضْ بياناتُ الدعوة للآخَرِينَ بنقد، وإنما بَيَّنَتْ ما تراه قياسًا شرعيًّا للأمور.

وقامتْ المظاهراتُ تحت لافتات عَالَمانية في أول الأمر؛ و هذا سببٌ آخَرُ مِن أسباب الامتناع عنها عِندَنا.


وكانت المفاجأة بالانهيار المفاجئ لجهاز الشرطة!

ومِن ثَمَّ فُتِح لإخواننا بابٌ عظيمٌ مِن أبواب الخير؛ وهو المشاركة في حفظ الأمن الداخلي، والمساهمةُ في التصدِّي للمجرمين، ومحاولةُ منعِ تدهور الأسعار وتعويضِ غياب مِرفَق النظافة.

وتسارعتْ وَتيرةُ الأحداث بصورة أَدَّتْ إلى رفع سقف مطالب المتظاهرِينَ إلى تَنَحِّي النِّظام بكامله.

ونتيجة للمُطالَبة المستمِرَّة مِن المتظاهرِينَ قبلَ غيرِهم أنْ نعرضَ مطالبَنا؛ فقد عرضتْ الدعوةُ مطالبَها الثابتةَ مِن تطبيق الشرع بصفة عامَّة، وضَمَّنَتْه نفسَ مطالِبِ المتظاهرِينَ؛ والتي نراها عادلةً ونعاني مِن غيابها مع -وربما قبلَ- غيرِنا! وإنْ كُنَّا دائمًا ما نؤخرها أو نهملها في خطابنا لأسباب يمكن أنْ تجدَها في مقالة "السياسة ما نأتي منها وما نَذَر".

وتَضَمَّنَ بيانُ الدعوة فقرةً عن الصَّفْح عن قوَّات الشُّرطة التي كانت قد بدأتْ في العودة إلى ممارسة عملها لا سيما في مَجَالَي الأمن العام والمُرور، وهي مجالاتٌ تُوافِق المقاصدَ العامَّةَ للشرع، وحاجةُ الناس إليها ماسَّة، لا سيما مع ما كان متوقَّعًا مِن ترشيد عمل هذه الجهات.

وما أَيْسَرَ أنْ يَرتديَ المرءُ ثوبَ البُطولة! وما أَلَذَّ أنْ يَتركَ الإنسانُ نفسَه مع لَذَّة الانتقام! ولكنَّ المصلحةَ العامَّةَ للأُمَّة تقتضي تمكينَ جهاز الأمن مِن القيام بدَوره، لا سيما مع الإرهاق الذي أصاب الإخوةَ في حفظ الأمن، والخوفِ مِن بعض العناصر التي تشارك في مهمة حفظ الأمن بينما لها مآرِبُ أخرى.

وحدثتْ استجابةٌ في خِطاب الرئيس قد تكون في ضوء المعطيات مقبولةً وتُحَقِّقُ أقصى المتاح؛ طالما أنَّ المشاركِينَ في المظاهرات قد خرجوا للحصول على القَدْر المتاح، وإلا فقد استَبعَدَ الإسلاميُّون منهم أَهَمَّ مَطالِبِهم كما أسلفنا.

وبينما كانت الفرصةُ سانحةً لتوجيه نداءٍ إلى المتظاهرِينَ -لا سيما الإسلاميِّين منهم- أنْ يَرضَوْا بما وُعِدُوا به مِن وُعودٍ حَقْنًا للدِّماء وتخفيفًا لحِدَّة مُعاناة البُسَطاء الذين نَفِدَ صبرُ بعضهم أو كاد في جميع ربوع مصر؛ إذا بهجوم بَرْبَرِيٍّ أحمق نفذتْه مجموعةٌ إرهابية غاشمة على المتظاهرِينَ العُزَّل! لتَسقطَ الضحايا وتتناثرَ الأشلاءُ ويَشعرَ المتظاهرون بالخيانة والمرارة والأسى على مُجتمَعٍ خَرَجوا مِن أجله فلَفَظَهم وتَرَكَهم لمجموعة اللصوص الذين أرادوا أنْ يُطهِّروا المُجتمَعَ منهم بأنْ يقتلوهم بدَمٍ بارد.

ويا ليت الأمرَ يقف عند هذا الحَدِّ؛ حيث يرى المتظاهرون أنَّ النِّظام ربما يُقدِّم وُعودًا بِيَدٍ بينما يُطلِق الرصاصَ بالأخرى.


ومِن ثَمَّ فقد أصبح المتظاهرون في حالةٍ تجعل مُطالَبتَهم بضبط النَّفْس هو سقفَ المَطالِب التي يمكن أنْ يَجرؤَ أيُّ أَحَدٍ على خطابهم بها، وفي حدود عِلمنا أنهم ما زالوا صابرِينَ مُحتَسِبِينَ يَضبطون أنفسَهم ويُعالِجون جَرحَى مُجرمي الهجوم عليهم بأنفسهم.

فنسأل الله أنْ يَتقبلَ موتاهم في الشهداء، وأنْ يَشفيَ جَرحاهم، وأنْ يُلقيَ عليهم السَّكنيةَ، وأنْ يُوفِّقَهم إلى حُسن قراءة الأحداث والخروجِ مِن الموقف بأقلِّ الخسائر وأكبرِ الغنائم.


وإذا كان طَيْفُ المتظاهرِينَ الآن قد سَيطر عليه الشبابُ الشاعرُ بمَرارة الظلم مِن عموم الشعب ومِن الإسلاميِّينَ؛ فإننا ما زِلنا نُحذِّر مِن القِلَّة المُحَرِّضة التي تَقيس المصالحَ والمفاسدَ وَفق أجندة خارجية، ونُذكِّرهم أنهم خَرَجوا لتحقيق المُتاح مِن إصلاحٍ مِن المَنظور الشَّرعيِّ لا العَالَمانيِّ.


كان في الجَعْبة الكثيرُ مِن المُناشدات ولكن يَمنع مِن الإدلاء بها دماؤهم الزَّكِيَّةُ التي سالتْ وجِراحاتُهم العَطِرةُ التي ما زالت طَرِيَّةً.

ولذلك فإننا الآن نرى أنَّ نقطةَ البداية للخروج مِن الوَرطة هو بذلُ كل الجهود الممكنة في الدِّفاع عنهم، ومِن أَهَمِّها استبسالُ الجَيش في الدِّفاع عن هؤلاء المتظاهرِينَ.

وإذا كان الجيش يرى أنه يجب أنْ يقفَ على الحِياد بين المتظاهرِينَ؛ فإنَّ هذا لا يَنسحبُ بالطَّبْع على البَلْطجيةِ والمُجرِمِينَ.


إنَّ كَسْبَ ثقةِ هؤلاء المتظاهرِينَ -خاصَّة بعدما رَوَّعَتْهم أحداثُ الأربعاء الدامي- وإعطاءَهم الأمانَ على مكاسبهم أَوَّلاً ثُمَّ على أنفسهم الآنَ ومُستقبَلاً ثانيًا؛ هي قضيةٌ تحتاج إلى تكاتُفٍ مُجتمَعِيٍّ للبحث عن مثل هذه الضمانات.

نريد مِن كل صاحب قرار أنْ يَنزلَ إليهم ويُحاوِرَهم ويَسألَهم ويُجيبَهم.


وحتى يَتم ذلك ننصح الجميعَ باللجوء إلى الدعاء، والقنوتِ في الصلوات، والفَزَعِ إلى قيام الليل، وتَجَنُّبِ الجِدال العَقيم الذي يُعمِّق الخلافات بين المسلمِينَ في وقت نحتاج فيه إلى سلامة الصَّدْر أكثر مِن أيِّ وقت مضى.

كما نَحُثُّ الإخوةَ على الاستمرار في دَورهم في حفظ الأمن الداخلي بكافة صُوَره.

وعلينا جميعًا أنْ نهرعَ إلى التوبة والاستغفار، واستثمارُ ساعة الإجابة في يوم الجمعة.


وَفَّقَنَا اللهُ إلى ما يُحِبُّ ويَرضى.