الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

حاجتنا إلى الكفاءة والإبداع الإداري

ومن النماذج على جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين "الكفاءة والقوة التقنية" و"الكفاءة والقوة الإدارية": ما فعله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب...

حاجتنا إلى الكفاءة والإبداع الإداري
أحمد شكري
السبت ٠١ أكتوبر ٢٠١١ - ١٨:٢٨ م
3480

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ميز معظم الباحثين بين نوعين من الإبداع هما: اﻹبداع الفني الذي يشمل تغيرات في التقنيات التي تستخدمها المنظمة، والإبداع اﻹداريالذي يتضمن الإجراءات والأدوار، والبنـاء التنظيمـي والقواعد، وإعادة تصميم العمل بالإضافة إلى النشاطات اﻹبداعية التـي تهـدف إلـى تحـسين العلاقات بين اﻷفراد، والتفاعل فيما بينهم بغية الوصول إلى تحقيـق اﻷهـداف المعنيـة بهـا المنظمة.

ومِن الأمثلة على الإبداع أو ما يمكن أن نسميه بـ"الكفاءة والتجديد" في الدعوة إلى الله -تعالى-: سيرة سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، فقد ابتكر وسائل متنوعة لهداية قومه إلى التوحيد عندما لجأ إلى تكسير الأصنام وترك لهم الصنم الأكبر؛ ليحتج عليهم به، وأنه لو كان يسمع أو يبصر لعرف مَن الذي كسر بقية الأصنام.

ولئن كان إبراهيم -عليه السلام- قد ضرب المثل في "الكفاءة التقنية"، فلقد ضرب حفيده يوسف -عليه السلام- المثل في "الكفاءة الإدارية" حيث قال لعزيز مصر: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(يوسف:55)، فما أروع هذا النظام الإداري الذي مكنه من أن يقوم بتخزين الغلال سبعة أعوام متتالية ثم ينتفع بها لمدة سبعة أعوام كاملة، هذا ما قد لا تحسنه أكثر الحكومات الحديثة تقدمًا.

وفي قصة يوسف -عليه السلام- ملمح مهم في بيان أهمية الجمع بين "الكفاءة الإدارية" و"الكفاءة التقنية"، وذلك أن مظهر "الكفاءة التقنية" قوله: (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ(يوسف:47) لكنه علم أن هذه الفكرة الفنية الممتازة لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع إلا في ظل وجود مدير كفء يستطيع ترتيب الصوامع والدواوين، وتخصيص حصص خاصة لا تتعداها كل أسرة، وتحديد المكاييل مما يشعر به سياق القصة التي فيها قوله: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ(يوسف:59) مما يوحي أنه كان يخصص لكل أسرة مقدارًا محددًا من الغلال، وكذلك قوله: (صُوَاعَ الْمَلِكِ(يوسف:72)، مما يوحي بأنه كان يحدد مكيالاً واحدًا، وأن هناك خطة واضحة لتوزيع الغلال.

الشاهد أن يوسف -عليه السلام- لما علم أن مجرد طرحه لفكرته العظيمة في حفظ الغلال لا يكفي في حماية الناس من الهلاك بالمجاعة؛ لأن أهل "مصر" في هذا الوقت لم يكن لديهم المدير الكفء القادر على تحقيق هذه الفكرة في الواقع، فلم يكتف بمجرد طرح الفكرة والتعويل على جودتها، بل طلب الإمارة؛ لعلمه أن "الكفاءة الفنية" لا تغني عن "الكفاءة الإدارية".

وقد قصَّ الله علينا في القرآن الكريم قصة أخرى تدل على ضرورة الجمع بين "الكفاءة التقنية" و"الكفاءة الإدارية"، وهي قصة ذي القرنين، فهو حين أراد بناء السد؛ لم يبنه بالوسائل المتعارف عليها في البناء من الحجارة وما شابهها، بل ابتكر طريقة لم تكن منتشرة في ذلك الوقت، بل ذكر بعض الباحثين أن "ذا القرنين" هو أول من استخدم السبائك، وذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي قوله -تعالى-: (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(الكهف:96) في ضمن آيات الإعجاز العلمي بما لا يناسب المقام ذكره.

الشاهد أن "ذا القرنين" لم يكتفِ بـالتقنية و"الكفاءة الفنية"، بل لم ينجح إلا حين ضم إليه "الكفاءة الإدارية"، فقد نجح في توظيف الطاقات (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ(الكهف:95)، ونظم العمل وقسمه إلى مراحل في كل مرحلة مهام خاصة بما توحي به لفظة: (حَتَّى إِذَا)(الكهف:96) التي تكررت بين مراحل إنجاز العمل: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(الكهف:96).

وسجل الله -تعالى- نجاحه في إنجاز المهمة، فقال: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(الكهف:97)، ورغم اتباع ذو القرنين للأسباب، إلا أنه نسب الفضل لله -تعالى-، وهذا أول أسباب التوفيق (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي(الكهف:98).

والمتتبع لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ يجد أرقى صور "الكفاءة والقوة الإدارية" حيث كانت نشأة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين العرب المعروفين بالتفرق والتشرذم، فنجح أن يخرج منهم أقوى الدول نظامًا، ومهد لأن تتبوأ مكان الصدارة وترث مكانة "فارس" و"الروم" في آن واحد.

ومن النماذج على جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين "الكفاءة والقوة التقنية" و"الكفاءة والقوة الإدارية": ما فعله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة "الأحزاب"، ففكرة حفر الخندق أصلاً هي "فكرة فنية"، فهي وسيلة جديدة مبتكرة لم تكن العرب تستخدمها في حروبها، لكن لم يكن لهذه الفكرة أن تؤتي ثمارها إلا في ظل "الكفاءة والقوة الإدارية" الذي كان يتمتع بها النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وهذه أهم مسئوليات الإدارة، وهي تعتمد على توفير المعلومات، وتحديد قنوات سالكة؛ لانتقالها بسهولة، وفتح باب الاستفادة منها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على أن تتوفر لديه المعلومات، وبذلك كانت المعلومة بتجهيز قريش وغطفان لغزو "المدينة" متوفرة، بل معها تفاصيل بعدد الجيش والموعد المتوقع لقدومه، ثم فتح باب المشورة مما أتاح له فرصة الاستفادة من خبرة "سلمان" -رضي الله عنه- بحروب فارس.

وكذلك من أهم مقومات "الكفاءة والقوة الإدارية": الاستعداد لتحمل المخاطرة؛ وإلا فكل فكرة لها تكاليفها، وهنا يبرز دور القائد الكفء الذي يتميز بالخبرة العالية الممزوجة بنوع من الحدس الصادق، فيسمح بتطبيق الأفكار ذات الكفاءة والقوة الإدارية، وهو يشعر بأن نتائجها ستعوضه عما بذله من تكاليف؛ وإلا فالإحجام يحسنه كل أحد، وكذلك التهور والمجازفة، لكن القائد صاحب الكفاءة والقوة الإدارية هو من يقدم على أنواع من المخاطرة المدروسة.

وهنا تكمن أهمية الخبرة في الإدارة؛ حيث إن الفكرة الإبداعية فكرة جديدة على الجميع، وبطبيعة الحال لن يكون لأحد خبرة بها، لكن القائد المبدع لابد أن يكون له من التجارب المشابهة أو القريبة الشبه بالفكرة ما يجعله يُخَمِّن بدرجة عالية من الإصابة مدى جدوى هذه الفكرة.

وإذا تخيلنا إمكانية فشل الصحابة -رضوان الله عليهم- في إتمام حفر الخندق قبل قدوم الأحزاب؛ خصوصًا مع قلة العدد، وشدة البرد، ونقص الغذاء، وضخامة العمل -"فقد جاء في كتاب: أطلس السيرة النبوية ـ للدكتورشوقي أبو خليل: أن طول الخندق كان خمسة آلاف وخمس مائة وأربعة وأربعين مترًا ـ5544ـ ومتوسط عرضه أربعة أمتار فاصلة اثنين وستين ـ4.62ـ، ومتوسط عمقه ثلاثة أمتار فاصلة ثلاثة وعشرين ـ3.23 والله أعلم"-.

إذا تخيلنا أن الخندق لم يكتمل حفره تحت أي ظرف من الظروف؛ لكان معنى ذلك أن كل مجهودات الصحابة في الحفر قد ضاعت سدى، ثم إنهم قد ضاعت عليهم الفرصة في الاستعداد للمعركة بالصورة التقليدية فتكون الخسارة من جهتين.

وهنا يكمن الدور الإداري للنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قسَّم الصحابة إلى فرق، ووزع الأدوار، وحدد المهام، ثم أخذ يتابع بنفسه سير الأحداث حتى إنه علم بوجود الصخرة التي لا تعمل فيها المعاول.

الشاهد أن "الفكرة الإبداعية" لـ"سلمان الفارسي" لم تكن لتنجح في حماية المدينة إلا بوجود تلك "الإدارة ذات الكفاءة والقوة الإدارية" التي تمكنت من توظيف الطاقات والتنسيق التام بينها؛ لكي تتحول "الفكرة الإبداعية" إلى واقع محمود.

وإذا حاولنا تلمُّس صور الكفاءة والقوة في مجال الدعوة إلى الله -تعالى- خصوصًا بين الدعاة السلفيين؛ نجد أن الله -تعالى- قد أنعم على الدعاة السلفيين بقدر وافر من "الكفاءة الفنية"، فمنهم: المبدع في الخطابة والوعظ، ومنهم: المبدع في التأليف، ومنهم: المبدع في رد الشبهات وإفحام الخصوم، بل ومنهم: المبدع في كل ذلك في آنٍ واحد؛ ولذلك صار "المنهج السلفي" هو الأكثر انتشارًا -بحمد الله تعالى-، هذا -بالطبع- في المرتبة الثانية بعد كونه هو المنهج الحق فهو يستمد قوته من نفسه، بينما يستمد الدعاة إليه قوتهم منه.

لكن إذا نظرنا إلى الكفاءات في مجال "الإدارة الدعوية" بين أتباع التيار السلفي لا نجدهم بنفس الوفرة خصوصًا في ظل وجود من يشكِّك في جدوى ذلك النوع من العمل الدعوي تحت دعوى نبذ الحزبية والتعصب.

ومما أدى إلى تفاقم المشكلة: ارتفاع سقف الحرية في الدعوة إلى الله -تعالى- مما فتح أمام الدعاة مساحات دعوية لا حصر لها ولا قِبَل لهم بتغطيتها بجهود فردية عفوية، مما يحتم إيجاد أسلوب إداري مبتكر للاستجابة الفعالة لهذا التحدي الطارئ، خصوصًا أن المستقبل يحمل -بلا شك- كمًّا كبيرًا من المفاجآت، مما يحتم الاستفادة من الواقع بأكبر قدر ممكن من الجدية والفاعلية.

زد على ذلك: إمكانية تطبيق تصوُّر "الدعوة السلفية" الشامل عن العمل للإسلام، والذي يتضمن: العمل السياسي والاجتماعي فضلاً عن العمل الدعوي، وهو ما يتطلب كمًا هائلاً من الكوادر والكفاءات؛ ولذلك نحتاج إلى قيادات دعوية كفء و مبدعة لها القدرة على اكتشاف الطاقات والاستفادة منها بأكبر قدر ممكن من الاستفادة.

وإذا كانت الثغرات المفتوحة أمام الدعوة كثيرة؛ فإن أكثرها اتساعًا وأولاها بالاهتمام هو: إيجاد هذه النوعية من القيادات الدعوية، ونشرها في كل المناطق والقطاعات.

وليس إيجاد هذه القيادات بالأمر المستحيل، بل إذا أخذنا بالأسباب؛ فلن نعدم من شباب هذه الدعوة المباركة خيرًا -إن شاء الله-، خصوصًا أن الله -تعالى- لم يحرمنا من عدد من هذه القيادات الموجودة فعلاً؛ ولذلك فعليهم أن يجعلوا أكبر اهتمامهم لتدريب قيادات جديدة؛ لتتمكن من سد الثغرات المفتوحة وملء المساحات الفارغة.

ولا بد من الانتباه إلى أن الكفاءة وإن كان الأصل فيها أنها موهبة إلا أنه يمكن تحصيلها عن طريق التدريب.

وفي الختام نذكر بعض حوافز الكفاءة والإبداع عند القيادات الدعوية:

1- الإخلاص والصدق والحماس في حمل هم الدين: (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ(رواه النسائي، وصححه الألباني)، حتى إن الصحابي عبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنه- حين حمل هم الدعوة إلى الصلاة أكرمه الله -تعالى- بهذه الفكرة الجميلة الجديدة ؛ "فكرة الأذان" في المنام.

2- ترك الذنوب الظاهرة والباطنة؛ لأنها تطفئ نور البصيرة.

3- كثرة الذكر والاستغفار، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنها سبب صفاء الذهن، وعمق التفكير، وتركيز الانتباه، وقطع الشواغل، وانفتاح نوافذ استقبال الرحمات والبركات.

4- كثرة قراءة القرآن الكريم مع التدبر ومطالعة السيرة النبوية العطرة، والتعايش اليقظ مع تجارب الأنبياء.

5- مخالطة الدعاة المبدعين في الإدارة الدعوية، والاستماع لتجاربهم، وتحليل كل كلمة وموقف فيها، وتدارس أدق التفاصيل عن كل الأحوال المحيطة بها.

6- حسن الإنصات لكل فكرة مهما كانت غريبة أو حتى ساذجة؛ لأن إعمال الفكر فيها قد يفتح البصيرة لفكرة أخرى أكثر عمقًا، وأعمق أثرًا.

7- توفير قنوات سالكة لانتقال المعلومات.

8- تحمل المخاطرة.

9- قراءة الكتب الأكاديمية في علم الإدارة.

نسأل الله -تعالى- أن يستعملنا لنصرة دينه على خير وجه يرضيه عنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

www.anasalafy.com
موقع أناالسلفى

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً