الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

دستور الأمة أم دستور النخبة؟

ومن هذا المنطلق: فإنك لن تجد قضية يقترب موقف المصريين منها من الإجماع مثل: "قضية مرجعية الشريعة الإسلامية"، ومع هذا كان للشريعة خصوم تمثلوا في مثلث: "الاستبداد - العالمانية - الطائفية".

دستور الأمة أم دستور النخبة؟
عبد المنعم الشحات
الخميس ١٣ ديسمبر ٢٠١٢ - ١٧:٤٤ م
2945
دستور الأمة أم دستور النخبة؟
30-محرم-1434هـ   13-ديسمبر-2012      
عدد الزوار: 12

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تحدثنا في "الجزء الأول" من المقالة عن الأمة المصرية وكيف تقف الأغلبية الساحقة من مسلميها موقف المتيقن من الشريعة الإسلامية ومن حسنها وتمامها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، وبيَّنا أن دين النصارى لا يمنع أتباعه من الالتزام بأي قانون، ومن ذلك: القوانين المأخوذة من الشريعة الإسلامية طالما سوف يطبقون شرائعهم في أحوالهم الشخصية.

ومن هذا المنطلق: فإنك لن تجد قضية يقترب موقف المصريين منها من الإجماع مثل: "قضية مرجعية الشريعة الإسلامية"، ومع هذا كان للشريعة خصوم تمثلوا في مثلث: "الاستبداد - العالمانية - الطائفية".

وإذا كان المستبد يعادي دعاة الحرية الذين يطالبون بحق المعارضة؛ فما بالنا بالشريعة التي تجعل المعارضة واجبة "إنكار المنكر"؟ فضلاً عن أن الشريعة تغل يد المستبد في التشريع بالهوى.

وأما عن الفصيل العالماني: الذي يحب أن يصف نفسه بالـ"نخبة" فيقف من الشريعة الإسلامية وصلاحياتها للتطبيق موقف الشاك والمتردد؛ هذا من الناحية النظرية وأما عمليًّا فيقف موقف "الرافض" للشريعة أو الرافض لمرجعيتها العليا الشاملة أو موقف مَن يريد أن يعطي البشر حق الأخذ من الشريعة أو الترك.

وأما قادة الكنيسة الذين يستهويهم العمل السياسي ويغريهم لعب دور زعيم الطائفة؛ فلا شك أنهم بهذا المفهوم يجب أن يقدموا للطائفة مكاسب سياسية، وإن لم تكن نابعة من تفسير ديني صحيح.

وفي بعض فترات التاريخ المصري انضم ضلع رابع أشد خطورة وهو الاحتلال الصريح حينًا أو المستتر حينًا آخر، والذي يتمثل في الهيمنة الفكرية والثقافية.

وفي المقابل كانت الأمة تدافع عن هويتها وفي القلب منها الشريعة الإسلامية الغراء في وجه تحالف مصالح على حساب المبادئ، تجلت أعظم مظاهره في سماح المستبد للنخبة بشيء من المعارضة "الآمنة" الممزوجة بمواجهة شاملة للأمة وتهميش كل من ينتمي إلى الثقافة الأصلية لها.

ومِن ضمن الميادين التي شهدت صراعًا محتدمًا حول الهوية: "الدستور".

وفي "الجزء الثاني" تحدثنا عن كل دساتير مصر السابقة والتي كتبت بواسطة "النخبة" المعينة من قِبَل "المستبد"، وأن الأمة كانت تكافح وتناضل وتدفع من دماء أبنائها ثم تجلس النخبة بعد ذلك تتفاوض وتكتب الدساتير... فيكون أهون شيء عليهم هي مطالب الأمة وهويتها!

وفي هذا الجزء نتناول كفاح الأمة ضد النخبة في "دستور 2012م... ثورة الخامس والعشرين من يناير".

كانت السنوات العشر الأخيرة من حكم "مبارك" تجسيدًا صارخًا لحلف "الاستبداد - النخبة - الطائفية"، بل بلغ الأمر أن النظام كان يطبِّق الرأسمالية المتوحشة بينما "النخبة" الثقافية كلها ذات مزاج يساري وكلاهما يشجع الآخر على ضرب الاتجاه الإسلامي في سويداء القلب، واستمر العمل بقانون الطوارئ مما أغرى مبارك باستعماله في تمرير سيناريو التوريث، وكان هذا بمساعدة عدد كبير من النخبة وإن كان بعضهم بدأ يعارض هذا التوجه في أواخر عصر "مبارك" لسبب أو لآخر...

وكان للتوسع في استخدام قانون الطوارئ واستسهال الحل الأمني كبير الأثر في تأزم الأمور، حتى انطلقت شرارة "مظاهرات 25 يناير" والتي انتهت بمقتل ثلاثة في السويس -نسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء- فكانت "جمعة 28 يناير"، وانهارت الشرطة وبدأت الثورة وشارك فيها الكثير من الشباب المصري غير المنتمي إلى أي تنظيم، كما شارك فيها التيار الإسلامي بصورة كبيرة جدًّا وإن كانوا قد استجابوا لنصائح باقي الميدان بعدم رفع شعارات إسلامية حتى يظل الميدان في أمان من أن يُستعمل ضده قانون الطوارئ.

ومِن ثَمَّ رفع الثوار مطالب شعبية عامة "عيش - حرية - عدالة اجتماعية"، ونجحت الثورة وتنحى مبارك وبدأت النخبة تمارس لعبتها المفضلة...

"النخبة" تشن حربًا غير مبررة على المادة الثانية:

تنحى "مبارك" وترك قيادة البلاد للمجلس العسكري، وهذا الإجراء لا يتوافق مع دستور 71 مما لزم معه تجميد الدستور وإصدار إعلان دستوري بتاريخ "13 فبراير" يعلن تولي المجلس العسكري شؤون البلاد، وكان المطروح حينها أن يتم تعديل المواد المتعلقة بشروط الترشح للرئاسة في دستور 71، وإضافة مادة انتقالية تنص على إدارة المجلس العسكري لشؤون البلاد إلى حين إتمام انتخابات الرئاسة، لكن النخبة أصرت على عمل دستور جديد بناءً على أن الثورات تسقط الدساتير "طبعًا عادة ما تردد النخبة آراءها بوصفها أحكام مطلقة لا تقبل النقاش اعتمادًا على أنهم نخبة ويجب على عامة الشعب الانصياع، وقد كشفهم الله فيما بعد حينما صدر مشروع دستور 2012 أكثر انحيازًا للأمة فطالبوا بالعودة إلى دستور 71 وهم الذين زعموا قبل عامين أن الثورة لا تكون ثورة إلا إذا أسقطته!".

ولم تخفِ "النخبة" نواياها بشأن الدستور الجديد الذي أزمعوا عليه؛ إذ انطلقت سهامهم صوب "المادة الثانية" متزامنة تزامن طلقات الرماة في كتيبة عسكرية محاربة، فالدكتور "عمرو حمزاوي" يصفها بأنها: "تمييزية بامتياز"، والدكتور "سعد الدين إبراهيم" يطالب بحذفها أو جعلها الأديان السماوية المصدر الرئيسي للتشريع، والدكتور "يحيى الجمل" يصفها بأنها ديكورية.

حينئذٍ أطلقت "الدعوة السلفية" حملة دفاع عن المادة الثانية، كما تبنى التيار الإسلامي ككل تعديل الدستور بدلاً من كتابة دستور جديد، وكان هذا راجعًا إلى أمرين:

الأول: أن كتابة دستور في ذلك الوقت كان يعني حذف "المادة الثانية" أو العبث بها أو إعادتها إلى الوراء بحذف "الـ" وجعلها: "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع".

الثاني: الرغبة في تقصير الفترة الانتقالية قدر الإمكان.

بينما رفعت النخبة شعار "الدستور أولاً"، وهو أمر مبني على أمرين -وهما عكس دوافع التيار الإسلامي تمامًا-:

الأول: الرغبة في أن تكتب "النخبة" دستور الثورة قبل أن يكتسب التيار الإسلامي شرعية الصناديق.

الثاني: الانفصال بين النخبة والجماهير جعلها لا تشعر بحاجة الجماهير إلى الاستقرار.

وهنا وقف "المجلس العسكري" موقفًا وسطًا حيث شكَّل لجنة تعديلات دستورية ذات توجه إسلامي؛ لأنهم "أصحاب خيار التعديل" بحيث يتم طرح هذا الاختيار على الشعب فإن وافق عليه وإلا سرنا في مسار "الدستور أولاً".

وكانت اللجنة كريمة للغاية فضمنت مادة تشير إلى أن من حق البرلمان القادم ألا يعتبر هذا الدستور "دستور 71 المعدل" دستورًا دائمًا، وفي هذه الحالة يشكِّل البرلمان بغرفتيه لجنة من مائة فرد لكتابة دستور جديد.

استفتاء "19 مارس":

تم الاستفتاء وشرح التيار الإسلامي خطورة مسار "الدستور أولاً" والذي كان يعني أن يتم تعيين لجنة من النخبة لكتابة الدستور، وقد علمنا أنهم أظهروا نواياهم العدائية تجاه المادة الثانية، وتحركت الآلة الإعلامية العالمانية لتقول للناس: "قولوا لا"؛ ولسبب أو لآخر كانت تقديرات القوم أن "الشعب" عليه أن يسمع كلام "النخبة" دونما تردد ولا تفكير، ولكن الشعب انحاز وبقوة إلى "نعم" فحصل الاستفتاء على 78%.

إعلام النخبة واحتقار الشعب المصري:

صُدِم إعلام النخبة صدمة كبيرة وفقد اتزانه، وبدأ في التعبير الصريح الفج عن عدائيته للشعب المصري حتى قال الدكتور "عبد الحليم قنديل": "صوت ممن قال لا بمائة ألف صوت ممن قال نعم"!

وعادت نغمة أن مَن صوتوا بـ"نعم" يأخذون زيت وسكر! وهي أكذوبة اخترعها "النظام السابق" ليقلل من شأن معارضيه -ولكنه اخترعها يوم اخترعها وهو يمنع بآلته الأمنية الناس من الوصول إلى صناديق الانتخابات- فكانت الاتهامات تطول عشرات الآلاف أو مئاتها على أكثر تقدير ممن يصوتون لصالح التيار الإسلامي، ولكن أن يتم ترديد هذا الاتهام وتوجيهه إلى 14 مليون مصري صوتوا بـ"نعم"؛ فأمر يدل على أن قائله يزدري الشعب الذي ينتمي إليه، ويدل على أن مقولة "عمر سليمان": إن الشعب غير مهيأ للديمقراطية كان لها من "النخبة" من يؤيدها!

وإذا نظرنا بين سطور هذا الاتهام والذي اختص في الاتهام "الزيت والسكر" رغم صعوبة تداولهما لوجدنا أن نفسية من أطلق هذا الاتهام تنطلق من أنه يرى الشعب عار جائع لا يبحث إلا عن أمنه الغذائي.

الإعلان الدستوري "30 مارس":

كان من المفترض أن يتم إعلان إعادة تفعيل دستور 71 معدلاً بالمواد الستة المستفتى عليها، ومنها: أن اعتماد دستور 71 أو إعداد دستور جديد هو أمر بيد البرلمان المزمع انتخابه، ولكن الأمة أخطأت في حق نفسها يوم سمحت للمجلس العسكري بإصدار إعلان دستوري يتضمن المواد المستفتى عليها وعدد محدود من مواد دستور 71، والنص على تشكيل لجنة لإعداد الدستور بعد الانتخابات البرلمانية على وجه اللزوم.

إلا أن الله -تعالى- قد جعل في هذا الاختيار خيرًا للأمة؛ لأنه هيأ لها فرصة للحصول على دستور أفضل من مجرد التعديل على دستور 71، إلا أننا نتحدث هنا عن التلاعب بالإرادة الشعبية ومجاملة "النخبة" مرة ثانية إذ أعطتها السلطة فرصة ثانية لتنفيذ رؤيتها وبقيت هذه النخبة تمني نفسها بالفوز بأغلبية برلمانية تتمكن معها من اختيار جمعية تأسيسية تعصف بالمادة الثانية!

وثائق الجمل - السلمي ومليونيتي 29-7-2011، و18-11-2011:

الفكرة المحورية التي ندور حولها في هذه الدراسة هي أنه عبر تاريخنا المعاصر وقفت الأمة في جانب، ومثلث "الحاكم - النخبة - الطائفية" في الجانب المضاد.

واليك شاهد صارخ على هذا:

كان "المجلس العسكري" يعاني في إدارة أحوال البلاد المضطربة وتعاون معه التيار الإسلامي، في حين حاولت النخبة إسقاط المجلس العسكري لصالح مجلس رئاسي مدني معين، وفي ذات الوقت سعى إليه أفراد من النخبة يطالبونه بإصدار وثيقة فوق دستورية تكون ملزمة للجمعية التأسيسية التي سوف ينتخبها الشعب.

ودارت هذه الوثائق على محورين:

الأول: التلاعب بالمادة الثانية وإضعاف صياغتها أكثر، بل والتلاعب بالمادة الأولى والتهرب من الكلام على الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية.

الثاني: وهو كالرشوة للمجلس العسكري ليقبل تمرير المشروع بالمخالفة للإرادة الشعبية متمثلة في توسيع صلاحيات الجيش في الدستور.

وتبنى الدكتور "يحيى الجمل" هذه الفكرة ومن بعده الدكتور "علي السلمي"، وتحرك التيار الإسلامي وأحبط هذه المحاولة وكانت "مليونية 29-7-2011" التي ما زال صداها إلى الآن، ومن بعدها "مليونية 18-11-2011"، وأحبطت محاولة استيلاء العسكر والنخبة على الدستور بفضل الله -عز وجل-.

وثيقة الأزهر ومحاولة فصل الأزهر عن الأمة:

بعد ما يئست النخبة العالمانية من تمرير وثائقهم ذهبوا إلى الأزهر وانتزعوا منهم وثيقة وصفت بأنها استرشادية يتفق عليها الجميع لكي يتبنوها في الجمعية التأسيسية حال تكوينها، وكانت فيها صياغة المادة الثانية أيضًا صياغة أضعف مما هي عليه في دستور 71 حيث نصت على: "المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وان كان من مزاياها أن الوثيقة لم تقر "مصطلح الدولة المدنية" التي كانت تلك القوى تقاتل من أجل إقحامه في الدستور، ووافقت جميع القوى المشاركة، ومنها: "الدعوة السلفية" التي وافقت احترامًا للأزهر، ولكنها دونت أربع ملاحظات كان أهمها: أننا نريد أن نرتفع بصياغة المادة الثانية عما كانت عليه لا أن نرجع بها إلى الوراء، وهو ما انضم إليها فيه الجماعة الإسلامية.

إن "الدعوة السلفية" يوم فضلت أن تعبِّر عن موقفها بالقبول المتحفظ بدلاً من الرفض كانت تعي أنها لا يمكن في هذه المرحلة الحرجة أن تَرضى بفصل الأزهر عن الأمة أو فصل الأمة عن الأزهر، وظلت على مثابرتها في هذا الأمر حتى خرج "دستور 2012" بفضل الله -عز وجل- بتوقيع ثلة من كبار علماء الأزهر ومفكريه.

الانتخابات البرلمانية - الجمعية التأسيسية:

تمت الانتخابات البرلمانية وحاز فيها التيار الإسلامي على أغلبية، ووفق الإعلان الدستوري كان يمكنه أن يشكِّل جمعية تأسيسية كلها من الإسلاميين، ولكنه تنازل عن هذا ورضي بالمحاصة بحيث يكون لكل حزب في البرلمان حصة من المائة عضو تعادل نسبته في البرلمان "وهذا كرم لا تعرفه السياسة"، ولكنه لم يُقابل بالشكر؛ وإنما قوبل بالجحود والطعن على قرار البرلمان باختيار الجمعية التأسيسية أمام القضاء الإداري باعتباره قرارًا إداريًّا!

وهي سابقة أظنها سوف تُدرَّس في كتب التاريخ، والأعجب من ذلك أن المحكمة قبلت الطعن شكلاً وموضوعًا، وقضت بحل الجمعية التأسيسية.

وبينما كانت الجمعية التأسيسية الثانية في طور التشكيل كان هناك قضية أمام المحكمة الدستورية تطعن في دستورية البرلمان ذاته، وفي سابقة خطيرة من نوعها أيضًا كان قد سرب للجميع أن الحكم سيكون بحل البرلمان، وفي ذات الوقت ضغط المجلس العسكري بكل قوة قبل أن يسلم الرئاسة بأيام؛ لكي يتم توافق تم من خلاله منح "النخبة" مقاعد في التأسيسية تفوق نسبتهم داخل البرلمان وبالفعل تم لهم ذلك!

بعد تشكيل اللجنة التأسيسية تم الاتفاق على أن يكون التوافق مقدمًا فإن احتدم الخلاف يتم التصويت، فإن حازت المادة 67% اُعتمدت وإلا عادت للمناقشة بحثًا عن توافق  ويعاد التصويت عليها وتعتمد في هذه المرة بنسبة 57% وإلا حذفت من الدستور، إلا أن المعسكر العالماني في التأسيسية أصر على عدم اللجوء إلى التصويت وإطالة المناقشات بحثًا عن التوافق الذي أمكن الوصول إليه في كل المواد قبل أن ينفجر التيار العالماني ويترك التأسيسية متترسًا بالفلول الذين أشاعوا الفوضى والاضطراب.

لقد حاول التيار الإسلامي أن يحتوي الآخرين؛ حتى لا يلجئهم إلى هذا الأسلوب، ولكنهم استثمروا حرص التيار الإسلامي على مصلحة البلاد وإدراكهم لحاجة البلاد إلى دستور بشكل غير مقبول بالمرة.

منهج عمل فريق "الدعوة السلفية" داخل التأسيسية:

نظرًا للظروف التي أشرنا إليها آنفًا ونتيجة لهذه التوازنات الكثيرة التي فرضت على الجمعية التأسيسية، ونتيجة لاختلاف سقف الطموحات بين الفصائل الإسلامية الممثلة في الجمعية التأسيسية بالإضافة إلى أهمية الحفاظ على مؤسسة الأزهر والتي كان يمارس عليها ضغوط شديدة من أجل إبداء مزيد من المرونة مع العالمانيين من أجل الحفاظ على استقرار مصر.

فمِن ثَمَّ تمثل منهج فريق عمل الدعوة السلفية في الآتي:

1- عرض المقترح الشرعي الخالص مع التمسك به قدر الإمكان، ونعني بالمقترح الشرعي الخالص هو المقترح المنضبط لفظًا ومعنى، والمستغني عن ذكر قيود من خارجه.

2- فإن لم يؤخذ به يتم المطالبة بإضافة قيود وتوضيحات في صلب الدستور في ذات المادة أو في غيرها.

3- خط الدفاع الأخير هو طرح هذه القيود على الجمعية التأسيسية وتدوين الإقرار بهذه الضوابط في المضابط، مع الأخذ في الاعتبار أن المضابط هي المرجع الأساسي في تفسير مواد الدستور "يراجع في ذلك حكم المحكمة الدستورية بدستورية حل المحافل البهائية".

وإليك بعض الأمثلة على تطبيق ذلك المنهج:

1- الديمقراطية والشورى:

تم طرح وضع كلمة الشورى بدلاً من كلمة الديمقراطية وبالطبع رفض هذا الاقتراح؛ لأن القوم متخوفون من أن يكون وراء الأمر تمرير للديكتاتورية بصورة أو بأخرى، فتم طرح إضافة الشورى إلى الديمقراطية مع فصلهما عما بعدهما بعلامة الترقيم "؛" لكي يعاملا معًا معاملة "العَلَم المركب".

وتم توضيح سبب التعديل وأدرج في المضابط أن الديمقراطية التي نسمح بها ديمقراطية لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً؛ هذا بالإضافة إلى المادة الثانية التي تعتبر في حد ذاتها قيدًا مستقلاً.

2- السيادة لله:

تم تقديم اقتراح بأن ينص الدستور على أن: "السيادة لله وقد جعلها للشعب في مراقبة الحاكم"، وتم رفض هذا الاقتراح متعللين بالتعليل الآتي: "إن الدستور عقد بين البشر لا سيما بين الحاكم والمحكومين، والمطلوب بيان سيادة الشعب على الدولة والحكومة، وأما سيادة الله على الجميع فخارجة عن موضوع الدستور من جهة وعلى فرض دخولها فيغني عن إعادة ذكرها المادة الثانية".

وهذا التفسير هو نوع من تقييد سيادة الشعب مما لا يجعلها منافية للشرع، وهو أمر لا تزول معه الشبهة إلا بمراجعة المضبطة، ولكن هذا ما تيسر.

3- ضبط الحريات:

تمت المطالبة أولاً بإضافة قيد عدم مخالفة الشرع في كل مواد الحريات، ولما تبرم البعض من ذلك تم الاكتفاء بمادة ضابطة واحدة تنص على ممارسة الحقوق والحريات بما لا يخالف مقومات الدولة المذكورة في باب المقومات الأساسية وهي تشمل الشريعة بالإضافة إلى العادات والتقاليد.

4- المساواة بين الرجل والمرأة:

كان نص هذه المادة في دستور 71: "المساواة بين الرجل والمرأة بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية".

ومع هذا أصر ممثلو الأحزاب العالمانية على حذف ضابط "بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية" زاعمين أن في الإصرار على تقييد هذه المادة رغم وجود المادة الثانية وما أضيف إليها من تفسير في المادة 219، أن في ذكر هذا القيد إيماء بأن الشريعة لم تأتِ بالمساواة.

وعلى أي فقد انتهى الأمر بحذف المادة نهائيًّا اكتفاءً بما تقرر من مواد أخر من عدم التمييز بين المواطنين، ولكن من باب توضيح هذه القضية نقول: إن الله أمر بالعدل لا سيما بين الرجل والمرأة في قوله -تعالى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ(البقرة:228).

وهذا يعني أن كل حق أمامه واجب، وأما لفظ المساواة فيحتمل هذا المعنى الحسن ويحتمل أيضًا إلغاء الفوارق بين المختلفين لا سيما عندما يذكر في شأن المساواة بين الرجل والمرأة "في الغرب يدفع الطرف الأعلى دخلاً نفقة للطرف الآخر عند حدوث الطلاق وهذا على سبيل المثال"، ومِن ثَمَّ فإذا ذكر لفظ المساواة فلابد من القيد، وأما العدل فلا يحتاج إلى هذا القيد.

5- المادة الثانية:

حاجة هذه المادة إلى التجويد والتفعيل.

بيَّنا في فقرة سابقة حاجة هذه المادة إلى التجويد لا سيما بعد ما لحقها من تفسيرات متعسفة من المحكمة الدستورية فضلاً عن تفسيرات أخرى أشد تعسفًا بدأ الترويج لها، وبناءً عليه تقدمت "الدعوة السلفية" باقتراح تعديل نص المادة إلى "الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع" بينما مالت جماعة الإخوان إلى الإبقاء على نص المادة كما هو.

وهرع ممثلو الأحزاب العالمانية إلى الأزهر الذي تدخل لإقناعنا بالإبقاء على كلمة "مبادئ"؛ لأن لدى التيارات الأخرى تخوفات من حذفها، وبعد طول نقاش ولحرصنا على أن يظل الأزهر في قلب الصورة طالبنا في المقابل أن يضمن لنا الأزهر تفسيرًا لكلمة مبادئ غير تعريف "قطعي الثبوت والدلالة معًا" الذي اعتمدته المحكمة الدستورية في كثير من أحكامها.

ولما نمى إلى علم بعضهم هذا الاتفاق فرح به وطالب بإدراجه في متن المادة الثانية إلا أنه عاد في اليوم التالي فسحب هذا الاقتراح!

وكان من ضمن الاقتراحات المقدمة مادة تتحدث عن الأزهر، فتم اقتراح أن يضاف إليها أنه يجب الرجوع إليه فيما يخص الشريعة الإسلامية إلا أن الأحزاب العالمانية اعترضت بزعم أن هذا يجعل هيئة كبار العلماء فوق المحكمة الدستورية، وهذا يشبه نظام ولاية الفقيه في إيران فتم التوافق على جعل رأي الأزهر استشاريًّا فقط.

ومن المفيد هنا أن نفند هذه الشبهة من وجهين:

الأول: أننا لا نسلم مطلقًا بالشبه المزعوم حيث ولاية الفقيه الإيرانية ولاية دينية على الأفراد ثم هي ولاية دستورية عامة لها صلاحيات فوق أجهزة الدولة، في حين أن دور الأزهر المقترح هو مشابه للجان الخبراء التي تحيل عليهم المحاكم الأمور الفنية، وتلتزم برأيهم الفني في سياق نظر القضية ككل، وهكذا يلزم المحكمة الدستورية أو غيرها أن تلتزم عندما تبحث عن مدى موافقة قانون ما للشريعة بتقرير هيئة كبار العلماء.

الثاني: أن محاولة التنفير من فكرة ما أو مبدأ ما بأنه يشبه كذا... إنما هو نوع من قصور الحجة، فما من فكرة صحيحة إلا وتشبه بعض الأفكار الفاسدة في بعض الوجوه والواجب على المعترض على هذه الفكرة أن يبين ما له عليها من اعتراضات بدلاً من العدول إلى مثل هذه الحيل

وبعد أن انتهى الاتفاق على أن رأي الأزهر غير ملزم كان لابد من بحث عن تجويد للمادة الثانية فاقتُرح إضافة مادة جديدة تقول: "لا يجوز سن قانون يخالف الشريعة الإسلامية" ووافقت عليه القوى المدنية أولاً ثم عادت فنقضته.

وجاء الفرج أخيرًا باقتراح أن تقرر هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف تعريفًا لمبادئ الشريعة وترسله إلى الجمعية التأسيسية، وتدرجه كمادة جديدة في الدستور.

وأرسلت هيئة كبار العلماء التعريف التالي: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية" فاقترحنا زيادة "ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة" فوافقت هيئة كبار العلماء، وصارت الصياغة النهائية للمادة التي أخذت رقم 219: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة".

ومزية ذكر "المصادر" أنها مصطلح منضبط يشمل الكتاب والسنة والإجماع والقياس فضلاً عن مصادر أخرى ثانوية، فهذه المادة تحيل إلى تلك المصادر مع التقيد بمذاهب أهل السنة والجماعة، وهذا فيما نرى يعد قدرًا كافيًا من تجويد تلك المادة.

وأما تفعيلها: فيحتاج إلى عمل برلماني شاق وإلا لو فعلت فورًا فسوف يلزم من هذا الإفراج الفوري عن جميع المجرمين الذين يعاقبون بعقوبات وضعية في ظل عدم وجود قوانين بديلة مستمدة من الشريعة.

ومِن ثَمَّ تم القبول بالمادة 222 والتي كانت تنص على أن ما مضى من قوانين يبقى صحيحًا ونافذًا فتم تعديلها إلى أنه يبقى نافذًا فقط دون وصفه بالصحة.

وأما المادة 67 التي أصبح نصها: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني أو دستوري"، فكان الغرض من إضافة كلمة دستوري هنا الدلالة على أن كل ما يخالف الشريعة فهو جريمة وإن لم يرتب القانون عليها عقوبة.

كان هذا هو ما بذل من جهد في جانب موقع الشريعة من الدستور متزامنًا مع جهود أخرى في سائر أبوابه مما هو خارج عن موضوع هذه الدراسة.

وبينما الجمعية التأسيسية تنهي أعمالها إذا بالكنيسة تعترض على المادة 219 المفسرة لمبادئ الشريعة والمادة 4 المحددة لدور الأزهر! وتتوالى بعدها الانسحابات من التيار العالماني...

وتخرج المظاهرات المحتضنة للطرف الثالث الذي خلع برقع الحياء، وصار يتحرك في وضح النهار وظهرت الحقيقة التي توقعها الجميع؛ "الطرف الثالث هم الفلول"، ولكنهم في هذه المرة عادوا في كنف الثوار "واحسرتاه!"؛ لكي يمنعوا الشعب من الاستفتاء على دستور وصفوه مرة بأنه دستور السلفيين وأخرى بأنه دستور الإخوان، وهو كما رأيت في هذا السياق من حيثية مرجعية الشريعة هو "دستور الأزهر".

ووقف الإسلاميون الذين طالما اُتهموا بالديكتاتورية ينادون القوم إلى صندوق الانتخابات فيرميهم الاشتراكيون والليبراليون والفلول بقنابل المولوتوف.

وهذا موقف قد نجلي لك بعض خلفياته في العدد القادم -إن شاء الله-.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي