الخميس، ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٥ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(الشورى - الشفافية) × (الإفراط في الثقة في القيادة - التبرير)

الثقة بالقيادة أساس نجاح أي عمل تنظيمي، وبالتالي تؤدي إلى نجاح الأعمال والمشاريع الدعوية، وتنفيذ المخططات والوصول إلى الأهداف والغايات

(الشورى - الشفافية) × (الإفراط في الثقة في القيادة - التبرير)
عبد المنعم الشحات
الجمعة ١٠ مايو ٢٠١٣ - ١٧:٤٦ م
3208
1-رجب-1434هـ   10-مايو-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أولاً: الشورى من دعائم المجتمع المسلم:

في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش ما يُسمى بـ"العصور المظلمة" على كافة الأصعدة: السياسية، والاجتماعية، والعلمية "فضلاً عن الصعيد الديني والعقدي" كانت حضارة الإسلام في أوج تألقها في كافة الميادين، وليس في ميدان العقيدة وحدها، بل في ميادين السياسة، والاجتماع، والعلوم التجريبية كذلك.

وكانت أهم سمات الحكم الإسلامي سمتين:

الأولى: "المرجعية العليا للشريعة الإسلامية": كما في قوله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(النساء:65)، وقوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ... (الأحزاب:36).

الثانية: "لزوم الشورى فيما لا نص فيه": وقد جعلها الله سمة أساسية من سمات المجتمع المسلم، فقال: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ... (الشورى:38).

قال الأستاذ "سيد قطب" -رحمه الله تعالى-: "والتعبير يجعل أمرهم كله شورى ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو نص مكي كان قبل قيام الدولة الإسلامية، فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد، والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية، والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية.

ومِن ثَمَّ كان طابع الشورى في الجماعة مبكرًا، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشئون الحكم فيها، إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية، وهي مِن ألزم صفات القيادة" اهـ.

ومع بيان أن الشورى من خصائص المجتمع المسلم فقد ألزم بها الحاكم خاصة مخاطبًا النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(آل عمران:159)، ومعلوم أن هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كانت الشورى لازمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغم إمكان استغنائه عنها بالوحي فلزومها لمن بعده من الحكام بعد انقطاع الوحي من باب أولى.

وقد حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على تنفيذ تلك التوجيهات الربانية رغم التباس الوحي بالرأي المجرد من النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا، ولكنهم كانوا يستفصلون متى أشكل عليهم كما في قصة "الحباب بن المنذر" -رضي الله عنه- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة "بدر".

ثانيًا: هل الشورى مُلزِمَة أم مُعْلِمة؟

ما قدمنا من قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) يدل دلالة ظاهرة على وجوب الشورى على القائد، وهذه مما لا ينبغي الخلاف فيه، ولكن الخلاف في نتيجة هذه الشورى: هل هي ملزمة؟ أم أن القائد يسترشد بها ثم يجتهد وفق رأيه ويجب على المجموع أن يتبعه؟

وقد ذهب إلى كل من الرأيين طائفة من أهل العلم، والراجح بل الصحيح أنها ملزمة للأدلة الآتية:

1- غزوة أحد: فبالرغم من رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل غزوة "أحد" -ورؤيا الأنبياء حق- أن بقرًا له تذبح، وأن سيفه ينثلم، وأنه وضع يده في حصن منيعة، وأوّل ذلك بأن البقر التي تذبح أنه سيُقتل عدد من أصحابه، وأن سيفه الذي ينثلم سيُقتل رجل من أهل بيته - بالرغم من الرؤيا الحق هذه فإنه -عليه الصلاة والسلام- عندما استشار في الخروج للقوم أو البقاء في المدينة ورجحت كفة الذين يقولون بالخروج لهم -وغالبيتهم من الشباب- أخذ برأيهم، ورأوا في وجهه بعض التأثر وعرضوا عليه أن يتنازلوا عن رأيهم، فأبى وأمضى رأي الشورى، وكانت النتيجة ما هو معلوم.

ثم نزلت آية آل عمران تؤكد مبدأ الشورى من جديد كي تتعلم الأمة أن هذا المبدأ لابد أن يُقر في النفوس وفي ضمير الأمة حتى لو كان بالدماء الطاهرة من الصحابة الكرام، حتى لو رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- نتائج المعركة قبل أن تقع، لكنها تربية الأمة على ترسيخ الأسس.

2- غزوة الخندق: وفي غزوة الخندق لما حاصر المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين واشتد البلاء على المسلمين؛ بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف قائدي غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة حتى يرجعا بمن معهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وجرى بينه وبينهم الصلح، وقبل أن يقع ذلك استشار -عليه الصلاة والسلام- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في ذلك فقالا: "إن كان الله أمرك فسمعًا وطاعة، وإن كان شيئًا تحب أن تصنعه صنعناه، وإن كان شيئًا تصنعه لنا فلا، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف" فصوّب رأيهما، وقال: "إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة".

3- ومن ناحية النظر: فإن القول بأن الشورى معلمة لا ملزمة يفرِّغ الشورى من كثير من معانيها ويتيح للحاكم أو القائد فرصة الانفراد بالرأي؛ مما يخل بمبدأ الشورى.

4- أن جميع ما ذكره المخالفون في هذا الباب: إما مسائل جاء فيها الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو مسائل تمسك فيها الحاكم المجتهد العالِم بالدليل بمقتضى دليل عَلِمه وجهله الآخرون.

فمن ذلك:

أ‌- قصة "أسارى بدر"، وهي دليل عليهم لا لهم حيث عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- برأي أكثر أصحابه ثم نزل الوحي بخلافه.

ب‌- قصة "صلح الحديبية" وهي أيضًا دليل عليهم لا لهم حيث تمسك الصحابة -رضي الله عنهم- برأيهم حتى آخر لحظة ولم يرجعوا عنه إلا بعد ما تبيَّن لهم أنه وحي من الله -عز وجل-، ولولا أن الصحابة يعلمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يخالف غالب رأيهم لما تمسكوا به حتى النهاية.

ج- قتال المرتدين وإصرار "أبي بكر" -رضي الله عنه- على ذلك رغم مخالفة الغالبية له؛ وذلك لأنه لا شورى في موضوع النص، والنص مع ما ذهب له "أبو بكر الصديق" -رضي الله عنه- في ضرورة قتال مَن ارتد، ثم إن المناقشة قد انتهت إلى قبول معظمهم برأي "أبي بكر" -رضي الله عنه- والعبرة بما استقر عليه الأمر بعد تداول المشورة، ومثله يُقال في بعث أسامة.

ثالثًا: دوائر الشورى:

عندما نتحدث عن الشورى في المجتمعات الصغيرة كالأسرة أو جماعة السفر أو الحي الصغير فلا يكون هناك كبير عناء في هذا الباب، بينما يصبح الأمر في غاية الصعوبة عندما تتسع قاعدة الجماعة المراد مشاورتها، وهذه المشكلة تواجه أي نظام يريد أن يرجع اتخاذ القرار إلى المجموع؛ سواء في نظام الشورى في الإسلام أو في نظام الحكم الديمقراطي.

أما في النظام السياسي في الإسلام: فقد وجد مفهوم أهل الحل والعقد كجماعة محدودة العدد، واسعة الأثر، متنوعة الخبرات تكون هي التي يجب على الإمام أن يستشيرها أو يرجع إليها، كما أن "الفكر الديمقراطي" قد لجأ إلى مفهوم الديمقراطية النيابية لانتخاب ممثلين عن الشعب يقومون بهذا الدور؛ إلا أن "الفكر الديمقراطي" قام أيضًا على مبدأ الفصل بين السلطات فصارت سلطة البرلمان المنتخب أعلى من أن تسمى سلطة شورية؛ لأنها سلطة حقيقية مستقلة عن سلطة الرئيس.

وبقيت هناك صلاحيات للرئيس بموجب الدستور يملكها منفردًا مع الاتفاق على ضرورة أن يكون له مستشارون، وأن يخضع قراراته لحوار مجتمعي، وأن يستمع إلى أصوات المعارضة؛ مما يعني أن النظام السياسي الإسلامي الذي أبقى جميع الصلاحيات في يد الإمام قد أبقى في ذات الوقت جميع قراراته خاضعة لمراقبة أهل الحل والعقد، بينما النظام الديمقراطي الذي أعطى للبرلمان سلطة التشريع والرقابة على الرئيس ترك الرئيس يختار مستشاريه فيما يتعلق بالصلاحيات الممنوحة له، ومِن ثَمَّ يؤكد مُنظِّري الفكر الديمقراطي مسألة بقاء الشعب حاضرًا في الصورة وعدم ترك الأمر بالكلية لفكرة نواب الشعب.

الحاصل: إن تلك المقارنة غير مقصودة لذاتها في هذا السياق بقدر ما نريد تقرير أنه عند اتساع الجماعة البشرية التي نتحدث عنها فلابد من الحديث عن شورى مقيدة، وحتى لا يضيع حق العامة في الشورى فيجب أن يُراعى مع هذا ما يصطلح على تسميته في الاصطلاح المعاصر بـ"الشفافية".

رابعًا: "الشفافية":

عرف بعضهم الشفافية بقوله: إن الشفافية هي حق كل مواطن في الحصول على المعلومات ومعرفة آليات اتخاذ القرار المؤسسي، ومطلب الشفافية ضروري لوضع معايير أخلاقية وميثاق عمل مؤسسي؛ لما تؤدي إليه من اكتشاف الفساد ومنعه، ويمكن القول بأن شفافية أنشطة الإدارة إنما تعني أن تعمل الإدارة العامة "الحكومة" في "بيت من زجاج كل ما به مكشوف للعاملين".

وهذا المعنى كان مطبَّقًا في عصر مبكر في الدولة الإسلامية، وقد عدَّ الباحث "سامي الطوخي" أساليب تطبيق الشفافية والرقابة والمحاسبة في عهد الخليفة "عمر" -رضي الله عنه-:

1- إحصاء ثروة عماله قبل توليهم الولايات.

2- سن عمر نظام المقاسمة أو المشاطرة.

3- بث الرقباء والعيون.

4- إرسال المفتشين.

5- الالتجاء إلى الحيلة.

6- دخول الولاة والعمال نهارًا.

7- تقييم الأداء كوسيلة من وسائل الرقابة.

8- عقد المجالس الشعبية لمراجعة واعتماد الحسابات الختامية.

9- التفتيش بنفسه.

10- مراقبة عمر -رضي الله عنه- لنفسه.

خامسًا: الحركة الإسلامية من (الشورى - الشفافية) إلى × (الإفراط في الثقة في القيادة - التبرير):

نشأت الحركة الإسلامية المعاصرة في ظل احتلال أجنبي، وعندما تنفست الأمة الصعداء برحيله فوجئت بنفسها أمام حكم عسكري غاشم أو عالماني سافر أو جامع بينهما في أغلب الأحيان؛ مما أضعف قدرة الحركة الإسلامية على توسيع دائرة الشورى، كما أن طبيعة تربص الأنظمة بالحركة الإسلامية جعل القيادة تحيد عن مبدأ الشفافية إلى حد كبير.

وهذا ما دفع كثيرًا من الكيانات الدعوية إلى التخلي عن التنظيم والمؤسسية من الأساس أو دفعها إلى الاستعاضة عن توسيع دائرة الشورى والشفافية في اتخاذ القرارات إلى المبالغة في الكلام على الثقة في القيادة.

ومِن أوضح الأمثلة على ذلك: "الركن العاشر من أركان بيعة الإخوان المسلمين"، على أننا إذا تحدثنا عن الإخوان المسلمين؛ فلابد وأن نضيف عاملين أخريين في مجال الكلام على التركيز على الثقة في القيادة:

الأول: تأثر المؤسس الأستاذ "حسن البنا" -رحمه الله- بالصوفية التي تبالغ في مبدأ الثقة في الشيخ إلى الحد الذي تطالِب المُريد أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي مغسله!

الثاني: أن مراحل تأسيس الدول والجماعات والحركات تحتاج إلى قدر من الانفراد بالقرار فلا نستطيع أن نتوقع على وجه الدقة ماذا لو طالت الحياة بالأستاذ "حسن البنا" -رحمه الله وأنزله منازل الشهداء- هل كان سيخفف من التعويل على هذا الجانب أم لا؟

على أي فقد استمرت جماعة الإخوان بعد الأستاذ المؤسس على نفس أركان البيعة، بل إنها في مراحل الاضطهاد التي تلت مقتله -رحمه الله- لم يكن لها في كثير من الأحيان من درع إلا مسألة الثقة!

بل إن هذا الأمر بقي حتى بعد "ثورة 25 يناير" فكتب الأستاذ "أويس عثمان" سلسلة مقالات بعنوان: "تماسك الدعوة... فتِّش عن ركن الثقة"، عرَّف فيها الثقة التي يعنيها قائلاً: "والثقة في المفهوم الحركي يُقصد بها كما وضحها الإمام البنا بأنها "اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام".

ثم قال: "لذا فالثقة اطمئنان بيْن الفرد والقيادة، وكذلك بين القيادة والفرد والأفراد والمنهج، بحيث يكون اطمئنانًا قويًّا ثابتًا محكمًا، لا تؤثر فيه عوامل خارجية أو داخلية أو نفسية، فالثقة بالقيادة "على سبيل المثال": تعني اعتبار الأوامر الصادرة عن القيادة في غير معصية قاطعة لا مجال فيها للتردد أو للانتقاص، مع إسداء النصح والتنبيه إلى الصواب، وإضافة لما سبق فإن الفرد في الجماعة لابد وأن يفرض في نفسه الخطأ، فلا يعتبر نفسه معصومًا عن الأخطاء وسوء الفهم والتقدير، وفي الوقت نفسه لابد وأن يفترض الصواب في قيادته في المسائل الاجتهادية المعروضة، فلا يحكم على قراراتها بأنها غير واعية أو ملائمة للحال والواقع، كما هو حال بعض شباب الدعوة الذين ظنوا أنهم بمجرد امتلاكهم القدرة على الكتابة والتعبير أنهم أصبحوا قادرين على فهم الأمور والسياسات أكثر من قادتهم ومسئوليهم الذين سبقوهم بالخبرة والتجربة والرؤية".

وبالطبع نحن نؤيد الكاتب في ضرورة التزام أفراد الجماعة بما تقرره مؤسسات اتخاذ القرار فيها في الأمور الاجتهادية، ولكن المبالغة في الثقة في صواب هذه القرارات "رغم كونها اجتهادية" يمثِّل إشكالية تولد إشكاليات أخرى سوف يأتي ذكرها.

ثم أخذ يعدد أنواع الثقة، فقسَّمها إلى:

1- الثقة بمنهج الجماعة وفكرها: قال: "وتتمثل الثقة في هذا الجانب بالإيمان بأن فكرة الجماعة ليست مبتدعة أو مستحدثة أو مستوردة من الخارج، واليقين بأن الإمام الشهيد "حسن البنا" قد اقتبس هذا المنهج من وحي القرآن وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والتراث الذي تركه سلفنا الصالح -رحمهم الله-؛ لذا فهي دعوة تتسم بالنقاء والشمول، فهي نقية خالية من شوائب البدع والخرافات وبعيدة كل البعد عن التحريف والمغالاة والتشدد، وفي نفس الوقت فهي أعادت الفهم الشامل للإسلام بأنه دين ودولة، ومصحف وسيف، وعبادة وقيادة وسياسة؛ لذا ونظرًا لما حملته من فكر نيّر مستقيم؛ فقد تعرضت لأشد الابتلاءات والأذى دون أن تعرف اليأس أو الإحباط، وأثبت أصحابها أنهم لا يريدون مناصب دنيوية أو تحقيق مطامع شخصية؛ لذا فما وهنوا لما تعرضوا له من أمور وعراقيل، وما استكانوا لعمليات التضييق والقتل والاعتقال، ولم تأخذهم الدنيا وتحيد بهم عن طريق الحق والهدى".

وإذا لاحظتَ أن الكلام هنا عن أصول وضعها رجل لقي ربه في الأربعين من عمره سوف تدرك حجم الخطر في رفع اجتهادات الأستاذ "حسن البنا" إلى مصاف القطعيات، ولو كان الكلام هنا على أصول تداولها أهل السنة جيلاً بعد جيل وأقروا أنها مما ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لما كان في ذلك مشكلة، ولكن المشكلة أن توصف اجتهادات حركية لشخص مهما بلغ فضله بهذه الأوصاف، وتوضع ضمن ركن "الثقة" من أركان البيعة!

ثم بيَّن النوع الثاني من الثقة:

2- الثقة بالقيادة: قال بشأنها: "وهناك الثقة بقيادة الجماعة فالثقة بالقيادة أساس نجاح أي عمل تنظيمي، وبالتالي تؤدي إلى نجاح الأعمال والمشاريع الدعوية، وتنفيذ المخططات والوصول إلى الأهداف والغايات، فلابد من الثقة بالقيادة تأسيًا واقتداءً بما كان يفعله سلف الأمَّة -رحمهم الله- من الثقة بقيادتهم التي تهدف إلى إقامة الدين ومحاربة الفساد، وجلب كل ما فيه مصلحة للأمة، ودرء المفاسد والمنكرات عنها.

الثقة بالقيادة أساس نجاح أي عمل تنظيمي، وبالتالي تؤدي إلى نجاح الأعمال والمشاريع الدعوية، وتنفيذ المخططات والوصول إلى الأهداف والغايات، وفي هذا الصَّدد يقول الإمام الشهيد -رحمه الله-: والقائد جزء من الدَّعوة، ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غاياتها وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب (فَأَوْلَى لَهُمْ . طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ(محمد:20-21).

وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعًا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات".

وهذا النوع هو الأكثر ارتباطًا بموضوع تلك المناقشة، ويتضح منه خطورة جمع القائد الدعوي لكل هذه الحقوق مجتمعة.

ثم بيَّن النوع الثالث من الثقة:

3- الثقة بأفراد الجماعة: قال بشأنها: "أما الصنف الثالث فهو الثقة بأفراد الجماعة؛ حيث في المقابل على القيادة أن تعطي ثقتها بأفراد الجماعة وأعضائها، فلا يمكن أن يعطي الأفراد ثقتهم لها دون أن يكون هناك ثقة مقابلة لهم أيضًا، وإذا ساد جو من التشكيك بالأفراد فإن هذا يعني انعدام الثقة داخل الجماعة، وبالتالي ضعف الجماعة واندثارها في المستقبل".

وبهذا العرض لشرح ذلك الركن من أركان البيعة عند جماعة الإخوان يتضح لك أن الجماعة قد عالجتْ ضغط الواقع الذي أضعف الشورى والمؤسسية والشفافية بالمبالغة في مبدأ الثقة، وأن هذا الأمر قد تحول إلى جزء من ثوابت الفكر لدى الجماعة، ولم تخضعه لكي يتواكب مع روح الحرية ومع روح الثورة التي أثرت على قطاع الشباب في كل الاتجاهات تقريبًا.

سادسًا: التبرير بعد الثقة:

المبالغة في مبدأ الثقة ربما يورث جماعة الإخوان قدرًا كبيرًا من دقة التنظيم ووحدة الحركة وسرعتها حيث لا مجال للأخذ والرد بين كوادرها العاملة، ولكنه نفسه يتحول إلى مصدر إزعاج لأفراد الإخوان حينما يحاورون غيرهم من أبناء الحركة الإسلامية أو مِن غيرهم حيث ينبري فرد الإخوان بمقتضى بيعته للدفاع عن مواقف وآراء يكتنفها الغموض أو التناقض في بعض الأحيان!

ومن أبرزها في الآونة الأخيرة:

1- تغير الموقف من "ساويرس" من قائد للثورة المضادة إلى المثال الأوحد حتى الآن لرجال الأعمال الشرفاء الذين تكرمهم الرئاسة وتمنحهم أراضٍ مميزة للدولة لإقامة مشروعات!

2- المد والجذر المتباين في قضية تطهير القضاء.

3- تفاوت تقييم المستشار "بجاتو" من ترزي قوانين "مبارك" إلى الكفاءة النادرة التي تستحق أن توضع في الوزارة!

4- الموقف من المستشار "محمد فؤاد جاب الله" من رجل يستحق أن ينفرد بوظيفة المستشار القانوني للرئيس عشرة أشهر كاملة إلى رجل فاشل أقيل من أجل فشله!

قد يكون لمتخذ هذه القرارات مبرراته، ولكن عدم التزامه بإعلانها يمثِّل مشكلة كبيرة بالنسبة لمن يريد الدفاع عنها، بل "ربما وجدت عدة أوجه للدفاع عن قرار واحد، ولكنها في ذاتها متناقضة"، كمَن يدافع عن تعيين المستشار "بجاتو" في الوزارة بأنه طريقة للتخلص من وجوده في مفوضي الدستورية! ومَن يدافع عن القرار بتمجيد الرجل وذكر خبراته!

فإذا ما قال قائل: ولماذا خضت في مسألة كهذه يبدو أنها تخص جماعة الإخوان وبيعتهم وقد ارتضاها مَن بايع عليها؟!

قلتُ: لسببين:

الأول: النصيحة.

الثاني -وهو الأهم-: إذا كان أفراد جماعة الإخوان قد بذلوا البيعة على ذلك، فهل تعاقد الشعب المصري على ذلك عندما اختار الدكتور "مرسي" رئيسًا؟! أم كانت مطالب الشعب وكانت في مقابلها وعود الرئيس بالشفافية في القرارات؟!

أظن أن أبسط حقوق المصريين عمومًا "وأبناء الحركة الإسلامية خصوصًا" على الرئيس أن يَخرج عليهم ويشرح لهم، وأن يفي بشفافيةٍ وعَدَهم إياها.

انا السلفي

www.anasalafy.com