الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الطريق إلى ثقافتنا (1)

قلتُ: المقصود بالعلم هنا هو العلوم التجريبية التي تبحث في المادة، وأما العلوم الإنسانية ففيها شبه من هذا ومن ذاك، وإن كانت إلى الثقافة أقرب

الطريق إلى ثقافتنا (1)
عبد المنعم الشحات
الأربعاء ١٩ يونيو ٢٠١٣ - ٠١:١٢ ص
3808
10-شعبان-1434هـ   18-يونيو-2013      

تعريف الثقافة، وموضع اللغة والدين والأخلاق منها

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي وقت يحاول فيه البعض أن يقصر معنى المثقف على مَن اشتغل بالآداب والفنون، بل على أنواع معينة فيها، يجدر بنا أن نتساءل: هل هذه هي ثقافتنا؟!

وإذا لم تكن فما هي ثقافتنا... ؟!

وما الذي حال بيننا وبينها؟

وما السبيل للعودة إليها؟

سيكون من المفيد جدًّا أن تجد إجابات شافية على هذه الأسئلة لا سيما إذا جاءت ممن يقر له هؤلاء المثقفون بالريادة الثقافية، فلا يشك منهم أحد أنه فارس في ميدان النقد الأدبي كانت له مع كبارهم صولات وجولات، وعجز أسلافهم عن مجاراته في التمكن من العربية؛ لا سيما جانب "التذوق" الذي صك فيه نظرية طبقها في كتاباته لا سيما كتابه عن "المتنبي"، وأشار في مقدمته إليها إشارات عابرة ثم فصلها في كتاب ذائع الصيت هو "الطريق إلى ثقافتنا"، إنه العلامة "محمود محمد شاكر".

كان الغرض من هذا الكتاب أن يشرح الأستاذ نظريته في التذوق ولكن مرارة "مدعي الثقافة" غلبت على مذاق اللغة الجميلة في نفسه وروحه؛ فأخرج كتابه هذا نفثة مهموم، وتأوه مكلوم، وصيحة تحذير من الثقافة الوافدة.

وهنا ترك لقلمه العنان لكي يلخص لك قرونًا من الصراع بين الحق والباطل مما جعل بحثه يخرج عن نطاق فلسفة اللغة إلى فلسفة التاريخ، ورغم لذة التطواف معه في دروب عقله إلا أن هذا ربما يمنع كثيرًا من القراء من الإحاطة بفوائده، ولذلك فسوف أقدم لك اختصارًا وترتيبًا لأهم فوائده.

والتي يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:

1- تعريف الثقافة، وموضع اللغة والدين والأخلاق منها.

2- الاستشراق وكيف بدأ بالنهل من ثقافتنا ثم صار حربًا عليها.

3- الصراع بين النهضتين: "الإسلامية، والأوروبية" في القرن السابع عشر الميلادي.

4- الحملة الفرنسية وسياسة تدجين أهل الدين في بلادنا.

5- التغريب في الثقافة والتعليم في عهد الاحتلالين: "الفرنسي، والإنجليزي".

وسوف نكتفي في هذه المقالة ببيان المقصد الأول وهو المتعلق بالثقافة.

تعريف الثقافة، وموضع اللغة والدين والأخلاق منها:

تعرض الأستاذ "محمود شاكر" في أكثر من موضع في رسالته لتعريف الثقافة وعلاقتها باللغة التي يرى أنها الوعاء الجامع للثقافة، وكذلك علاقتها بالدين الذي يرى أنه يمثِّل قمة الهرم المعرفي لكل أمة.

فقال: "الثقافة في جوهرها لفظ جامع يقصد بها الدلالة على شيئين أحدهما مبني على الآخر، أي هما طوران متكاملان.

الطور الأول: أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في "نفس الإنسان" منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حد الإدراك البين، جماعها كل ما يتلقاه عن أبويه وأهله وعشيرته ومعلميه ومؤدبيه حتى يصبح قادرًا على أن يستقل بنفسه وبعقله، وتفاصيل ما يتلقاه الوليد حتى يترعرع أو يراهق تفوت كل حصر، بل تعجزه.

وهذه الأصول ضرورة لازمة لكل حي ناشئ في مجتمع ما لكي تكون له "لغة" يبين بها عن نفسه، و"معرفة" تتيح له قسطًا من التفكير يعينه على معاشرة من نشأ بينهم من أهله وعشيرته، وهذا على شدة وضوحه عند النظرة الأولى لأنك ألفته، لا لأنك فكرت فيه وعمَّقت التفكير هو في حقيقته سر ملثـَّمٌ يحيِّر العقول إدراك دفينه؛ لأنه مرتبط أشد الارتباط، بل متغلغل في أعماق سرَّين عظيمين غامضين هما: سر "النطق"، وسر "العقل" اللذان تميز بهما "الإنسان" من سائر ما حوله من الخلق كله، وتحيرت عقول البشر في كيف جاءا؟ وكيف يعملان؟ لأن "الإنسان" لم يشهد خلق نفسه حتى يستطيع أن يستدل بما شهد لكي يصل إلى خبئ هذين السرين الملثمين المستغلقين البعيدين، وإن توهم أحيانًا بالإلف أنهما قريبان واضحان.

ولأن الإنسان منذ مولده قد استودع فطرة باطنة بعيدة الغور في أعماقه توزعه "أي تلهمه وتحركه" أن يتوجه إلى عبادة رب يدرك إدراكًا مبهمًا أنه خالقه وحافظه ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكل ما يلبي حاجة هذه الفطرة الخفية الكامنة في أغواره، وكل ما يلبي هذه الحاجة هو الذي هدى الله عباده أن يسموه "الدين"، ولا سبيل البتّة إلى أن يكون شيء من ذلك واضحًا في عقل الإنسان إلا عن طريق " اللغة" لا غير؛ لأن "العقل" لا يستطيع أن يعمل شيئًا فيما نعلم إلا عن طريق "اللغة"، فالدين واللغة منذ النشأة الأولى متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل.

ومن أغفل هذه الحقيقة ضل الطريق وأوغل في طريق الأوهام، هذا شأن كل البشر على اختلاف مللهم وألوانهم، لا تكاد تجد أمة من خلق الله ليس لها "دين" بمعناه العام، كتابيًّا كان أو وثنيًّا أو بِدْعًا "البِدْعُ: الدين ليس له كتاب أو وثن معبود".

ولذلك، فكل ما يتلقّاه الوليد الناشئ في مجتمع ما، من طريق أبويه وأهله وعشيرته ومعلميه ومؤدبيه من "لغة" و"معرفة" يمتزج امتزاجًا واحدًا في إناء واحد، ركيزته أو نواته وخميرته دين أبويه ولغتهما، وأبلغهما أثرًا هو "الدين"، فالوليد في نشأته يكون كل ما هو "لغة" أو "معرفة" أو "دين" متقبلاً في نفسه تقبل "الدين"، أي يتلقاه بالطاعة والتسليم والاعتقاد الجازم بصحته وسلامته، وهذا بين جدًّا إذا أنت دقّقت النظر في الأسلوب الذي يتلقّى به أطفالك عنك ما يسمعونه منك، أو من المعلم من المراحل الأولى من التعليم.

ويظل حال الناشئ يتدرج على ذلك، لا يكاد يتفصّى شيء من معارفه من شيء -يتفصّى: أي يتخلص من هذا المضيق- حتى يقارب حد الإدراك والاستبانة، ولكنه لا يكاد يبلغ هذا الحد حتى تكون لغته ومعارفه جميعًا قد غمست في "الدين" وصبغت به.

وعلى قدر شمول "الدين" لشئون حياة الإنسان، وعلى قدر ما يحصل من الناشئ يكون أثره بالغ العمق في لغته التي يفكر بها، وفي معارفه التي ينبني عليها كل ما يوجبه عمل العقل من التفكير والنظر والاستدلال -"قلتُ: ولهذا كان الإسلام أكثر تأثيرًا في حياة أتباعه من أي دين آخر، وأي محاولة لقياس الإسلام على غيره في هذه الحيثية تؤدي حتمًا إلى نتائج خاطئة، ومنها: العالمانية أو فصل الدين عن الحياة، والتي تحتملها أصول كثير من الأديان وتأباها أصول الإسلام الذي جاء فيه: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(الأنعام:162)"- فهذه هي الأصول الثابتة المكتسبة في زمن النشأة على وجه الاختصار.

الطور الثاني: فروع منبثقة عن هذه الأصول المكتسبة بالنشأة، وهي تنبثق حين يخرج الناشئ من إسار التخسير إلى طلاقة التفكير.

وإنما سميت "الطور الأول": "إسار التخسير"؛ لأنه طور لا انفكاك لأحد من البشر منه منذ نشأته في مجتمعه، فإذا بلغ مبلغ الرجال استوت مداركه، وبدأت معارفه يتفصّى بعضها من بعض أو يتداخل بعضها في بعض، ويبدأ العقل عمله المستتب في الاستقلال بنفسه، ويستبد بتقليب النظر والمباحثة وممارسة التفكير والتنقيب والفصح، ومعالجة التعبير عن الرأي الذي هو نتاج مزاولة العقل لعمله، فعندئذٍ تكون النواة الجديدة لما يمكن أن يُسمى "ثقافة".

وبيِّنٌ أن سبيله إلى تحقيق ذلك هو "اللغة" و"المعارف" الأُول التي كانت في طورها الأول مصبوغة بصبغة "الدين" لا محالة، حتى لو استعملها في الخروج على "الدين الموروث" ومناقشته رفضًا له أو لبعض تفاصيله، هذه حال النشء الصغار حتى يبلغوا منزلة الإدراك المستقل المفضي إلى حيز "الثقافة".

و"ثقافة" كل أمة وكل "لغة" هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك من أصول وفروع، كلها مغموس في "الدين" المتلقّى عند النشأة، فهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفي على اللغة وعلى النفس وعلى العقل جميعًا، سلطان لا ينكره إلا من لا يبالي بالتفكر في المنابع الأول التي تجعل الإنسان ناطقًا وعاقلاً ومبينًا عن نفسه، ومستبينًا عن غيره".

ويتحدث في موطن آخر عن موضع الدين من الثقافة ثم يدلف منه إلى موقع الأخلاق منها، فيقول: "ورأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام والذي هو فطرة الإنسان؛ أي دين كان أو ما كان في معنى الدين، وبقدر شمول هذا الدين لجميع ما يكبح جموح النفس الإنسانية ويحجزها عن أن تزيغ عن الفطرة السوية العادلة، وبقدر تغلغله إلى أغوار النفس الإنسانية تغلغلاً يجعل صاحبها قادرًا على ضبط الأهواء الجائرة ومريدًا لهذا الضبط، بقدر هذا الشمول وهذا التغلغل في بنيان الإنسان تكون قوة العواصم التي تعصم صاحبها من كل عيب قادح في مسيرة ما قبل المنهج، ثم في مسيرة المنهج الذي ينشعب من شطره الثاني، وهو شطر "التطبيق".

وهذا الذي حدثتك عنه، ليس خاصا بأمة، بل هو شأن كل جيل من الناس وكل أمة من الأمم، كان لها "لغة" و كان لها "ثقافة"، وكان لها بعد تمام ذلك "حضارة" مؤسَّسة على لغتها وثقافتها.

فهذا "الأصل الأخلاقي" هو العامل الحاسم الذي يمكن لثقافة الأمة بمعناها الشامل أن تبقى متماسكةً مترابطةً تزداد على مر الأيام تماسكًا وترابطًا بقدر ما يكون في هذا "الأصل الأخلاقي" من الوضوح والشمول والتغلغل والسيطرة على نفوس أهلها جميعًا".

ثم ذكر مبيِّنًا أثر الأخلاق الإسلامية في نشأة كثير من العلوم الإسلامية لا سيما المتعلقة بعلوم القرآن والسنة، وكيف بني ذلك على قواعد التثبت في الأخبار، وكذلك التأصيل لمسألة ارتباط العلم بالآداب التي ألح عليها الكثير ممن صنفوا في آداب طالب العلم.

فقال: "كان ينبغي هنا أن أُتمّم القول في نشأة "الأصل الأخلاقي" الذي بُنيت عليه ثقافتنا منذ حدث أول خلاف بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بين أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت في جمع القرآن العظيم وكتابتِه بين دفـَّتَين، ثم ما تلا ذلك من طلب التوثق في رواية حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ما كان من أمر علماء الصحابة في الفتوى، ثم ما كان في أمر التابعين ثم مَن بعدهم، حتى نشأ علم الجرح والتعديل؛ وهو علم فريد لا مثيل له عند أمة من الأمم, ثم غلبة هذا "الأصل الأخلاقي" على الثقافة العربية الإسلامية كلها في جمع علومها، وعناية هذه الأمة بإفراد هذا الأصل بالتأليف، كالذي ألفوه في آداب العالم والمتعلم، والفقيه والمتفقّه، وعلم النظر والمناظرة، وعلم الجدل، وعلم آداب الدرس، إلى غير ذلك مما هو اليوم مجهول أو كالمجهول؛ لانصراف الناس عنه وتركهم جمع شتاته وإعادة النظر فيه".

العلوم "عالمية" وأما الثقافات فمتعددة بتعدد الملل:

وكفرع على مكان الدين والأخلاق واللغة من الثقافة صار من المستحيل أن تتطابق الثقافات وإن أمكن التأثير المتبادل "نتيجة وجود مكونات أخرى للثقافة قابلة للنقل"، مع أن هذا يقتضي التمحيص التام عند نقل شيء من ثقافات أمم أخرى في أنه لا يتعارض مع "دين أو خلق أو لغة" الأمة الناقلة.

فقال في بيان ذلك: "فالثقافات متعددة بتعدد الملل، ومتميزة بتميز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من "الدين" الذي تدين به لا محالة، فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتّة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئًا إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب؛ أخذته وعدلته وخلصته من الشوائب، وإن استعصى نبذته وأطرحته.

الفرق بين الثقافة والعلم:

ثم قال منوِّهًا على الفرق بين الثقافة والعلم: "وهذا باب واسع جدًّا ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتى أنبهك لشيء مهم جدًّا؛ هو أن تفصل فصلاً حاسمًا بين ما يُسمى "ثقافة" وبين ما يسمى اليوم "علمًا" -أعني العلوم البحتة-؛ لأن لكل منهما طبيعة مباينة للآخر، فالثقافة مقصورة على أمة واحدة تدين بدين واحد، والعلم مشاع بين خلق الله جميعًا، يشتركون فيه اشتراكًا واحدًا مهما اختلفت الملل والعقائد" (قلتُ: المقصود بالعلم هنا هو العلوم التجريبية التي تبحث في المادة، وأما العلوم الإنسانية ففيها شبه من هذا ومن ذاك، وإن كانت إلى الثقافة أقرب، مما يعني أن النقل فيها لابد أن يكون بحذر ووفق الضوابط التي أشار إليها).

خلاصة القول في كتابات المستشرقين:

لقد عرض الأستاذ "محمود شاكر" للاستشراق في نشأته -وهو ما سنعرض له في باقي السلسلة إن شاء الله- غير أن الذي يعنينا هنا هو أن نسجل ما انتهى إليه حول مدى صلاحية كتابات المستشرقين أن تكون مراجع لثقافتنا.

فقال: "وبيِّنٌ لك الآن بلا خفاء أن كتب "الاستشراق" ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلاً للمثقف الأوروبي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوروبي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التي يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب، وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالِم لهذا العالَم العربي وثقافته وحضارته وأهله.

وأن يكون قادرًا على خوض ما يخوض فيه من الحديث، مع مَن سوف يلاقيهم أو يعاشرهم من المسلمين، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانه وفي يقينه، وعلى مد يده معلومات وافرة يثق بها، ويطمئن إليها، ويُجادل عليها دون أن تضعفَ له حمية أو تلين له قناة، أو يتردد في المنافَحة عنها أو يتلجلج، أيًّا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه.

و"الاستشراق" لا يُذم لأنه فعل كل ذلك؛ لأنه بلا شك قد أدى ما عليه لبني جلدته أحسن أداء وأتمه، ونصر أهل دينه وأخلص لهم كل الإخلاص، وكافح في سبيل هدفه بكل سلاح أجاد صقله وتقويمه، أما الذي هو حقيق بالذم والمعابة فالعاقل الذي يظن نفسه عاقلاً والبصير الذي يظن نفسه بصيرًا ثم لا يكاد عقله يدرك شيئًا هو أبين بيانًا من البداءة المسلَّمة، ولا يكاد بصره يرى ما هو أظهر ظهورًا من الشمس الساطعة!

فما كتبه الاستشراق من حيث هي كتب أو دراسات مكتوبة للمثقف الأوروبي خاصة "ولهدف بعينه" حقيقة باحترام كل أوروبي مثقف أو من كان بمنزلة الأوروبي المثقف في الغربة عن العربية والإسلام؛ لأنها يسرت له ما لم يكن ليتيسر البتة: أن يعرف أشياءً كثيرة متنوعة هو من عالمها غريب كل الغربة، وأن يرى عالمها في صورة واضحة مصورة بمهارة، ومصنوعة بأسلوب مقنع مقبول لا يرفضه عقله، بل لعله يرتضيه كل الرضا، ولأن هذا العالم الذي يراه مصورًا عالم غريب عنه، ولا سبيل له إلى معرفة الحقيقة فيه؛ لولا الجهد العظيم الذي بذله دهاقين المستشرقين الكبار في تصويره، فهو غير حريص بعد ذلك على التحقق من صحة التفاصيل التي تكونت منها الصورة، ولا هو قادر على التشكك في سلامتها من الآفات، ولا يخطر بباله أن يسأل نفسه: أهي صادقة أم كاذبة؟ أهي مطابقة للحقيقة أم غير مطابقة للحقيقة؟

أما من حيث هي كتب أو دراسات علمية جديرة باحترام مثقف غير أوروبي، أي من أبناء العرب والمسلمين خاصة، أي أبناء لغة العرب وأبناء دين الإسلام، فهذا عندئذٍ موضع نظر؛ لأن الأمر ولا خيار لي أو لك فيه يختلف اختلافًا بينًا حينئذٍ، ويتطلب النظر في أمرين: أمر الكاتب وأمر المكتوب معًا، وهذا يردك لا محالة إلى ما كتبته لك آنفًا في شأن "المنهج" و"ما قبل المنهج" سواء كان الكاتب عربيًّا أو غير عربي "أي مستشرقًا أوروبيًّا".

فثقافة كل أمة مرآة جامعة في حيزها المحدود كل ما تشعث وتشتت وتباعد من ثقافة كل فرد من أبنائها على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم، ومداخلهم ومخارجهم في الحياة، وجوهر هذه المرآة هو "اللغة"، و"اللغة" و"الدين" -كما أسلفت- متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل البتّة.

فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه "ثقافة" يمكن أن تكون "ثقافة عالمية"، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعًا ويمتزجون على اختلاف لغتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم، فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم هدف آخر، يتعلق برفض سيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة لتبقى تبعًا لها".

وللحديث بقية -إن شاء الله-...

www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي