الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

"مبادرة النور"... لمصالحة بالحق لا على حساب الحق

فإن الإصلاح بين أبناء الأمة والوطن الواحد لابد منه إذا تنازعوا لتستقيم حياة المجتمع ويتجه نحو العمل المثمر،

"مبادرة النور"... لمصالحة بالحق لا على حساب الحق
محمود عبد الحفيظ
الأحد ٠٣ فبراير ٢٠١٣ - ٢٢:٤٤ م
2415
"مبادرة النور"... لمصالحة بالحق لا على حساب الحق

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الإصلاح بين أبناء الأمة والوطن الواحد لابد منه إذا تنازعوا لتستقيم حياة المجتمع ويتجه نحو العمل المثمر، فإن اجتماع الشمل وزوال الشقاق سبيل إلى التنمية والبناء وتحقيق المصالح المشتركة التي تصب في مصلحة الوطن في المقام الأول، وسبيل لتحقيق الأمن والاستقرار الذي يوفر الجو الهادئ الذي يتمكن فيه الجميع من العمل والمنافسة الشريفة رغم الاختلاف الديني والمذهبي والفكري والسياسي.

وقد كان الإصلاح من مقاصد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسالته على كافة المستويات، ونهى الله عن الفساد في الأرض بعد إصلاحها فقال: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف:56)، وإنما صلحت الأرض ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أوحاه الله إليه من الشريعة العامة الشاملة، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "إن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد فهو من المفسدين في الأرض" (تفسير ابن أبي حاتم).

بل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فإذا كان مَن أفسد على الناس شيئًا ينتفعون به كشجرة في فلاة يستظلون بها فيقطعها بغير فائدة يصوِّب الله رأسه في النار لما فيما فعله من فساد؛ فكيف بمن يعتدي على الأموال العامة والخاصة ومنشآت الدولة، بل يعتدي على أعراض الناس ودمائهم؟!

كيف لا يتحرك أهل الحق وذوي الحِجَا والرأي لمنع هذا الفساد بما يقدرون عليه؟!

وكيف يُذم من دعا إلى حوار ونقاش "رغم أنه ليس بأول الداعين إليه أو المشاركين فيه" للوصول إلى أقرب ما يكون إلى الحق والعدل إن لم يتيسر إزالة هذا الفساد ومنعه؟!

وقد أخبر الله -تعالى- وأنزل في كتابه الكريم أن كثيرًا من نجوى الناس وكلامهم لا خير فيه -ومما استثني من ذلك الإصلاح بين الناس- فقال: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:114)، وقال نبي الله شعيب -عليه السلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).

بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذهب بنفسه للإصلاح بين الناس: فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَ: (اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) (رواه البخاري).

وعنه أيضًا -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَحَانَتِ الصَّلاةُ فَجَاءَ بِلالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ حُبِسَ وَحَانَتِ الصَّلاةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ بِلالٌ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ... " (رواه البخاري ومسلم).

ومدح النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بقوله: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (رواه البخاري).

فالإصلاح بين الناس من أعظم الأعمال وأجلِّها وقد وعد الله من يقم به ابتغاء مرضاته بالأجر العظيم، ولأن الغرض من ذلك ابتغاء مرضات الله وتقليل الشر والفساد بما أمكن دون إخلال بأمر الدين رضي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَبِل بالمعاهدة مع المشركين في الحديبية وقَبِل الشروط الجائرة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، ورضي أن يرجع إلى المدينة -صلى الله عليه وسلم- وقد كان بإمكانه أن يدخل عليهم مكة عنوة هو وأصحابه -رضي الله عنهم-؛ ولولا ما استشعره المشركون من قوته -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وتغير موازين القوى لما قبلوا بمبدأ المصالحة والمعاهدة.

وقد سمى الله -تعالى- صلح الحديبية فتحًا "رغم ما كان فيه من شروط مجحفة وجائرة بأهل الإسلام"؛ لما كان فيه من الاستقرار النوعي ووجود الحوار الذي تمكنت فيه الدعوة من الظهور كما هي عليه، فكان أن اطلع الناس على رسالة الإسلام وما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- ودحضت شبهات المشركين وتشويشاتهم، فإن المعتقدات والأفكار لا تنتشر بالإرهاب والإكراه قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ:46).

ومبدأ الحوار للوصول إلى أحسن ما يُقدر عليه من النتائج والمصالح لا ينبغي أن يُختلف عليه بحال، وإلا فكيف يحصل الخير ويندفع الشر إذا ضعف السلطان أو غاب؟!

وهل قامت دعوة الأنبياء والرسل وأتباعهم من سائر المصلحين والدعاة إلى الله إلا على هذا المبدأ في المقام الأول؟! بل قد فتحت بلدان بأسرها ودخلها الإسلام بذلك، بل كان أول سفير في الإسلام مصعب الخير، مصعب بن عمير -رضي الله عنه- لا ينكر أثره في تهيئة المدينة قبل مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، وكيف أسلم من أسلم على يديه -رضي الله عنه-.

وقد تحاور النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَن هم مِن أشر الناس وأظلمهم كاليهود والمشركين ونحوهم، بل قد أمر الله نبيين كريمين، موسى وهارون -عليهما السلام- بأن يلينا القول لعدو الله فرعون استمالة لقلبه إلى الحق والإيمان فقال لهما: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:43-44).

فمن عجب أن تكال الاتهامات لحزب النور "الذراع السياسي للدعوة السلفية" ومِن ورائه الدعوة؛ لقيامه بمبادرة ودعوته إلى تهدئة الأوضاع ولم الشمل، والاجتماع على مائدة مشتركة للحوار الجاد الذي يخرج حلاً تخرج به البلاد مما هي فيه... ! ومما يزيد من التعجب أن حزب النور لم يكن أول من دعا إلى مثل هذا الحوار، ولم يتنازل عن شيء من الحق أو يتخلى عن مبادئه حتى يطعن عليه "وليست المبادرة موجهة ضد أحد ولا تحالفًا جديدًا ولا شقًا للصف الإسلامي كما يزعم البعض! وإنما هي دعوة للحوار تتضمن عناصر جادة لنزع فتيل الأزمة وتهدئة الخواطر والأوضاع حتى تعود مؤسسات الدولة إلى التعاون فيما بينها وليس الصراع حتى تتمكن من ممارسة دورها وحفظ الأمن وتحقيق الاستقرار والتنمية، فلابد أن تعود الشرطة والجيش والأحزاب السياسية إلى أداء عملها، ولابد أن نهيئ جوًّا هادئًا لانتخابات نزيهة يستحيل أن تُجرى في ظل أجواء الاحتقان بالنزاهة المطلوبة" (مقال: مبادرة النور... لماذا؟! د.ياسر برهامي).

وقد جعل الله -تعالى- صدى وقبولاً لمبادرة حزب النور بما لم يقع لمحاولات سبقت ذلك، بل فرح بها أكثر الناس -بفضل الله- ويستبشرون بها خيرًا لما يعلمون من حرص أبناء الحزب والقائمين عليه على رأب الصدع والخروج من المضيق الحرج الذي تمر به البلاد.

ونحسب أن ذلك الخير لما عليه إخواننا من إخلاص النية لله في ذلك -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا-، فإن النية الحسنة لها أثر عظيم في تحقيق التوفيق وحصوله وإزالة الخلاف والشقاق، قال الله -تعالى- في بيان أثر نية الحكمين في الإصلاح بين الزوجين الذين وقع بينهما الشقاق: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء:35)، فانعكست النية الطيبة للحكمين على الزوجين، وآتت ثمارها الحسنة في حصول الوفاق بينهما بعد الشقاق والخلاف.

نسأل الله أن يصلح بلادنا وأهلها، وأن يحفظها من كل سوء وشر.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي