الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدكتورة "منى مكرم عبيد" والنخبة الليبرالية

إن الرموز الليبرالية واليسارية التي نجحت في الانتخابات لو أنها تعرضت لمحاكم تفتيش كالتي يتعرض لها الإسلاميون في الإعلام لما نجح منهم أحد

الدكتورة "منى مكرم عبيد" والنخبة الليبرالية
عبد المنعم الشحات
الاثنين ٢٦ ديسمبر ٢٠١١ - ١٧:٠٠ م
5073

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فـ"النخبة" تعبير يوحي بحكم اشتقاقه من الانتخاب، ولكنه ليس بالصناديق وإنما بالفرز الشعبي، لا سيما للمشتغلين بشئون الفكر والسياسة؛ بحيث يحدث قبول شعبي عام وقدرة على توجيه الرأي العام لبعض ذوي الرأي، وهذا يحدث عادة عندما يكون ذلك الفرد والفصيل متشبعًا بثوابت مجتمعه، وفي ذات الوقت مشتبكًا مع حاضره، ولديه رؤية مقنعة للمستقبل.

وفي مجال الفكر والثقافة يتسع المجال لأكثر من فرد، بل أكثر من فصيل، وكذا في مجال السياسة.

بيد أن الأمر في مجال السياسة يحتاج إلى آلية لإفراز فصيل واحد؛ ليتولى القيادة، ومِن هنا جاءت الانتخابات لتقوم بدرجة فرز أخرى لاختبار درجة القبول الشعبي بين نخبة وثانية، ومِن ثَمَّ تأتي نتائج الانتخابات عادة متقاربة بين المتنافسين، حتى إن بعض رؤساء أمريكا حكم بنسبة 51%، وإنما تأتي النتائج مخيِّبة للآمال و"للمُنى" عندما يعرض فصيل نفسه على الشعب وهو لم يجاوز بعد مرحلة الفرز الشعبي، وهذا ما يحدث عادة مع المرشح الثالث في الانتخابات الأمريكية التي يكون معلومًا سلفًا أن المنافسة الحقيقية محصورة بين مرشحي الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي.

كل هذا لا أظن أن التيار الليبرالي في مصر يجهله، ومِن ثَمَّ فإن التيار الليبرالي يعرف أنه ليس "نخبة" في مصر، بل هو أقرب للأقلية الفكرية المرفوضة شعبيًّا أيًّا ما كان تبريرهم هم لهذا الرفض، ومع هذا فهم مصرون أنهم وحدهم هم النخبة! وهذا الأمر صحيح من وجهة نظر السلطة؛ من أول الاحتلال الإنجليزي مرورًا بالعهد الناصري، ثم الساداتي، ثم المباركي؛ حيث كانت جميع مراكز التأثير الثقافي حِكرًا على فصائل ثقافية معينة انتخبها الحاكم أو بالأحرى الدولة العظمى التي يدور في فلكها، وإن كان الشعب لا يعرفها أو لا يفهمها أو لا يؤيدها.

وإبان ثورة "25 يناير" بدأ بعض هذه النخب في الخروج عن طوع "فاروق حسني" ناظر حظيرة المثقفين -على حد تعبيره-، وحرم المخلوع صاحبة الحظيرة، بعضهم بدوافع وطنية، وكثير منهم بدوافع شخصية؛ كمن خرج من الحظيرة احتجاجًا على تخطي دوره في رئاسة تحرير إحدى تكايا صاحبة الحظائر والتكايا، وبعضهم قرأ البوصلة الخارجية جيدًا فقفز من السفينة قبل أن تغرق.

وعلى أي حال، فلنفترض جدلاً أن الجميع قفز بدوافع وطنية اعتراضًا على الظلم والبطش وقانون الطوارئ -بالمناسبة بعضهم بدأ بعضهم حياته الوظيفية في خدمة النظام السابق في ظل قانون الطوارئ منذ ثلاثين عامًا-، لكن هذه الدوافع الوطنية غير كافية لتجعله يمثِّل نخبة لدى الشعب المصري، فضلاً عن أن يمثل النخبة الوحيدة.

وكانت هذه الإشكالية الكبرى التي واجهت الليبراليين واليساريين على حد سواء أن الجمهور لا يعرفهم، ومَن يعرفهم يرفضهم؛ مما دفع خصوم الأمس -الليبراليين واليساريين- أن يُكوِّنوا تحالفات لمواجهة الإسلاميين، ولا أدري كيف قدَّموا أنفسهم للناخبين؟! ولا كيف سيتكلمون ككتلة واحدة عندما تعرض ملفات الخصخصة ومستقبل القطاع العام واحتكار الدولة للسلع الإستراتيجية، وتحرير سعر الصرف والتسعير؟! وكلها قضايا شائكة يصل الخلاف فيها بين الفريقين إلى حدٍّ ما يمكن أن يسمى بـ"التكفير السياسي".

المهم أن هذا التكتل لم ينفعهم، ومِن ثَمَّ حاول البعض التنصل من تاريخه الليبرالي، وادعت بعض الأحزاب أنها ذات مرجعية دينية منذ أيام الهكسوس -أقصد: الإنجليز-، ولم ينفعهم ذلك أيضًا، ربما استطاع بعض الأفراد أن يتنصلوا من الأقوال التي تلزمهم -إذا ما أرادوا أن يكونوا متسقين مع الليبرالية التي يؤمنون بها-، ولكنها مصادمة للدين، بل البعض تنصل من أقوال قالها بالفعل؛ ليكتفي بالكلام على قدر من الحرية لا تخالف الإسلام، وهي محل إجماع شعبي بلا شك.

ومِن هنا نجح بعض الأفراد على المقاعد الفردية مِمَّن أجاد تقديم نفسه كمدافع عن الحريات دون أن يصطدم بالشرع، أو مِمَّن أعاد إنتاج الليبرالية في صورة تبدو أنها غير مصادمة للدين، أو ربما أعاد تعريفها -لأغراض انتخابية في الغالب- بما يتوافق مع الدين مائة بالمائة، مخالفًا بذلك جميع القنوات الفضائية التي أقامت "مأتمًا للبكيني"، و"مبكاة للخمر"، و"سرادق عزاء للباليه"؛ لأن الإسلاميين متى وصلوا إلى الحكم فسوف يقطعون عن النخبة الخمر والبكيني -طبعًا نحن نعرف أن الناس الشعبيين عادة ما يخافون من انقطاع المياه والنور، ولكن للشعب شأن وللنخبة الليبرالية شأن آخر!-.

وأستطيع أن أقول: إن الرموز الليبرالية واليسارية التي نجحت في الانتخابات لو أنها تعرضت لمحاكم تفتيش كالتي يتعرض لها الإسلاميون في الإعلام لما نجح منهم أحد؛ لأنه لا بد وأن أحدهم سوف يقع في أنه يريد تشريع زواج المسلمة من غير المسلم، والثاني سوف يقع في أنه يريد أن يعود بنا إلى عصر التأميم، والثالث سوف يسب الدين لمخالفيه على الهواء -فعلها من المعسكر الليبرالي: ساويرس، ومن المعسكر اليساري: أحمد فؤاد نجم-، ولكن هؤلاء الناجحين انسحبوا من الإعلام بهدوء، بل ولم يتابعهم الإعلام في مؤتمراتهم الانتخابية -عجبًا!-؛ لكي يقدموا أنفسهم إلى الناخبين في صورة أقرب إلى المرشحين الإسلاميين المستقلين فنجحوا، بينما لم تستطع رموز ليبرالية أخرى كـ"جورج إسحاق"، و"جميلة إسماعيل" حتى أن يدخلوا جولة الإعادة!

المهم أن هذه هي نتائج الصندوق، وعلى كل فريق حاصل على نتيجة غير مرضية ألا يلومن إلا نفسه، ولكن التيارات التي ما زالت ترى نفسها نخبة بصكوك حكومية سابقة ما زالت ترى أن الشعب الذي لا يختارها لا يستحقها، وعلى الحكومات أن تأتيه بشعب آخر، أو بنظام انتخابي آخر، أو أن تعين مجلسًا رئاسيًّا مدنيًّا، وربما خرجت تصريحات متشنجة من هنا ومن هناك، منها: ادعاؤهم أن الدوائر التي تسكنها أغلبية مثقفة هم من اختار الليبراليين، وهو نوع من الاستخفاف بعموم الشعب المصري، سوى خمس دوائر انتخابية من بين مئات الدوائر الأخرى.

بيد أن حتى هذا الأمر لا يُسلَّم لهم، فإن من بين الدوائر التي نجح فيها ليبراليون أو يساريون كانت القوائم فيها لصالح الإسلاميين ممَّا يدل على أن هؤلاء الناخبين نجحوا؛ لأنهم قدَّموا أنفسهم في ثوب غير متعارض مع الشريعة، وهو ما يدعو إليه الإسلاميون.

كما أن العجب أن الدوائر التي نجح فيها رمز ليبرالي نجح معه أحد الفلول، وهم ينجحون بنفس الخطة الانتخابية، وطبعًا كان هناك تصريح قديم أيام الاستفتاء قال فيه صاحبه: "إنَّ صوتًا ممن قال: لا، بمائة ألف صوت مِمَّن قال: نعم".

وها هي الدكتورة "منى مكرم عبيد" ترى أن الأفراد الليبراليين الذين نجحوا هم بكل الإسلاميين: "إخوان، وسلفيين" -ما شاء الله على المساواة والعدل والإنسانية والتسامح و... الليبرالية-!

المهم أن الدكتورة أرادت أن تعطينا تبريرًا يبدو أكثر منطقية، فقالت: "إنهم أعلى صوتًا"، وفي حدود علمي المتواضع فإن ذكر علو الصوت في سياق المناقشات والخلافات الفكرية صفة تقال على وجه الذم لا المدح، وغالب الظن أنها ترمي إلى أنهم متى تكلموا في المجلس فسوف يصمت الآخرون، وهذا -أيضًا- سيكون في حالة واحدة، وهي: أن يتولى مذيعو الفضائيات إدارة جلسات البرلمان، ثم أردفت: "إنهم مثقفون". وطبعًا نحن في مجلس الشعب نعرف أن البعض يحتاج إلى شهادة إثبات صفة عامل أو فلاح، ولها جهات تمنحها، ويبقى صفة "مثقف"، وأخشى أن يكون "فاروق حسني" هو المسئول عن منحها.

وأما ثالثة المزايا فكانت حسب قولها: إنهم أصحاب تفكير راقٍ. ولا أعلم الجهة المسئولة عن منح هذه الشهادة طالما أنها قد استأثر بها هؤلاء النفر دون غيرهم، خاصة الإخوان والسلفيين، مع أن فيهم أساتذة شريعة في الأزهر، وأطباء، ومهندسين، ومتخصصين في السياسة والاقتصاد، وكلهم -بحسب كلام الدكتورة- ينقصهم التفكير الراقي الذي لا يتنزل إلا على الليبراليين واليساريين.

بقي أن تعرف أن الدكتورة "منى" هي عضو لجنة الشفافية والنزاهة التابعة لوزارة التنمية الإدارية! وطبعًا هي شقيقة الدكتورة "نادية مكرم عبيد" وزيرة البيئة في عصر حرم المخلوع، والتي كانت أول وزيرة تجري في الشارع وراء السيارات التي ينبعث منها العادم، وتحرر لهم محاضر بنفسها، وأرجو ألا يكون هذا الانفتاح والرقي والفكر الإداري الذي تعنيه الدكتورة "منى"، والذي يبدو أنه ضارب بجذوره في بعض الشباب الذي اعترض على سن وزير الداخلية على اعتبار أن هذا سوف يمنعه من الجري وراء المجرمين! وحكاية الجري وراء المخالفين هذه أظن أن عمدة أصغر قرية في مصر يترفع عنها ويتركها إلى شيخ الخفر، ولكن "النخبة دائمًا على حق"!

وأخيرًا: أهمس في أذن أعضاء البرلمان القادم -لا سيما الذين كان من ضمن برنامجهم الانتخابي ترشيد الإنفاق الحكومي- أن يقدِّموا استجوابًا عاجلاً عن لجنة الشفافية التابعة لوزارة التنمية الإدارية، ويعلنوا للرأي العام عن: مهامها - إنجازاتها - بدلاتها - مكافآتها - تاريخ تعيين كل عضو من أعضاء ذلك المجلس وهل تم التعيين من خلال مسابقة أم بالتعيين المباشر؟ وإذا كانت مسابقة.. فمتى أعلن عنها؟ ومن تقدم لها؟ ومن الذي اختبر أعضاءها؟

وأقترح أن يُعرض هذا كله على الرأي العام سواء وجد فيه فاسد، كما أظن أو على العكس، فالأمانة تقتضي في هذه الحالة أن نعرض على الرأي العام إنجازات ذلك المجلس الموقر.

ولتكن بداية الشفافية مع لجنة الشفافية، وحتى تعرف الدكتورة "منى" أنكم لا تنقصكم الجرأة على قول الحق -لم أسمها: الصوت العالي-، ولا الثقافة القانونية والمجتمعية، ولا الفهم الراقي، وفوق هذا كله أنه لا تنقصكم الأمانة ولا الإنصاف حتى مع مَن بغى عليكم؛ مصداقًا لقوله -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com