الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

النجاة والائتلاف في العدل والإنصاف

إن أهل العلم والدعاة إلى الله أولى الخلق بالمعاملة بالعدل والإنصاف وجمع الناس عليهم

النجاة والائتلاف في العدل والإنصاف
محمود عبد الحفيظ
الاثنين ٠٤ مارس ٢٠١٣ - ١٠:٣٧ ص
2181
النجاة والائتلاف في العدل والإنصاف
22-ربيع ثاني-1434هـ   4-مارس-2013      

كتبه/ محمود عبد الحفيظ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن العدل والإنصاف دليل على كمال الإيمان وصحة الإسلام، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ(رواه مسلم)، فمن "أسباب النجاة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر الإنصاف والعدل في معاملة الخلق، وأن يفعل المرء مع الناس ما يحب أن يفعله الناس معه، فلا يقدِّم نفسه عليهم ولا يفعل معهم ما لو فعلوه معه للامهم على ذلك أعظم اللوم" (شرح كتاب الإمارة من صحيح مسلم لـ د.ياسر برهامي).

وبالعدل والإنصاف ينال العبد محبة الله -تعالى-، قال الله -عز وجل-: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(الحجرات:9)، وبهما تُنال الدرجات والمقامات الرفيعة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا(رواه مسلم).

والإنصاف عامل أساسي في استقرار المجتمع؛ فبه تعود الحقوق إلى أصحابها ويحصل الأمن والطمأنينة، وتسود روح العدالة وتشيع المحبة بين الناس، ويكون النصح والتنافس الشريف، وأما إذا لم يقع ذلك الإنصاف -خصوصًا من الشيوخ والكبراء وذوي الوجاهات- حل محل ذلك الحقد والكراهية والحسد -ممن لم يتربَ ويتأدب بأدب الشرع ويعتد الصبر والاحتساب- وسادت في المجتمع روح الأنانية، ووجدت المكائد والمؤامرات التي يلجأ إليها في العادة المقهورون والحاقدون.

لذلك أمر الله بالعدل والإنصاف مع جميع الناس حتى مع المخالفين لنا في الدين فقال: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(الممتحنة:8)، وقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ... (النساء:135)، وقال: (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(الأنعام:152)، بل بعد أن أمرنا الله -تعالى- بلزوم القسط والقيام به عمومًا في قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ... ) نهانا -عز وجل- أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل والإنصاف معهم فقال عقب ذلك: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلا تَعْدِلُوا) ثم كرر -عز وجل- الأمر بالعدل تأكيدًا عليه فقال: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ(المائدة:8).

وإذا كانت الآية الكريمة فيها هذا التنبيه العظيم على وجوب العدل والقسط حتى مع من نبغضهم من الكافرين والمجرمين؛ فكيف بضرورة ذلك مع أهل الإسلام والإخوة في الدين؟!

إن أهل العلم والدعاة إلى الله أولى الخلق بالمعاملة بالعدل والإنصاف وجمع الناس عليهم وتوقيرهم وتعظيمهم وإعانتهم على نشر العلم والحق والتمكين لدين الله وشريعته.

وإلا فلمصلحة مَن أن ينشغل بعض الشيوخ والاتجاهات الإسلامية بالطعن في رموز وعلماء قضوا حياتهم في نصرة دين الله والذب عنه؟!

ولمصلحة مَن يُصرف طلبة العلم والنشء بهذه الطعون والمناوشات عن الإقبال على خدمة دينهم؟!

ولمصلحة مَن يُشغل عوام المسلمين بتلك الحروب المستعرة التي لا يفهمون لمَ تدور وما سببها والتي يزين فيها شياطين الإنس والجن لهم أن الإسلاميين كلهم سواء وأنهم يأكل بعضهم بعضًا ويتصارعون على منصب أو جاه؟!

ولمصلحة مَن يُخطب على المنابر وتقطع الأوقات وتعمر المساجد بمحاضرات لا بذكر الله بل بالغيبة والكذب والطعن في أهل العلم والدين؟!

أليس المسلمون أحوج ما يكونون الآن إلى من يبصرهم بعقيدتهم التي تتوجه إليها سهام الليبراليين والعلمانيين من الطعن في الله وتشريعاته وأحكامه؟!

أليس المسلمون الآن أحوج ما يكونون إلى من يعلمهم ما يلزمهم من دين الله -تعالى- من توحيد وعبادة ومعاملة وتزكية للنفس؟

أليس أولى بهؤلاء الطاعنين -بل متحتم عليهم- أن يوفـِّروا تلك الجهود المهدرة في غير نفع ولا خير ويصرفوا تلك الأوقات لنفع إخوانهم من أهل الإسلام ودعوة الناس وتعريفهم بنور الشريعة وما بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخير والرحمة والهدى؟!

وللأسف الشديد فإن "الدعوة السلفية" وذراعها السياسي "حزب النور" -الذي أسسه شيوخ هذه الدعوة وأبناؤها- قد وقع عليهما ظلم كبير من كثير من إخوانهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم بلا بينة أو دليل أو حتى شبهة دليل! بما صار معه بصورة واضحة جلية أن بعض هؤلاء -على الأقل إن لم نقل كلهم- يريد هدم هذه الدعوة وإسقاطها فيعلنونها حربًا لا هوادة فيها على رموزها، خصوصا د."ياسر برهامي" الذي يدَّعون أنه يؤصل للعصبية والحزبية المقيتة له وإسقاط الآخرين، وأنه يربي تلامذته على ذلك!

وأشاعوا كلمة نسبوها لم نرَ أحدًا قط تتلمذ على الشيخ يرددها ولو مرة واحدة، وكذلك غيري لم يرَ ذلك بل الشيخ نفسه لا يعلم قائلاً بها! وهي قولهم أو زعمهم: "من لم يدرس المنة فليس منا!".

وإن كل من استمع للشيخ -حفظه الله- علم أنه أبعد الناس عن العصبية له، بل هو من الرموز القليلة التي لا تفتأ تذكر وتشيد بجهود غيرها من الشيوخ والدعاة، فهو من أكثر الناس ثناءً على غيره من الشيوخ الأفاضل سواء في دروسه أو في فتاواه، فكثيرًا ما كان يسأل عن الشيخ "أبي إسحاق"، والشيخ "محمد حسين يعقوب"، والشيخ "محمد حسان"، والشيخ "محمود المصري"، وغيرهم، ومنهم الشيخ "فوزي السعيد"، والشيخ "محمد عبد المقصود"، فيشيد الشيخ بجهودهم وفضلهم!

وللشيخ فتوى على موقع "صوت السلف" بعنوان:

مسائل التكفير عند الشيخ "فوزي السعيد"

السؤال:

نحن نسمع للشيخ "فوزي السعيد" من زمن بعيد، ثم سمعنا مؤخرًا بأن هناك كلامًا حول مسائل التكفير عند الشيخ. فهل هذا حق؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

"أنا أنصح بمراجعة فتاوى الشيخ في التكفير على أهل العلم، هذا مع ما للشيخ -حفظه الله- من جهد في الدعوة وتاريخ طويل فيها، ويكفي أنه التزم على يديه المئات، بل الألوف من الملتزمين بالقاهرة وغيرها... " (انتهى).

فأين الحزبية والعصبية وإسقاط الآخرين؟!

لقد ظـُلِم الشيخ "ياسر" كثيرًا من هؤلاء الشيوخ -بشهادة شيوخ جماعة الدعوة السلفية كالشيخ "أحمد فريد" -حفظه الله- وغيره وأن الحملة تستهدف جميع مشايخ الدعوة إلا أن البداية عند هؤلاء لابد أن تكون بالشيخ ياسر أولاً-، وكذلك ظلِم تلامذته الذين رُموا بالجمود والعصبية للشيخ والتقليد له، والتبعية المطلقة لما يقوله الشيخ ويرجحه؛ رغم أن الشيخ من أكثر الشيوخ -إن لم يكن أكثرهم بالفعل- إشارة إلى مواطن الخلاف فيما يدرسه وأن في المسألة اجتهادًا، وعلى هذا ربَّى تلامذته.

لم يربهم الشيخ "ياسر" على الحزبية المذمومة والجمود والتقليد، فإن تلامذة الشيخ لا يتقيدون باختياراته بصورة لازمة، بل إن رأوا الدليل في غير ما يرجحه الشيخ أخذوا به حتى في أخص صنوف العلم التي تميز فيها الشيخ وكثرت فيها شروحاته ومحاضراته، فنجد كثيرًا من تلامذة الشيخ "على سبيل المثال" يتبعون قول مَن يرجح من أهل العلم نبوة الخضر -عليه السلام- وهي من مسائل الخلاف السائغ في الأمور الاعتقادية والعلمية، ومعروف أن الشيخ يرى التوقف في نبوة "الخضر" فلا ننفي ولا نثبت مع الجزم بأنه لم يفعل ما فعل من تلقاء نفسه، بل بأمر الله.

وفي مسائل الفقه ما أكثر ما يقع ذلك "فعلى سبيل المثال أيضًا" في منطقتي كل مساجد الإخوة السلفيين "التي أعرفها" المتتلمذين على يد الشيخ يخالفون مذهب الشيخ في آخر وقت يجزئ فيه إخراج زكاة الفطر، فيختارون ويدرسون في مساجدهم أن آخر وقت لإخراجها هو صلاة العيد ويحرم تأخيرها إلى بعد صلاة العيد، فإن أخرجها بعد الصلاة لم تقع زكاة مقبولة، وإنما صدقة، في حين يرى الشيخ أن آخر وقت زكاة الفطر الذي يحرُم تأخيرها عنه هو غروب شمس يوم عيد الفطر "وهو مذهب جمهور العلماء".

وكذلك في مسألة إدراك الركعة يرى الشيخ أن الركعة لا تدرك إلا بقراءة الفاتحة، في حين أن كثيرًا من تلامذته يختارون أن الركعة تدرك بالركوع، وفي ترجيح الشيخ لعدم وجوب الترتيب في الوضوء "وعليه جمهور العلماء"، وغير ذلك كثير...

ومن عجب أنهم لا يقنعون بإنكار الشيخ علنًا ومرارًا وتكرارًا لتلك العصبية على التسليم بوجودها!

فسبحان الله! ما المطلوب من الشيخ أكثر من ذلك "مع العلم أن الواقع يشهد أن تلامذة الشيخ ياسر -بفضل الله- من آدب الناس ومن أحسنهم خلقًا"؟!

ولا أجد للدعوة السلفية وهؤلاء مثلاً إلا ما جاء عن عبد الله بن محمد الوراق قال: "كنتُ في مجلس أحمد بن حنبل -رحمه الله- فقال: من أين أقبلتم؟ قلت: من مجلس أبي كُريب، فقال: اكتبوا عنه، فإنه شيخ صالح، فقلنا: إنه يطعن فيك، قال: فأيُّ شيء حيلتي، شيخ صالح قد بُلي بي" (سير أعلام النبلاء)نعم، لقد بلي هذا البعض وفتن بالدعوة السلفية وآثارها المباركة، وما جعل الله لها من قبول عند القاصي والداني!

إن حرمة المسلم عند الله عظيمة، والعدل والإنصاف يقتضيان التثبت قبل رمي مسلم بسوء واتهامه به؛ فكيف إن كان عالمًا جليلاً وشيخًا مرموقًا يُراد للناس أن تُصد عنه؟!

قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (النساء:94)، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن وقّاف حتى يتبين".

فلابد من التحقق والتثبت قبل رمي الناس بالتهم، لا أن يجازف الإنسان ويأخذ غيره بالظنون والشبهات؛ فضلاً أن يلجأ البعض إلى تشويه صورة مَن يختلف معهم بالزور والكذب، ويشيع عنهم استغلالهم لمناصبهم وسوء فعالهم لصرف الناس عنهم، فيهون عليه إهدار كرامة إخوانه وسمعتهم، ولئن وقع هذا بالدعاوى المرسلة والظنون والشبه فهو قبيح بصاحبه؛ فكيف إذا كان بالباطل والزور؟!

قال الله -تعالى- عن سليمان -عليه السلام- في قصته مع الهدهد: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(النمل:27).

قال الشوكاني -رحمه الله- في فتح القدير: "قوله: (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أبلغ من قوله أم كذبت؛ لأن المعنى: مِن الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقًا لهم، والنظر هو التأمل والتصفح، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار والكشف عن الحقائق وعدم قبول خبر المخبرين تقليدًا لهم واعتمادًا عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه" (انتهى).

والعدل والإنصاف يقتضي أن يتكلم المرء بما يعرف من براءة إخوانه وإنكار المنكر، ونصح مَن يرميهم بالكذب والزور بغير بينة عنده فيما يزعمه ويدعيه، لا الركون إلى المعتدين والسكوت على الغيبة وما لا يرضاه الله من الجهر بالسوء من القول بلا عذر أو دليل، ولئن وقع إقرار المنكر والسكوت عنه من أهل الجهل -المعروف عندهم نكارته- فإنهم لا يعذرون بسكوتهم وعدم إقرارهم؛ فكيف بمن ينسب إلى علم ودين ودعوة إلى الله -عز وجل- ثم لا يجد غضاضة أن يقول إنه دعا هؤلاء الخائضين في أعراض العلماء والأفاضل أن يتكلموا باسمهم لا باسم الهيئة -الموقرة!- التي ينتسبون إليها؟!

قال كعب بن مالك -رضي الله عنه- في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: (مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟) قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا" (متفق عليه).

وقال عباد بن عباد: "أراد شعبة أن يقع في خالد الحذاء -أحد الأئمة الحفاظ الأعلام- فأتيتُه أنا وحماد بن زيد، فقلنا له: مالك؟! أجُنِنْتَ؟! وتهددناه فسكت" (سير أعلام النبلاء).

بل قد رد النبي -صلى الله عليه وسلم- على من عاب ناقته القصواء وعرف لها فضلها لما قال بعض أصحابه: خلأت القصواء، فقال: (مَا خَلأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ(رواه البخاري).

فكيف بأهل العلم الذي يعلمون الناس ويدعونهم إلى الهدى؟!

كيف لا يُنكر على مَن يريد صرف الناس عن العلماء وحماة الدين الحقيقيين في وقت يرى القاصي والداني ما يقع من سقطات وتنازلات ممن انتخبهم الناس لأجل تطبيق الشريعة والتمكين لها؟! فتارة يخرج مَن يأبى مرجعية "هيئة كبار العلماء" فيما يتعلق بالشريعة وبقرض ربوي مخالفًا للشرع وللدستور، وتارة يخرج على الناس مَن يدعو الضباط الملتحين إلى الانصراف عن المطالبة بحقهم في اتباع النبي والقيام بواجب إعفاء اللحية والانصراف لحفظ الأمن وكأن هناك معارضة بين الأمرين! وغير ذلك كثير عندهم فدومًا لديهم مزيد من التنازلات... !

إن المؤمن ينصح للدين ويعاون أهل الحق على الصدع به وعلى جهادهم في سبيله، ويفرح بمن ينشر دين الله في الأرض ويسانده؛فليس المؤمن الذي يأكل قلبه الحسد، وليس المؤمن الذي يكون في قلبه الضغائن والأحقاد، وإنما هو مخلص لله -عز وجل-، قال الراهب للغلام كما في قصة أصحاب الأخدود: (أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي(رواه مسلم).

والمؤمن يحفظ لأهل الفضل فضلهم، سمعت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- عروة بن الزبير يسب حسان بن ثابت -وكان حسان رضي الله عنه ممن خاض في حديث الإفك- فقالت- رضي الله عنها-: "يَا ابْنَ أُخْتِي دَعْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (متفق عليه).  وقال عروة: "كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ، وَتَقُولُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ: فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ" (متفق عليه). فسبحان الله!

وللأسف قد تورط البعض "بدافع العاطفة" في الأمر بالحض على ترك الفرقة ونبذ الخلاف وضرورة التصافي ولو على حساب ذوي الحقوق، ونسي أن الصلح الجائز لا يكون بإقرار المنكر والسكوت عليه، وأن الله لما أمر بالوحدة والائتلاف لم يأتِ هذا الأمر عاريًا عن بيان ما نجتمع عليه ونعتصم به فقال -عز وجل-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا(آل عمران:103).

فهل مَن تمسك بحبل الله والبينات وقواعد القسط وإحقاق الحق وإنصاف المظلوم وإقامة الشرع يُقال له: أنتَ سبب الفرقة ويُتكلم معه عن ترك الخلاف، والتصافي؟! وهل ما يقوله ويفعله هؤلاء الشيوخ لا يفرق الصف ويحدث الشقاق؟!

وهل يكون الصلح على حساب الحق والعدل وإنصاف الأبرياء؟!

إن قائل هذا الكلام يسوي بين المختلفين -بل يكيل بمكيالين وأكثر- ولا يفرِّق بين المحق والمبطل والمحسن والمسيء؛ وهذا الظلم بعينه، وجهل هؤلاء أو تناسوا أن الفرقة والاختلاف إنما يُذم مَن تسبب فيها وأبى أن يرجع إلى الحق البيِّن الذي لا خفاء فيه، وأما من اعتصم بالكتاب والسنة ولم يخرج عنهما فلا لوم عليه عند أحد من أهل الدين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ(رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، فتلك قاعدة أهل الإسلام التي نطق بها النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وأخيرًا: إن العدل والإنصاف الذي أمرنا الله به هو سبيل النجاة والائتلاف والصفاء، وهو أنجح وأنجع سلاح لرد كيد المتربصين والمفسدين؛ فبه تتحقق التقوى، وبالتقوى يتحقق النصر، قال -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(الأعراف:128)، وقال: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ(الحج:40).

فاللهم أرِنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه, وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل.

وصلِّ اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي