الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في مواقف وذكريات

احيانا يكون فى قصص الواقع ومواقفه التى يعيشها المرأ من العظة والعبرة إذا تأملها الإنسان

تأملات في مواقف وذكريات
ياسر برهامي
السبت ٠٥ يناير ٢٠١٣ - ١٨:٣٧ م
3087

تأملات في مواقف وذكريات


 

كتبه/ ياسر برهامي*

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأحيانًا يكون في قصص الواقع ومواقفه التي يعيشها المرء من العظة والعبرة إذا تأملها الإنسان في ضوء قوله -تعالى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً(الإسراء:21)، مع استحضار لزوم التأسي بالخير وترك التأسي بالشر حتى يصلح الإنسان دينه ودنياه، ويزكي نفسه فيفلح (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(الأعلى:14).

وفي مواسم الانتخابات والترشيحات والمنافسات والتحالفات تكثر التفاوتات بين الشخصيات، وتقع كثير من المفارقات ينتفع الإنسان بها جدًّا إذا تناولها على سبيل الاستفادة أو مجرد الحكاية.

وقفت وتأملتُ بعض القصص والمواقف التي تذكرتها، ورأيت فيها من دلائل قدرة الله على قلوب الخلق وأخلاقهم وأعمالهم ما بهرني، فأحببت أن أنقلها للقارئ الكريم كي يشترك معي في الانتفاع بها دون نظر أو بحث عن أصحاب الشخصيات التي وقعت منها هذه الأحداث، فليس فيها كبير فائدة.

القصة الأولى: أثناء منحة السجن سنة 2002م، ونحن عائدون في سيارة الترحيلات بعد العرض على نيابة أمن الدولة العليا طوارئ التي جددت حبسي ككل مرة ومجموعة من الإخوة في حين حصل أحد الإخوة على الإفراج، وكان معنا في السيارة المُرحَّلة إلى النيابة أيضًا الأستاذ "محمود شكري" -رحمه الله- أحد قادة الإخوان القدامى ومن تلامذة الأستاذ حسن البنا -رحمه الله- وكان فوق الثمانين عامًا، وأصر ضباط أمن الدولة أن يركب في السيارة صعبة الصعود جدًّا بالنسبة له وهو شيخ كبير!

وأثناء الطريق ونحن نتناول الضحكات بعد تجديد الحبس إذا بالأخ المفرج عنه ينفجر في البكاء ليس فرحًا بالإفراج، بل كما قال -حين سألناه- حزنًا على فراق الإخوة الذين قضى معهم في السجن أسعد الأوقات أكثر من سعادته بمعارفه وأولاده.

فقلت للأستاذ محمود -رحمه الله-: "هل رأيت يا أستاذ محمود أخًا يبكي حزنًا على الإفراج والخروج من السجن؟!".

فرد قائلاً: "الأخوة الصادقة تفعل أكثر من ذلك؛ لأن الاشتراك في العمل في الدعوة إلى الله -عز وجل- من أسعد لحظات المسلم، ولا يشعر بألم السجن وسط دفء الإخوة وإخوانه في الله -عز وجل- أحب إليه من أهله -أو كلمة نحوها-".

تأملتُ في هذه القصة وأنا أرى أجسادًا تجتمع وتفترق... وتبقى الأرواح مجتمعة طالما كان اجتماعها لله وعليه، وأرى في المقابل أجسادًا تجتمع والأرواح مفترقة إذا كان اجتماعها للدنيا، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل، وأبشع ذلك وأشده ألمًا ما يكون من بغضاء ولعن يوم القيامة ممن كان اجتماعهم على الدنيا دون مبادئ أو قيم كما قال الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(العنكبوت:25).

القصة الثانية: حين وقع الاختيار على أحد الإخوة لمنصب قيادي رفيع في العمل، وظهرت نتيجة التصويت التي حصل فيها على المركز الأول وكان قد حاول قبل ذلك أن يستعفي من هذه المهمة، ورُفض طلبه فنظرت إلى وجهه لأنظر إلى قسمات الوجه: هل يبتسم فرحًا بالدنيا المقبلة فإن المهمة لها جاه كبير وسمعة هائلة في الناس؟ فإذا بوجهه يظهر عليه من الغم والهم ما لا يخفى على الناظر، وبلا بسمة واحدة وكأنه سمع خبرًا أزعجه أو علم بموت قريب له أو نحو هذا، فأعاد طلب الإعفاء فأكد الإخوة جميعًا رفضهم لذلك؛ فقبل منهم مضطرًا كارهًا وبشَّرته بالإعانة من الله والبركة إذ لم يطلبها ولم يسعَ إليها.

وتذكرت أخًا آخر عندما طلب منه الترشح في الانتخابات ظل يبكي ويقوم الليل ويدعو في ثلث الليل الآخر أن يقبل الإخوة إعفاءه وألا تقبل أوراقه أو شيء يتخلص به من المسؤولية، ولكن سبق القدر ورُشح ونجح وأثبت رغم انعدام الخبرة السابقة نجاحًا كبيرًا في مكانه حاز إعجاب المخالف قبل الموافق، وفاق به من لهم خبرة سنوات طويلة.

تأملت في ذلك وأنا أرى كيف يتنافس المتنافسون على مثل هذه الترشيحات وكم تدفع فيها من ملايين بلا مبالغة! ثم تضيع الدنيا والدين في خِضم إرادة الدنيا فلا تحصل الدنيا ولا يبقى الدين، قال الله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(هود:15-16).

الموقف الثالث: بينما أنا في طريقي إلى جنازة أحد الإخوة الذين كانوا من أوائل الملتزمين بالدعوة -رحمه الله- إذا رجل يلمحني في السيارة ويقبل متهللاً ويقول: دكتور ياسر برهامي! ويسلم بحرارة بالغة لا يخفى فيها صدق الترحيب ويدعونا لشرب شيء في محله القريب، ثم قال لي بطريقة فاجأتني: أنا مسيحي ومع ذلك أحبك وأحترمك جدًّا، وتعجبني طريقتك... ولم يتركنا حتى وعدته أن أعود إليه بعد الجنازة لشرب شيء عنده، وعدت إليه فعلاً وفاءً بالوعد وتأكيدًا على معنى حسن العشرة والبر والقسط الذي شرعه الله.

واستقبلنا هو وكل من معه في محله من المسيحيين بنفس الحفاوة التي يصعب أن تكون مصطنعة أو متكلفة؛ إذ لا سبب لذلك، فهم الذين بدءوا بها فدلت على حسن الجوار بيننا وبينهم عبر مئات السنين رغم اختلاف الدين.

وتأملت في قدرة الله -عز وجل- على تقليب القلوب... ! كيف يحدث هذا مع الحملة  الشرسة في الليل والنهار لتشويه الصورة؟!ليتصور الناس الدعاة في صورة الشياطين والقتلة وسفاكي الدماء... ومع ذلك يحدث العكس فبدلاً مما أراده السحر الحديث "أعني الإعلام" سحر البيان في هذا الأمر يقلِّب الله قلوب الخلق على حب من أراد الله أن يحبوه.

اللهم ألق علينا محبة منك، وارزقنا حبك وحب من أحبك والعمل الذي يبلغنا حبك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نشرت بجريدة "الفتح" عدد (65)، الجمعة 22 صفر 1434هـ - 4 يناير 2013م.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة