لماذا نصر على
المادة " 219 " ؟
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وبعد ؛
الأصل في نصوص
الدساتير أن تكون نصوصاً واضحة جامعة مانعة معبرة عن عقيدة الأمَّة وهويتها ،
وليست معبرة عن مصلحة طائفة محدودة ، إلا أن تكون الجماعة الوطنية ترى هذه المصلحة
حقاً وعدلاً وتمثل جزءاً من توازن المجتمع واستقراره ، ولقد نص أول دستور مصري سنة
1923 على أن ( للدولة المصرية دين هو دين الإسلام ولغة رسمية هي اللغة العربية ) ،
ويختلف الإسلام عن غيره من الملل أنه شامل لكل حياة البشر أفراداً وجماعات وشعوباً
ودولاً .
قال تعالى : ( قل إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، وقال
تعالى : ( وأن احكم بينهم
بما أنزل الله ) ، وقال تعالى : ( إنا أنزلنا إليك
الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ، وقال : ( كان الناس أمة
واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه ) .
وهذه القضية قطعية
الثبوت والدلالة ، معلومة بالضرورة من دين الإسلام من المسلمين ، وإنما حاول العدو
المحتل المسمى بالاستعمار فصل الدين عن حياة الأمة ، وخاصة في شأن السياسة
والتشريع والقضاء ، تمهيداً لفصله عن حياتها في الأخلاق والعقائد والعادات ، ولم
ينجح بحمد الله في ذلك ، إلا في طائفة محدودة من المجتمع حاولت أن تفرض إرادتها
على الأمة بقوة المستعمر تارة ، وبالخديعة واللين تارة ، وبسحر الإعلام تارة ،
وبسلطان القهر والتعذيب والسجن والقتل تارة ، إلا أن الأمَّة ثبتت على عقيدتها
الراسخة في شأن شمول هذا الدين لحياتها ، لا تجد فرصة حقيقة للتعبير عن عقيدتها
وهويتها إلا أظهرتها ، ظهر ذلك في دستور مصر سنة 1971 ، حيث شهد المجتمع حواراً
طويلاً حول النص على مرجعية الشريعة الإسلامية في التشريع ، وكان الضغط الشعبي مع
بدايات الصحوة الإسلامية المعاصرة هائلاً ، ولكن قابلته مقاومة عنيفة من القوى
العلمانية وغيرها ، مما جعل الصياغة تنص على أنَّ ( مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر
رئيسي للتشريع ) ، والمفترض أن وجود مصدر رئيسي دون النص على غيره أنه رئيسي يقتضي
أن كل المصادر غيره فرعية مما لا يجوز أن تعارضه ، وعلى المجلس التشريعي مراجعة كل
التشريعات التي تخالفه ، وكان النص في الأصل مقترحاً أن يكون : " الشريعة
الإسلامية " لكن ضغط القوى العلمانية أدى إلى إضافة كلمة " مبادئ "
التي لا توجد في القرآن ولا في السنة ، ولا في كلام الفقهاء ولا الأصوليين ولا
غيرهم ، ولا نعلم أحداً استعملها قبل هذا العصر ، فصار تفسيرها بالتأكيد متبايناً
مختلفاً ، فالبعض يفسرها بأنها قطعي الثبوت والدلالة ، وهذا تفسير المحكمة
الدستورية العليا في سنة 1996 ، ومنهم من فسرها بما هو أعم من ذلك كالحرية
والمساواة والعدل والكرامة الإنسانية ، فهي عندهم مجرد مادة ديكورية تزيينية كما
صرح به بعضهم ، وعند البعض أنها مماثلة تماماً للأحكام ، وهذا ما يحاول البعض أن
يقنعنا به وهو أن المادة الثانية خاصة بعد تعديل سنة 1981، والتي صارت هي " المصدر الرئيسي
للتشريع " كافية ، ولكن كما هو واضح هذا التعبير عندهم وحدهم ، وليس عند
المحكمة الدستورية التي تختص بالنظر في دستورية القوانين وعدمها ، وكذلك ليس عند الطوائف
الليبرالية المتطرفة التي تريد أن تعبر عن هوية أخرى غير هوية هذا الشعب المنتمى
لهذا الدين كأقوى ما يكون ، وهم ـ ونحن ـ جازمون بأنه لو عرض الأمر على الشعب
لاستعلامه عما يعتقده لاختار قطعاً " الشريعة " دون لفظ " مبادئ
" ، ولذا أبوا ذلك تماماً مع أنّه عين الديمقراطية التي يريدونها ويدعون
تطبيقها .
ومن هنا كانت
الحاجة إلى مادة مفسرة لكلمة مبادئ المختلف فيها ، فكان دستور سنة 2012 متضمناً
للمادة (219) المفسرة لكلمة مبادئ ، لتلزم الجميع بهذا الفهم الذي وافق عليه الشعب
المصري ، وقد وقع عليه قبل ذلك كل الطوائف من قوى ليبرالية ومدنية وممثلو الكنائس
المصرية والأزهر والإخوان والسلفيين ، وأقره ممثلو القوات المسلحة والشرطة ، وتضمن
النص أن المبادئ ( تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها
المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة ) ، وقد حاول البعض حذف كلمة " مصادرها
" باعتبار أنها الأدلة ، ولكن إصرار من أحد الأعضاء على إضافة كلمة " الكلية
" إلى " الأدلة " أدى إلى تحجيم هذه الأدلة وحصرها ، فليست كل أدلة
الشريعة تكون مصدراً للتشريع ، وإنما الأدلة الكلية دون الجزئية .
وهذا يعود بنا إلى
الدائرة المفرغة من وجود تفسيرات متعددة لمعنى " الكليّة " : أهي فقط
النصوص التي تدل على القواعد الفقهية والأصولية ؟ أم هي النصوص والأدلة التي
تتناول الكليات دون الجزئيات ؟ ثم نعود إلى الاختلاف حول ما هي الكليات ؟ فيا
قومنا ، لماذا الإصرار على الغموض في هذه المادة ؟
ولماذا محاولة
الهروب من شرع الله ـ عز وجل ـ إلى شرع وضعه البشر بآرائهم ؟ ولماذا التقديس
للقوانين الوضعية المأخوذة عن أوروبا في عصور احتلال بلادنا وضعفها ؟
ولذلك كان الإصرار
على إضافة كلمة " مصادرها " لأجل أن تشمل المصادر المجمع عليها : الكتاب
والسنة والإجماع والقياس ، والمصادر المختلف فيها التي قد يأخذ بها المجلس النيابي
في سن القوانين التي تلبى الحاجة وتحقق المصلحة .
وكان النص على
مذاهب أهل السنة والجماعة التي تشمل المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري ومذاهب
الصحابة والتابعين وتابعيهم قبل تدوين المذاهب ، ليمثل خياراً واسعاً دون التقيد
بمذهب معين ، وليكون كذلك سياجاً واقياً من خطر الفكر الشيعي الغالي الذي يريد غزو
مجتمعنا ، وكذلك فكر الخوارج المتطرف الذي يخالف الكتاب والسنة والإجماع ، فضلاً
عن مخالفة طبيعة شعبنا وعقيدته السنية .
فإننا نطلب من
قومنا الإنصاف ، فمادة بهذا الاعتبار تعبر عن إرادة أمة وهوية شعب بعبارة واضحةً
بلا لبس ، وتبعد عن أسباب الانقسام الطائفي الذي يريده الأعداء ، ووافقت عليه كل
الفئات ووقعت عليه .
لماذا تصرون على
حذفها وتعودون بنا إلى دائرة التفسيرات المختلف عليها لكلمة " مبادئ " .
فإن أبيتم ،
فاحذفوا كلمة " مبادئ " وأريحونا وأريحوا شعبنا ، أو اسألوه في
الاستفتاء : هل تريد بقاء هذه المادة (219) أم حذفها ؟
وما أيسر أن تتضمن
الورقة سؤالين لا سؤالا واحداً ، وانتظروا النتيجة !
وأما الطوائف غير
المسلمة فقد أخذت حقها كاملاً في المادة الثالثة التي لم نعترض عليها رغم أنها
كانت منصوصًا عليها في القانون ، لكن أرادوا تأكيدها في الدستور ـ لا مانع من ذلك ،
وهو تأكيد لحق يريدونه لا يخالف الشرع ـ وكان في المقابل قبولهم للمادة المفسرة
ولمرجعية هيئة كبار العلماء في الشأن الإسلامي ـ الذي طالته أيضاً أيدي العبث
بمواد الهوية في عمل لجنة العشرة لتلغي هذه المرجعية الاستشارية ـ وليست الملزمة ـ
وإن كانت أدبياً ملزمة لن يستطيع أحد تجاوزها كما حدث في قانون الصكوك ، الذي كان
خطراً داهماً بصيغته الأولى التي نقضتها هيئة كبار العلماء ـ مع إصرار حزب الحرية
والعدالة وقتها على عدم عرضها على الهيئة ـ فهل جنينا منها إلا الخير ؟
وأنتم تقولون : وسطية
الأزهر ، ونحن الذين نطالب بجعل مؤسسته هي التي يرجع إليها في الشأن الإسلامي ـ
فما الذي تتخوفون منه ؟ لم نقل سنتكلم في الشأن الإسلامي بلساننا كسلفيين ، أو
بلسان الإخوان ، أو بلسان الجماعة الإسلامية ـ أو غير هؤلاء ، بل نقول ارجعوا
للأزهر ، وعليهم الأمانة والمسئولية في قول الحق لا يخافون لومة لائم .
وفي النهاية نقول :
لا نرى لنا بديلاً عن هذه المادة (219) مع مرجعية الأزهر كمؤسسة في هذا الشأن .
( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين )
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي