الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

المراجعة بين العناد والتراجع

وهذا الشعور يكون ممدوحًا غاية المدح في اتجاه، ويكون مذمومًا غاية الذم في الاتجاه الآخر:

المراجعة بين العناد والتراجع
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٠٥ يوليو ٢٠١٣ - ٠٠:١٧ ص
4783
المراجعة بين العناد والتراجع
27-شعبان-1434هـ   5-يوليو-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن أعلى درجات انتماء الفرد إلى أي كيان أن يذوب فيه فلا يكاد يَرى لنفسه آمالاً إلا آمال كيانه، ولا يكاد يشعر بآلام إلا آلام كيانه، فإذا حقق الكيان نصرًا كان هذا النصر هو الدواء من كل علة، وهو الراحة من كل تعب؛ لا سيما تلك التي حصلتْ في سبيل ذلك النصر، وإذا انكسر الكيان أو تعسر لم يطب لصاحبه طعام ولا شراب.

هذا الانتماء تجده أعلى ما تجده في أصحاب العقائد، وعلى رأسها: "عقيدة الإسلام" تلك العقيدة التي متى تجذرتْ في قلب صاحبها جعلت حياته وقفًا عليها؛ حتى ربما احتاج إلى أن يقال له ما قاله سلمان لأبي الدرداء -رضي الله عنهما- وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" (رواه البخاري).

وهذا الشعور يكون ممدوحًا غاية المدح في اتجاه، ويكون مذمومًا غاية الذم في الاتجاه الآخر:

أما الاتجاه الممدوح فهو: ما قدَّمناه من بيع النفوس لله، وتكريس الأوقات والأنفاس للعمل من أجل دين الله.

وأما الاتجاه المذموم فهو: عندما يتصور الشخص في نفسه أو يتصور فيه غيره أنه هو الدين، وأنه لا قوام للدين إلا به! وبطبيعة الحال فكلما ازدادت مكانة الشخص وازداد تفانيه في كيانه كلما كان من الممكن أن يظن أو يظن به غيره ذلك الأمر.

ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتقى الناس لله وأشدهم له خشية وكان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، وكان حاله مع أمته ما وصفه الله بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(التوبة:128)، وكان -صلى الله عليه وسلم- هو مَن ينزل عليه الوحي من السماء فيثبت قلوب المؤمنين، وهو يعد المعلم والمربي والقائد؛ فكان من الطبيعي أن يتسرب هذا الشعور لا إراديًّا إلى أصحابه، ورحمة مِن الله بصحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأن بوفاته سينقطع الوحي بينما الأمة تصدم أعظم صدمة - فقد قدَّر الله الرحيم أن يحدث انكسار في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ويبلغ الأمر أن يشاع خبر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحدث تلك الزلزلة، ويتضح أثر ذلك الشعور النفسي المذموم في الربط بين وجود الدين وبين وجود رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أن زالت الغمة واتضح عدم صحة تلك الشائعة؛ نزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(آل عمران:144).

ودارت الأيام دورتها وقُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلاً، ورغم ما سبق من التمهيد لذلك إلا أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يطيقوا ذلك!

وثبتَ لها أبو بكر -رضي الله عنه- فقام خطيبًا: "أيها الناس مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت" ثم قرأ عليهم الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، فحفظهم الله من الفتنة بتلاوة الصدِّيق -رضي الله عنه- لهذه الآية حتى قال قائلهم: "كأنها لم تنزل إلا تلك الساعة!".

إن إدراك الفرق بيْن الإسلام وبيْن قادته ليس مهمًا فقط لمنع الارتباط النفسي بوجود شخص وجهده "حتى ولو كان رسول الله" -صلى الله عليه وسلم-، لكنه مهم لأمر آخر أكثر أهمية وهو ألا يُلصق أي خطأ يقع فيه شخص للدين ذاته؛ ولذلك كان مما يوصي به النبي -صلى الله عليه وسلم- قادة جيوشه: (وَإِنْ حَاصَرْتَ حِصْنًا، فَأَرَادُوكَ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّهِ، أَمْ لا؟(رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

ومِن ثَمَّ ورد إلينا في وقائع السيرة مواقف هي أخطاء لأصحابها تُروى لنتعلم منها دون أن يلتبس علينا الأمر؛ لقيام هذا الفصل الواضح بين الدعوة والداعي، وبين الإسلام والمسلمين، وإن كانوا قادة عظامًا؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) مَرَّتَيْنِ (رواه البخاري)، فكان هذا تبرئًا من خطأ وقع فيه خالد -رضي الله عنه-، ولم يستلزم ذلك... التبرؤ من خالد -رضي الله عنه-، ولا لزِم من ذلك نسبة هذا الخطأ إلى الإسلام بطبيعة الحال.

ورغم وضوح ما قدمناه إلا أنه يغيب في أحيان كثيرة إذا ما وجدت حالة وسيطة بين الفرد وبين الدين "وهي الجماعة الخاصة"؛حيث يفرغ الشخص كل هذه المفاهيم من أنه ليس هو الجماعة، وأن بقاء الجماعة ليس مرهونًا به، إلى آخر هذه المعاني... ثم يتناسى أن نسبة هذه الجماعة إلى الإسلام هي كنسبة الفرد إلى الجماعة!

 أو بعبارة أخرى: فيمكن اعتبار أن أي جماعة ما هي إلا شخصية اعتبارية، وهي جزء من الأمة وليست الأمة، ولها اجتهاداتها وأخطاؤها، ولها تجاربها التي تنجح أحيانًا وتتعثر في أخرى، وهذا سواء كانت هذه الجماعة مؤقتة التكوين أو كانت دائمة كالجماعات الإسلامية الآن.

وفي غزوة "أُحد" ذكر الله -عز وجل- عددًا من الآفات وُجدت في بعض الأفراد، ولكنها في النهاية لما أصبحت خطأ لذلك الجيش خاطبهم الله به كمجموع.

إن أهم فائدة نخرج بها من ذلك التمييز بيْن الإسلام وبين المسلم أو بين الإسلام وأي جماعة من المسلمين: أن ندرك أن الإسلام هو الفسطاط الذي نفر إليه عند حدوث انكسار؛ لنستمد منه عزته وشموخه، وبقاؤه منتصرًا (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(آل عمران:139)، وهذا العلو ليس استعلاءً على الخلق حتى العصاة منهم "كما يفهم أو يشعر البعض"، ولكنه استعلاء يعيد للنفس وللمرء توازنه بأنه وإن كان خطاءً فإن لديه دليلاً لا يخطئ، ولكن فقط عليه أن يعرض نفسه عليه ليصحح خطأه.

إن هذا الفهم هو الذي يضمن للأفراد والجماعات أن يسلكوا عند الأزمات سلوكًا وسطـًا محمودًا لا هو الإصرار والعناد الذي يهلك صاحبه في الدنيا والآخرة، ولا هو التراجع والانهيار، وبكاء الأطلال ورثاء الديار!

إن الفرد المسلم والمجتمع المسلم متى فهموا ما قدَّمناه، واستصحبوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ(رواه البخاري)، فإنهم يخرجون من كل أزمة بمراجعات تزيدهم نضجًا وعزيمة وإصرارًا.

فهل نأمل أن يراجع "التيار الإسلامي" نفسه بعد تجربة الدكتور "مرسي" في رئاسة مصر لمدة سنة، ويعرف كل فصيل أخطاءه، ونتجاوز هذه المرحلة إلى ما وراءها... ؟!

هذا ما نرجوه...

ونسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعله ملتبسًا علينا فنضل.

www.anasalafy.com

        موقع أنا السلفي