الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-

الهجرة: استمساك بالإسلام وانتقال به من موقع إلى موقع فالهجرة حركة ودعوة وجهاد، والمهاجر لا يزال في ساحة الدعوة والجهاد ليس بخارجٍ عنها، إذا ضعف في موطن انتقل إلى

حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
زين العابدين كامل
الأربعاء ٢١ نوفمبر ٢٠١٢ - ٢٠:١٥ م
6498
حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
8-محرم-1434هـ   21-نوفمبر-2012      
 

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اعتاد كثير من المسلمين أن يحتفلوا في مثل هذه الأيام بذكرى هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المباركة، وأنا أقول: للأسف إن كثيرًا من الناس يحتفلون بذكرى الهجرة وهم لا يعون حقيقة ما يحتفلون به!

فالهجرة عطاء متجدد... الهجرة تضحية عظيمة... كيف للأمة أن تحتفل بذكرى الهجرة ثم نراها كذلك تحتفل بذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم- ومن أبنائها من يحتفل ويشارك في أنواع الاحتفالات الدينية المختلفة وهو يصد عن سبيل الله ولا يرضى بتحكيم شرع الله -تعالى-؟!

لذا أقول: إن كثيرًا من الناس لا يعون حقيقة ما يحتفلون به، فالهجرة عطاء وتضحية عظيمة، هذا العطاء وهذه التضحية بدأت بستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، وواعدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إبلاغ رسالته في قومهم، وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي -موسم الحج سنة 12 من النبوة- اثنا عشر رجلاً، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام السابق وبايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الأولى -وبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء مصعب بن عمير -رضي الله عنه-؛ ليعلم المسلمين شرائع الإسلام وليقوم بنشر الإسلام، وقد قام بذلك -رضي الله عنه- أتم قيام.

ذهبوا جميعًا ليزرعوا شجرة التوحيد بين صخور الكفر والشرك، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكلهم قد أسلموا، فلما قدموا مكة واعدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ(رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، فقاموا إليه فبايعوه.

وإذا نظرنا إلى حدث الهجرة نرى الفداء والعطاء والتضحية، نرى أروع الأمثلة من الجيل الأول الذي تربى على يد المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ذلكم الجيل الذي كان هو اللبنة الأولى لبناء دولة الإسلام... ذلكم الجيل الذي تحمل الصعاب لنشر دين الله -تعالى- وجاهد في الله حق جهاده، وصدق في وعده مع الله ووفى بما عاهد الله عليه.

هل تدبرنا موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في حدث الهجرة؟

تقول عائشة -رضي الله عنها-: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْبِلاً مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَكَ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأَمْرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأَبِي بَكْرٍ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ)، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ)، قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ(رواه البخاري). فهذا أول ما فكر فيه الصديق -رضي الله عنه-: "فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، ويترك أهله ووطنه وملاعب صباه ويهاجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الفدائي الصغير العمر الكبير في دوره وفدائه وتضحيته، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ(السيرة النبوية لابن هشام)، وينام علي على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم مدى خطورة ذلك الأمر على حياته... إنها التضحية العملية لدين الله.

وهذه أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أتتهما بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصامًا فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر فسميت ذات النطاقين، وهي تعلم أن في هذا الأمر خطورة على حياتها فكل المواقع مراقبة من قِبَل المشركين، والكل يبحث عن رسول الله في كل مكان... ولكنها التضحية!

فهل وعت الأمة هذا الدرس وضحى أبناؤها كما ضحى الأخيار الأطهار؟!

وحول معنى الهجرة نقول: الهجرة في اللغة هي الترك والبعد.

وأما معناها شرعًا فيقول ابن القيم -رحمه الله-: "الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم مِن بلد إلى بلد وهذه أحكامُها معلومة. والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوِله وهذه هي المقصود هنا وهذِه الهِجرة هي الهِجرة الحقيقيةُ وهي الأَصل".

ويقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "الهجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان، وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان؛ لما فيها من إرضاء الرحمن وإرغام النّفس والشّيطان".

وهذه هي الهجرة الحقيقية التي نريدها وننشدها... هجرة الأرواح من سجن البدن وشهواته ودنس الدنيا وأهوائها إلى الملكوت الأعلى، هجرة الذنوب والمعاصي والآثام والبدع إلى فعل الخيرات وإلى حسن المتابعة؛ فهيا بنا نهاجر إلى الله ورسوله لا سيما ونحن في وقت الفتن، فعن معقل بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ(رواه مسلم)، فالعبادة في وقت الفتن واختلاط الأمور كهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ(رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وفي لفظ لهما: (مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ).

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ(رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، فحقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه.

إن الهجرة في حقيقتها: معرفة الحق والاستمساك به، ثم الانتقال به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، تلك هي طريقة رسل الله والسائرين على دروبهم، وفي القرآن الكريم حكاية عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(العنكبوت:26).

الهجرة: استمساك بالإسلام وانتقال به من موقع إلى موقع فالهجرة حركة ودعوة وجهاد، والمهاجر لا يزال في ساحة الدعوة والجهاد ليس بخارجٍ عنها، إذا ضعف في موطن انتقل إلى موطن يكون فيه أكثر نفعًا وعزًا.

الهجرة: أن تهجر التوكل على غير الله إلى التوكل عليه، والخوف من غيره إلى الخوف منه وحده، وحب غيره والحب لغيره إلى الحب له وفيه -سبحانه-، ورجاء غيره وابتغاء غير وجهه إلى رجاء فضله وابتغاء وجهه -سبحانه وتعالى-، وهكذا في كل عبادة من العبادات تهجر ما نهاك الله عنه إلى ما يحبه -عز وجل- ويرضاه.

ندعو الله -تعالى- أن يوفقنا لكل ما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي