الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الإعلام من دوامة الصمت إلى دوامة الكذب

تبدأ القصة بسؤال مفخخ أو موقف يفرض نفسه لتلتقطه وسائل الإعلام بصورة مشوهة، وبكثير من الاستنتاجات الخاطئة التي تُعرض وكأنها بينات!

الإعلام من دوامة الصمت إلى دوامة الكذب
عبد المنعم الشحات
الأحد ٢٦ فبراير ٢٠١٢ - ٢٢:٤٦ م
3477

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اختلف الباحثون في علم الاتصال والإعلام اختلافًا كبيرًا حول أثر الإعلام في توجيه الرأي العام أو تكوينه بين ذاهب إلى أن الإعلام ذو أثر ضخم في ذلك، وذاهب إلى أنه ذو أثر ضعيف، وذاهب إلى التوسط بين هذا وذاك.

وممن ذهب إلى أن الإعلام ذو أثر طاغ على الرأي العام الباحثة الألمانية "إليزابث نويلة" التي أعدت دراسة عن تأثير الإعلام على الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انتهت فيها إلى أن الإعلام كثيرًا ما يشكل ضغطًا رهيبًا على الرأي العام؛ ليصبح الرأي العام هو ما يريده الإعلام لا ما يريده الشعب، عبر آلية أو نظرية أطلقت عليها: "دوامة الصمت".

وهي تقوم على افتراض رئيسي هو أن الإنسان في الأعم الأغلب لا يحب العزلة، ويخشى مِن مصادمة الرأي العام، وأن الإعلام يستطيع تحت شرط معين أن يلح على فكرة أو موقف من شخص أو جماعة بدرجة تعطي قناعة لدى جميع المتلقين أن هذا هو الرأي العام، ومِن ثَمَّ ترتفع الرغبة لدى مؤيدي هذه الفكرة، ويفتخرون بالانتماء إليها، بينما يشعر المعارضون لها أو المؤيدون لأطروحات أخرى بالحرج والخجل فيلزمون الصمت؛ مما يحوِّلهم إلى "أقلية صامتة" في المجتمع! بل ذهبت النظرية إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن الإعلام يستطيع إذا توحد على وجهة نظر مصادمة لرأي الأغلبية أن يحولها إلى "أغلبية صامتة" تخجل من مبادئها؛ حتى لو كانت هي مبادئ الأغلبية! بينما الأقلية المساندة من الإعلام تشعر بأنها صارت الأصل.

ولكن الشرط الرئيسي لكي تحدث هذه الظاهرة، هو: أن تتوحد وسائل الإعلام على أيديولوجية أو فكرة أو هدف، وهذا حاصل في حالات الإعلام الموجَّه مِن قِبَل الحكومات الديكتاتورية.

ولكن هل يمكن حدوث ذلك في حالات الإعلام الحر؟!

تجيب الباحثة الألمانية: إن البلد موضع الدراسة -وهو الولايات المتحدة الأمريكية- يحرر أعلى درجات التحرر الإعلامي، ومع هذا وجدت أن الأُطر العامة التي تحرِّك المؤسسات الإعلامية المتنافسة هي أطر واحدة، ومِن ثَمَّ فإن هذه المنافسة بين تلك المؤسسات لم تمنعها من أن تكون كلها تقريبًا ضاغطة لصالح توجهات معينة تدافع عن مصالح الشركات الأمريكية الكبرى.

وإذا أضفنا إلى رأي هذه الباحثة آراء باحثين آخرين يرون أن "التنوع الإعلامي" ما هو إلا أكذوبة كبرى؛ علمنا الحقيقة المُرة التي تواجهها البشرية عامة، لا فرق في ذلك بين عالم متقدم وآخر نام إلا في نوعية المتسلط على عقول الناس مِن الديكتاتور السياسي في العالَم النامي إلى الديكتاتور الرأسمالي في العالَم المتقدم.

وعندنا في مصر شاهدنا النوعين معًا، فقد شاهدنا الديكتاتور السياسي متفردًا بالساحة الإعلامية حتى أجبره النظام الدولي على تبني سياسات ليبرالية في الاقتصاد، وتبعه الإعلام الذي تنوعت أسماء محطته ونجومه، ولكن بقي محافظًا على الولاء لتزاوج المال بالسلطة، وفي اللحظة التي سقط فيها الديكتاتور كانت كل وسائل الإعلام -إلا من رحم ربي- قد أعدت العدة لعزف أنشودة "شيطنة التيار الإسلامي"، والمناداة بالعالمانية تحت مسمى: "الدولة المدنية"!

بل حتى في الخيارات السياسية الجزئية مثل: هل نبدأ بالدستور أم الانتخابات؟ وجدنا القنوات الإعلامية لا يكاد يفلت منهم واحد؛ فيرى الرؤية المغايرة!

وعندما تغيرت البوصلة تطالب بانتخابات الرئاسة قبل الدستور؛ بزعم أن إعداد الدستور في ظل المجلس العسكري" خطر -ولا أدري أين كان هذا الاعتراض حينما كانوا يطالبون بالدستور في ظل انفراد المجلس العسكري بالسلطتين: التنفيذية والتشريعية؟!-.

إذن فقد حاول الإعلام أن يضعنا مرة أخرى في خانة "الأغلبية الصامتة" التي تخجل حتى مِن عرض أفكارها ومعتقداتها، ورغم ضراوة المعركة، وتفاوت الإمكانات عددًا وعُدة؛ إلا أن فداحة الاختيار العالماني في مقابل تغلغل حب الشريعة في النفوس؛ أدى إلى خسارة اللوبي الإعلامي العلماني للمعركة -بفضل الله- فغيَّر الإعلام "دوامة الصمت" وقصة "الأذن المقطوعة"، و"رش ماء النار" وغيرها... ودخلوا في إستراتيجية "الأسئلة المفخخة" أملاً في كسر الإجماع الحاصل على مرجعية الشريعة الإسلامية إلى خلاف على فروع الشريعة.

وقد أحدثت هذه الإستراتيجية قدرًا من المكاسب؛ للاختلاف في طريقة المواجهة بين متراجع أو حائد عن الإجابة أو مجيب بأجوبة حاسمة، وإن كنا نرجح المسلك الأخير كما سبق بيانه في مقال: "أسئلة مفخخة وأجوبة حاسمة" إلا أن المكاسب التي خرجوا بها من هذه الإستراتيجية تكاد تكون معدومة -بفضل الله عز وجل-.

وهنا جاء دور إستراتيجية ثالثة تجمع بين الإستراتيجيتين السابقتين، وتضيف إليهما الكذب المتعمد، وإذا كانت "دوامة الصمت" قد أخذت اسمها من سلوك الجمهور حيالها، والذي يفضِّل الصمت عن الحرج، فإن هذه النسخة المعدلة منها يمكن تسميتها بـ"دوامة الكذب" نسبة إلى السمة الأغلب لطريقة إدارتها، وتبدأ القصة بسؤال مفخخ أو موقف يفرض نفسه لتلتقطه وسائل الإعلام بصورة مشوهة، وبكثير من الاستنتاجات الخاطئة التي تُعرض وكأنها بينات!

وتدور دوامة من هذه الأخبار في وسائل الإعلام بصورة لا تدع لمتلق فرصة للتثبت أو التعقل أو التدبر كما أمر الله -تعالى-؛ ليدخل الغالبية العظمى من الناس في دوامة من تصديق الكذب، ويجد كل مَن يتخذ موقفًا مغايرًا حرجًا لا يدفعه فقط إلى مجرد الصمت، ولكن إلى التبرؤ والاستنكار، ولمثل هذا الاستنكار دوامة أخرى حول الهدف المراد إسقاطه "شخصًا كان أو فكرة"، وهو أسلوب يبدو محكمًا ودقيقًا وأكيد المفعول، حيث تختلط الحقيقة بالكذب اختلاطًا مريبًا، وسوف تجد أن اللائم الذي استطاع أن يكتشف أن لومه لم يصادف حقيقة سوف يتجه إلى الكلام عن الأسلوب والزمان والمكان، والملابسات متناسيًا أنها غالبًا ما تكون من فعل هذه الحملة الإعلامية.

ومع هذا يبقى الفرق الجوهري في أن معركتنا مغايرة، وأن الإعلام يستطيع أن يسقط أفكارًا أرضية أو يسقط أشخاصًا أو هيئات تعتمد على حوْلها وقوتها، وأن الله قد أرشدنا في كتابه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)، وجمع الناس لنا في ساحة الإعلام شأنه شأن أي جمع آخر نواجهه بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل".

والجدير بالذكر: أن كل هذه الوسائل وإن كانت قد اكتسبت أسماءها وتنظيرها في العصر الحديث إلا أنها قديمة قِدَم المعركة بين الخير والشر، وقد جعل الله لنا في رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في كل أموره، ومنها: مواجهة كيد الكائدين بالصبر واليقين؛ ولعل أبرز الأمثلة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة تلك الدوامات: "حادثة الإفك"، وما أحوجنا جميعًا إلى تعلم الدروس التي علمها الله للمجتمع المسلم ككل عندما يواجِه بعض أفراده مثل هذه الحملات: صبر ويقين من صاحب القضية، وحُسن الظن ومناصرة من باقي المجتمع، وتَثبُّت وإمساك عن الخوض فيما لا برهان عليه، وإن "دوَّرته الآلة الإعلامية" ليل نهار، لكن إلى أي مدى يمكن أن نثبت أمام هذه الحملات؟

لا بد أن نشير إلى أن عزيمة البعض منا قد ضعفت عن المواجهة نتيجة لما استجد علينا من أرضية سياسية، ومكاسب على أرض الواقع؛ مما يجعل البعض حريصًا على حمايتها، ولو بشيء من "السكوت" في بعض "الجزئيات"؛ وهو مسلك نخشى أن تتحول فيه الجزئيات إلى كليات، أو أن يتحول فيه السكوت إلى قبول ببعض الباطل؛ لا سيما والإعلام هو الإعلام، ودواماته متى تَحقق لها قدر مِن النجاح يغريها هذا النجاح فتتحول إلى أعاصير لا تُبقي ولا تذر.

وقد عاهدنا الله وتعاهدنا فيما بيننا أن العمل السياسي لن يكون بحال من الأحوال خصمًا من الرصيد الدعوي، وهذه القضية هي موضوع المقالة القادمة -إن شاء الله تعالى-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com