الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الطريق إلى ثقافتنا (2)

والآن تستطيع أن تتبين أربع مراحل واضحة للصراع الذي دار بين المسيحية الشمالية والإسلام:

الطريق إلى ثقافتنا (2)
عبد المنعم الشحات
الثلاثاء ٢٥ يونيو ٢٠١٣ - ١٦:٢٦ م
2643
17-شعبان-1434هـ   25-يونيو-2013      

الاستشراق من سرقة ثقافتنا إلى الغارة عليها

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد عرضنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة إلى بيان أهم مقاصد كتاب "الطريق إلى ثقافتنا"، والتي لخصناها في النقاط التالية:

1- تعريف الثقافة، موضع اللغة والدين والأخلاق منها.

2- الاستشراق وكيف بدأ بالنهل من ثقافتنا ثم صار حربًا عليها!

3- في القرن السابع عشر الميلادي نهضة أوروبية وأخرى إسلامية، وكيف عمل الاستشراق ثم الاستعمار على وأد يقظتنا لصالح يقظتهم.

4- الحملة الفرنسية وسياسة تدجين أهل الدين في بلادنا.

5- التغريب في الثقافة والتعليم في عهد الاحتلالين: "الفرنسي والإنجليزي".

ثم فصلنا ما يتعلق بالنقطة الأولى، ونشرع في هذه المقالة في بيان النقطة الثانية والتي احتلت جزءًا كبيرًا من الكتاب، وهي وإن كانت بعيدة بعض الشيء عن موضوع الكتاب، بل إنها خرجت عن علوم اللغة إلى علم "فلسفة التاريخ" وهو علم شريف قلَّ من اعتنى به حيث يهتم دارسوه بمحاولة تفسير الظواهر التاريخية على اعتبار أن للأمم عقلاً جمعيًّا وإرادة جمعية تتشكل من خلال الفرص والتحديات، وتؤثر وتتأثر بثقافة تلك الأمم، ومن هنا عرج الأستاذ "محمود شاكر" على الصراع بين الإسلام وبين أوروبا الذي تكرر وصفه لها بالشمالية "على خلاف معظم الكتاب الذين عادة ما يشيرون إليها بالغرب رغم أن كون أوروبا في الشمال من العالم الإسلامي قد يكون أقرب".

لقد ربط الأستاذ "محمود شاكر" بين الإخفاق العسكري المتكرر للغرب أمام الإسلام والذي بلغ ذروته بعودة الحملات الصليبية تجر ذيول الهزيمة رغم بقائها قرنين من الزمان في ديار الإسلام، فمن هنا نشأت فكرة الاستفادة من الطاقة الثقافية لدى أمة الإسلام، ومن هنا بدأ الاستشراق ليكتشف المستشرقون أن بإمكانهم الذهاب أبعد من ذلك بحرمان الأمة من ثقافتها الأصلية وتزويدها بثقافة وافدة تنمي تبعيتها للغرب وتقتل ريادتها.

يقول العلامة "محمود شاكر" مبيِّنًا مراحل ذلك الصراع:

"والآن تستطيع أن تتبين أربع مراحل واضحة للصراع الذي دار بين المسيحية الشمالية والإسلام:

المرحلة الأولى:

صراع الغضب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخول أهلها في الإسلام، فبالغضب أمَّلت اختراق دار الإسلام لتسترد ما ضاع، تدفعها بغضاء حيَّة متسامحة، لم تمنع ملكًا ولا أميرًا ولا راهبًا أن يمد المسلمين بما يطلبونه من كتب علوم الأوائل "الإغريق" التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب، وظل الصراع قائمًا لم يفتر أكثر من أربعة قرون.

المرحلة الثانية:

صراع الغضب المتفجر المتدفق من قلب أوروبا مشحونًا ببغضاء جاهلية عاتية، عنيفة مكتسحة، مدمرة سفاحة للدماء؛ سفحت أول ما سفحت دماء أهل دينها من رعايا البيزنطية، جاءت تريد هي الأخرى اختراق دار الإسلام، وذلك عهد الحروب الصليبية الذي بقي في الشام قرنين، ثم ارتد خائبًا إلى مواطنه في قلب أوروبا.

المرحلة الثالثة:

صراع الغضب المكظوم الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية من تحته بغضاء متوهجة عنيفة، ولكنها مترددة، يكبحها اليأس من اختراق دار الإسلام مرة ثالثة بالسلاح وبالحرب، فارتدعت لكي تبدأ في إصلاح خلل الحياة المسيحية بالاتكاء الشديد الكامل على علوم دار الإسلام، ولكي تستعد لإخراج المسيحية من مأزق ضنك موئس، وظلت على ذلك قرنًا ونصف قرن.

وهذه المراحل الثلاث كانت ترسف في أغلال "القرون الوسطى"؛ أغلال الجهل والضياع، ولم تصنع هذه المراحل شيئًا ذا بالٍ.

المرحلة الرابعة:

صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية، يزيده اشتعالاً وتوهجًا وقود من لهيب البغضاء والحقد الغائر في العظام على "الترك" -أي المسلمين-، وهم شبح مخيف مندفع في قلب أوروبا، يلقي ظله على كل شيء، ويفزع كل كائن حي أو غير حي بالليل وبالنهار، وإذا كانت المراحل الثلاث الأول لم تصنع للمسيحية شيئًا ذا بال، فصراع الغضب المشتعل بلهيب البغضاء والحقد هو وحده الذي صنع لأوروبا كل شيء إلى يومنا هذا.

صنع كل شيء؛ لأنه هو الذي أدى بهم إلى يقظة شاملة قامت على الإصرار، وعلى المجاهدة والمثابرة على تحصيل العلم وعلى إصلاح خلل الحياة المسيحية، ولكن لم يكن لها يومئذٍ من سبيل ولا مدد إلا المدد الكائن في دار الإسلام من العلم الحي عند علماء المسلمين أو العلم المسطر في كتب أهل الإسلام، فلم يترددوا، وبالجهاد الخارق وبالحماسة المتوقدة وبالصبر الطويل انفكت أغلال "القرون الوسطى" بغتة عن قلب أوروبا، وانبعثت "نهضة العصور الحديثة" مستمرة إلى هذا اليوم".

ولكون هذه المرحلة ممتدة حتى الآن فقد أفردها الشيخ "محمود شاكر" بالبحث منذ بدايتها "هزيمة القسطنطينية" مركزًا على دور الاستشراق "الغزو الثقافي" في هذه المواجهة، بالإضافة إلى التبشير والاستعمار.

اليقظة الأوروبية الحديثة وتعلم اللسان العربي وظهور المستشرقين:

بيَّن الأستاذ "محمود شاكر" الفكرة الأساسية لظهور المستشرقين، فقال: "كان كل مدد اليقظة كما قدمتُ مستجلبًا كله من علوم دار الإسلام، من العلم الحي في علمائه ومن العلم المسطر في كتبه، والسبيل إلى ذلك في الأمرين جميعًا كان معرفة لسان العرب، ولن أقص عليك التاريخ الطويل، ولكن اعلم أن لسان العرب كان له السيادة المطلقة على العالم قرونًا قبل ذلك طوالاً، وكانت المسيحية الشمالية مجاورة لهذا السلطان المطلق، ومصارعة لأهله صراعًا طويلاً تارة، ومخالطة لهم بالتجارة والرحلة وغيرها زمنًا طويلاً تارة أخرى، ولذلك كان هذا اللسان العربي معروفًا معرفة جيدة لطوائف من العامة والخاصة في ديار بيزنطة من ناحية، ومن قلب أوروبا نفسها لمجاورتها الأندلس.

ولن أشغل نفسي بالحديث عن هذا التاريخ -وقد مضت من قبل إشارة إليه خاطفة- فالذي يعنيني هنا ما كان عند بدء اليقظة في أوروبا، فبالهمة والإخلاص والعقل أيضًا كان لابد لهم أن يزداد عدد الذين يعرفون اللسان العربي ويجيدونه زيادة وافرة، لحاجتهم يومئذٍ إلى أن يعتمدوا اعتمادًا مباشرًا على الاتصال بالعلم الحي في علماء الإسلام؛ لكي يتمكنوا من حل الرموز اللغوية الكثيرة المسطرة في الكتب العربية، ولا سيما كتب الرياضة والجبر والكيمياء والطب والفلك وسائر علوم الصناعة التي قلَّ من يعرفها.

فكان من الأهداف والوسائل -كما ذكرتُ قبل- بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادة ما، تخرج لتسيح في أرض الإسلام تجمع الكتب "شراء أو سرقة"، وتلاقي الخاصة من العلماء وتخالط العامة من المثقفين والدهماء، وتدون في العقول وفي القراطيس ما عسى أن ينفعَهم في فهم هذا العالم الإسلامي الذي استعصى على المسيحية واستعلى قرونًا طوالاً، يخرجون أفواجًا تتكاثر على الأيام، ويجوبون أرجاء هذا العالم".

ثم بيَّن أن دورهم لم يقتصر على ذلك، وأنهم أضافوا إلى الاستفادة من علوم المسلمين أنهم صاورا جواسيس للساسة، وهم مَن مهد الطريق أمام الاحتلال.

فذكر عن المستشرقين أنهم بعد رحلاتهم المكوكية في بلاد المسلمين: "يعودون لإتمام عملين عظيمين: إمداد علماء اليقظة النصرانية بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوها أو سَطوْا عليها، وإطلاعهم على ما وقفوا عليه فيها باذلين كل جهد ومعونة في ترجمتها لهم، وفي تفسير رموزها بقدر ما استفادوا من العلم بها.

وأيضًا: إطلاع رهبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار الإسلام، وما رأوه عيانًا فيها، وما لاحظوه استبصارًا.

وكان أهم ما لاحظوه أو خبروه هذه الغفلةَ المطبقةَ على أرض الإسلام، والتي أورثهم إياها الاستنامة إلى النصر القديم على المسيحية والاغترار بالنصر الحادث بفتح القسطنطينية، ثم سماحة أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم مع مَن دينه يخالف دينَهم، ولا سيما اليهود والنصارى؛ لأنهم أهل كتاب وأهل ذمة؛ ولأنهم أتباع الرسولين الكريمين موسى وعيسى ابن مريم -عليهما السلام-، ولأن دين أحدهم لا يسلم له حتى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا يفرق بين أحد من رسله -سبحانه-.

وأعلَموا رهبانَهم وملوكهم أن هذا هو الذي يسَّر لهم أن يجوبوا في الأرض غير مُرَوَّعين، ويسر لهم خاصة أن يداهنوا العلماء والعامة وينافقوهم ويوهموهم بالمكرِ والمحال أنهم طلابُ علمٍ لا غير، خالصة قلوبهم لحب العلم والمعرفة... والله عليم بالسرائر".

خلاصة المرحلة الرابعة من الصراع: "غفلة هنا ويقظة هناك":

وانتهى الأستاذ "محمود شاكر" إلى وصف ما آلت إليه أحوال العالّمين الإسلامي والأوروبي بعد فتح القسطنطينية بقرنين، فقال:"من العسير -إن لم يكن من المحال الممتنع- أن أقص عليك في كتاب كبير قصة شعوب مختلفة، كثيرة العدد، تطاولت عليها أيام وتتابعت سنون منذ ذَرَّتْ عليهم شمس اليقظة، ثم انبسطت عليهم أشعتها حتى تحركت أوصال كل حي من جماهيرها الغفيرة، هذا محال، أفتظن إذن أني قادر على مثل ذلك في ورقات قلائل؟ كلا، فما هو إلا هذا الوصف السريع الخاطف.

تهاوت في أوروبا سدود الجهل وانبثقت اليقظة، وفتحت بعض مغاليق خزائن العلم وانقشعت "ظلمة القرون الوسطى"، ولاحت تباشير فجر جديد، واصطف الهمج الهامج كتائب تزحف في أيديها مصابيح ينبعث منها بصيص يضيء ليكشف غياهب الظلمات، واستنارت الطرق وازدحم على سلوكها كل مطيق للزحف، وبالصبر وبالجهد وبالجرأة وبالعزيمة وبنبذ التواني، صارت أوروبا قوة تمدها فتوح العلم الجديد بما يزيدها بأسًا وصرامة... ولا أقول: شال الميزان، بل أقول: بطل عمل الميزان، وصار في الأرض عالمَان: عالَم في دار الإسلام مفتحة عيونهم نيام يتاخم من أوروبا عالمًا أيقاظًا عيونهم لا تنام، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان!

وبدأت "المرحلة الرابعة" في الصراع بين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام التي تحجب عنهم من ورائها عالمًا مبهمًا مترامي الأطراف".

أسلحة المكر الثلاثة: "الاستشراق - التبشير - الاستعمار":

ثم إن العلامة "محمود شاكر" قد بيَّن كيف أعمل ثلاثة أسلحة مختلفة، ولكنها متعاونة، وهي: "الاستشراق - التبشير - الاستعمار".

وبيَّن أن الاستشراق في القلب منها، فقال: "فهذه ثلاثة متعاونة متآزرة متظاهرة، وجميعهم يد واحدة؛ لأنهم إخوة أعيان، أبوهم واحد، وأمهم واحدة، ودينهم واحد، وأهدافهم واحدة، ورسائلهم واحدة، ليس من همي هنا "التبشير" فقد فرغتُ من بعض شأنه في كتابي "أباطيل وأسمار"، وليس من همي هنا "الاستعمار"؛ لأنا ذقنا طرفًا من أفاعيله تجربة ومعاشرة، وإن كان من خذلان الله لنا أنا لم نفهمه فهمًا نافذًا شاملاً على الوجه الصحيح، ولكن همي هنا مصروف إلى "الاستشراق"؛ لعلاقته الحميمة بفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية، ولأن حاجة "التبشير" و"الاستعمار" إليه حاجة كانت ملحة، وهي إلى اليوم حاجة دائمة، لا يستغنيان عنه ولا عن نصائحه وإرشاداته وملاحظاته طرفة عين، ومرة أخرى: لا تنسَ ما حييتَ أن هذه الثلاثة إخوة أعيان لأب واحد وأم واحدة، لا تفرق قط بين أحد منهم".

وبعد ذلك بيَّن الأستاذ "محمود شاكر" كيف استغاث المستشرقون بالساسة ليقوموا باحتلال بلاد المسلمين قبل أن تَستفحل النهضة التي قادها شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب"، و"الصنعاني"، و"الجبرتي"، و"الزبيدي" و"علماء الأزهر".

وهو ما سوف نوضحه في المقالة القادمة -بإذن الله-...


www.anasalafy.com

انا السلفي