الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

معركة اليمامة

معركة اليمامة
محمود عبد الحميد
الثلاثاء ١٠ يونيو ٢٠٠٨ - ٠٠:٠٠ ص
4938

لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب عدا أهل المسجدين مكة والمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة حتى بلغوا نحوا من أربعين ألفا، فبعث أبو بكر -رضي الله عنه- خالد بن الوليد إلى قتالهم وحشد معه المسلمين، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكل بهم، وأردف الصديق خالداً بسرية لتكون ردءاً له من وراءه.

فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له عقرباء في طرف اليمامة، والريف وراء ظهورهم، وندب الناس وحثهم، فحشد له أهل اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشه المحكم بن الطفيل ونهار الرجال بن عنفوة، وكان الرجال صديقه الذي شهد له كذباً أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إنه أشرك معه مسيلمة في الأمر، وقرب خالد وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا حذيفة، وقد مرت المقدمة بالليل بنحو من أربعين -وقيل ستين- فارساً عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له من بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم، فلما جيء بهم إلى خالد قال لهم: "ماذا تقولون يا بني حنيفة؟"، قالوا: "نقول منا نبي ومنكم نبي"، فقتلهم إلا واحداً اسمه سارية بن عامر، فقال له: "أيها الرجل إن كنت تريد بهذه القرية غداً خيراً، أو شراً فاستبق هذا الرجل -يعني مجاعة بن مرارة-"، فاستبقاه خالد مقيداً وجعله في الخيمة مع امرأته، وقال: "استوصي به خيراً".

وتقدم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يشرف على اليمامة، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، والعرب على راياتها، فاصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة، وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وقتل زيد بن الخطاب الرجال بن عنفوة لعنه الله، ثم تذامر الصحابة بينهم، وقال ثابت بن قيس: "بئس ما عودتم أقرانكم"، فنادوا من كل جانب، فخلصت إليهم ثلة من المهاجرين والأنصار، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعل الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: "يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم"، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتاً حتى قُتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: "نخشى أن نؤتى من قبلك؟"، فقال: "بئس حامل القرآن أنا إذاً"، وقال زيد بن الخطاب: "أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدماً"، وقال: "والله لا أتكلم اليوم حتى يهزمهم الله، وألقى الله فأكلمه بحجتي"، فقتل شهيداً -رضي الله عنه- وقال أبوحذيفة: "يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال"، وحملوا عليهم وحمل خالد بن الوليد وجعل يترقب أن يصل إلى مسيلمة فيقتله، ثم وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وقال أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله.

ودارت رحى المسلمين ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه الرجوع إلى الحق فجعل شيطانه يلوي عنقه لا يقبل من خالد شيء، فانصرف عنه خالد، وميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وجعل كل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يأتون، وصبر الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفار الأدبار، واتبعونهم يقتلونهم حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم المحكم بن الطفيل - لعنه الله - بدخولها فدخلوها وفيها مسيلمة الكذاب عدو الله - لعنه الله -.

وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر المحكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت الحديقة عليهم، وأحاط بهم الصحابة، وقال البراء بن مالك: "يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة"، فاحتملوه فوق الدروع، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة حتى خلصوا إلى مسيلمة -لعنه الله- وإذا هو واقف في فرجة في جدار كأنه جمل أورق، وهو لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم -قاتل حمزة بن عبد المطلب- فرماه بحربته فأصابه، وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فضربه بالسيف فسقط، فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل - وقيل أحد وعشرون ألفاً - وقتل من المسلمين ستمائة، وفيهم من سادات الصحابة وأعيان الناس.

وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرف مسيلمة، فمروا بالرجال بن عنفوة، فقال له خالد: "أهذا هو؟"، قال: "لا والله، هذا خير منه، هذا الرجال بن عنفوة"، ثم مروا برجل أفطس الأنف أصفر فقال: "هذا صاحبكم؟"، قال: "نعم"، قال خالد: "قبحكم الله على اتباعكم هذا".

ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، ثم عزم خالد على غزو الحصون، ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار، فخدعه مجاعة بن مرارة فقال إنها ملأى رجالاً ومقاتلة فهلم فصالحني عنها، فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد، وقد كلوا من كثرة الحروب والقتال، فصالحه خالد على الذهب والفضة والسلاح وربع السبي، فلما فرغا فتحت الحصون فإذا ليس فيها إلا النساء والصبيان، فقال خالد لمجاعة: "ويحك خدعتني"، قال: "قومي ولم أستطع إلا ما صنعت"، ودعاهم خالد إلى الإسلام، فأسلموا عن آخرهم، ورجعوا إلى الحق، ورد عليهم خالد بعض ما كان أخذ من السبي، وساق الباقين إلى الصديق، وقد تسرى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بجارية منهم، وهي أم ابنه محمد الذي يقال له محمد بن الحنفية -رحمه الله- وكانت هذه الموقعة في آخر السنة الحادية عشر من الهجرة وأول السنة الثانية عشر من الهجرة النبوية الشريفة.

منقول بتصرف من البداية والنهاية لابن كثير ج6 ص355 وما بعدها

 

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف