الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

المُلك والأمر كله لله *

لما وقع النقص فينا غلبنا الأعداء بقوتهم المادية؛ فلو اكتمل الإسلام والإيمان والإحسان فينا انتصرنا

المُلك والأمر كله لله *
ياسر برهامي
السبت ١٦ يونيو ٢٠١٢ - ٠٧:٥٤ ص
3298

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن نظرة في ملكوت السماوات والأرض تقود العِباد إلى اليقين بأن المُلك كله لله، والأمر كله لله، وأن المساحة التي يأخذها الجنس الإنساني من القدرة والإرادة -للابتلاء- هي بالنسبة إلى قدرة الله وإرادته كقطرة في بحر؛ بل أقل! فليس لهم من الأمر شيء.

وإذا شهد الإنسان ذلك؛ علِم أن الله الذي يفعل ما يشاء، لا العباد ولا كيدهم ولا مكرهم، وإذا كان الأمر كذلك... فليعلم أن الله له سنة ماضية في الخلق في تعلـُّق ما يحدث لهم مِن: نعم وبلايا، وخير وشر بسلوكهم وعملهم، فالمصائب سببها الذنوب: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى:30).

وأكثر الناس يربط الأمور بالأسباب الظاهرة: كزلزال أو قحط أو كيد أعداء، ويغفل عن الأسباب الباطنة من عمله: كطاعة أو معصية تسببت في حدوث أمور له، فالرعب والخوف مثلاً يقع في القلب بسبب الظلم "وأعظمه الشرك": (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران:151)

                
"
        الإيمان والذكر يعطي شعورًا بالأمن أكثر بكثير من وجود حرس وجنود وأتباع
        "
. 

والأمن والطمأنينة سببها الإيمان والذكر: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)، والإيمان والذكر يعطي شعورًا بالأمن أكثر بكثير من وجود حرس وجنود وأتباع!

وضيق الرزق الحلال سببه الفسق، وكذا فتح أبواب الرزق الحرام كما في قصة أصحاب السبت: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف:163)، وإرادة الآخرة سبب لمجيء الدنيا راغمة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وبر الوالدين وصلة الرحم سبب لسعة الرزق، والفتن والمحن التي تتعرض لها أمتنا سببها معاصينا.

والنقص الذي عندنا مما يحتاج إلى وقفة مراجعة: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)(التوبة:126)، فذم الله المنافقين على عدم التوبة والتذكر، وهذه المراجعة لشخصية كل واحد منا على ميزان الإسلام.

وحديث جبريل -عليه السلام- في الإسلام والإيمان والإحسان مثل الفهرست في الكتاب للدين؛ فلنجعل كل نقطة منه كعنوان تحته تفصيل علم وعمل وسلوك نحتاج إلى المراجعة فيه، فإن وجود الشخصية المسلمة التي ثتقل بها الكفة في الصراع الدائر بين الحق والباطل هو أشد ما نفتقده كحركة إسلامية، ولما وقع النقص فينا غلبنا الأعداء بقوتهم المادية؛ فلو اكتمل الإسلام والإيمان والإحسان فينا انتصرنا.

                
"
        لما وقع النقص فينا غلبنا الأعداء بقوتهم المادية؛ فلو اكتمل الإسلام        والإيمان والإحسان فينا انتصرنا
        "
 

وكالمثال لما ينبغي أن يكون عليه تحقيق معنى الإيمان بالله: فهو يشمل الإيمان بالله ربًا خالقًا، مالكًا، آمرًا ناهيًا.

والإيمان بأسمائه وصفاته يَحصل بالشهود لآثارها، ثم التعامل بمقتضى هذا الشهود، فصفة العلم مثلاً: قال الله -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59). رحلة واسعة انتقلت بنا الآية خلالها:

أولاً: "مفاتيح الغيب الخمس": (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34).

نفكر ماذا يعدون لنا؟ ماذا ينوون فعله بنا؟ وغدًا هم لا يملكون فيه شيئًا "حتى أنفاسهم"، وبقاء من يمكر منهم مكره ويضع خططه على ظهر الأرض حيًّا لا يعلمه، فلمَ ننشغل كثيرًا ونقلق ونضطرب؟! (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)(هود:123).

ثانيًا: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ): في الصحاري، وفي الغابات، وفي المدن والقرى، وفي كل مكان عالَم واسع قد علمه الله تفصيليًّا.

ثالثًا: (وَالْبَحْرِ): عالم أوسع، قطرة من الماء من أي بحر أو نهر تحت المجهر فيها من الخلائق ما لا يعلمه إلا الله؛ فكيف بما في قاع المحيطات في المشارق والمغارب؟!

رابعًا: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ): في شجرة في غابة من الغابات، وكم تقلبت الورقة حتى سقطت على الأرض (إِلا يَعْلَمُهَا) ويعلم نهايتها كغثاء أحوى، أو طعام لحيوان أو إنسان!

خامسًا: (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ): يلقيها إنسان أو سقطت من ثمرة شجرة في غابة مهجورة، فغابت في الأرض وصارت في ظلماتها... إلا يعلمها الله!

سادسًا: (وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): هو اللوح المحفوظ.

وهكذا في كل الصفات... وتوحيد الله إلهًا معبودًا محبوبًا، يُركع له ويُسجد، ويُحلف به، ويُنذر له، ويذبح له، ويُتحاكم إلى شرعه، ويُحب فيه ويُبغض فيه، ويُوالى فيه ويُعادى فيه.

فهل حققنا ذلك علمًا وعملاً؟!

هذه المراجعة على مستوى الفرد ومستوى الطائفة؛ لأن المسؤولية مشتركة -والله المستعان-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نشرت بجريدة "الفتح" الجمعة 25 رجب 1433هـ - 15 يونيو 2012م.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة