السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الغناء من الإقصاء إلى التكفير!

ويزداد الأمر خطورة حينما يكون ذلك عبر الغناء الذي يردده جمهور متنوع ليس لديه الحصانة الفكرية مما يترسب في عقله الباطن من أفكار

الغناء من الإقصاء إلى التكفير!
عبد المنعم الشحات
السبت ٢١ سبتمبر ٢٠١٣ - ١٦:١٨ م
2882
17-ذو القعدة-1434هـ   21-سبتمبر-2013      

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد انتشرت في الآونة الأخيرة دعوات التكفير والتخوين والإقصاء، وتقاذفها الجميع فيما بينهم كما يتقاذف الأطفال الكرة، وكل يدعي أنه مجرد رد فعل وأن الآخر كان هو الفعل.

وبلغ الأمر مبلغه بدخول "الغناء" على خط الشماتة!

وقد استمعتُ إلى مقطع فيديو لأحد المطربين، ورغم أنه "يتبنى أن الجيش والشرطة اُضطروا إلى استعمال القوة في فض اعتصام رابعة؛ إلا أنه انتقد بعض الأغاني التي تمجد هذا الفعل بنغمات فيها بهجة وسرور، مع أن الشعور الذي كان ينبغي نقله إلى المستمِع مِن وجهة نظره هو شعور الحزن الذي يخيم على مَن يضطر إلى قتل نفس مهما كان الفعل الذي اضطره إلى ذلك"، ولكن موسم المزايدات لا يعترف بمثل هذه المعاني الإنسانية!

ثم ظهرت أغانٍ أخرى، وكان مِن أكثرها إثارة للجدل أغنية: "إحنا شعب وانتو شعب، ورغم إن الرب واحد لينا رب وليكو رب!"،وهي الأغنية التي أثارت استياء الكثيرين -وبعضهم من الوسط الفني-، وقد ردَّ مؤلف وملحن الأغنية بردود ملخصها أن الأغنية فُهمت خطأ، وهو العذر الذي لم يقبل من أنصار الإخوان قبل ذلك، ولا يمكن قبوله من أي أحد بالذات حينما يتعلق الأمر بقضية خطيرة مثل قضية التكفير أو التخوين.

ويزداد الأمر خطورة حينما يكون ذلك عبر الغناء الذي يردده جمهور متنوع ليس لديه الحصانة الفكرية مما يترسب في عقله الباطن من أفكار، وبينما كان التكفير العقدي لا يمر إلا عبر منظومة فكرية معينة لا تنتشر إلا بوسائل محدودة الانتشار؛ فقد أصبح "التكفير الغنائي" الآن وسيلة طيارة تحملها الميكروباصات والحافلات فضلاً عن التكاتك!

إن التكفير في صورته العقدية المرادف للإقصاء في صورته السياسية، وأخيرًا التكفير والإقصاء معًا في صورته الغنائية هو نتاج مزاج نفسي منحرف يريد أن يستعلي على الآخر أو أن يهزمه فكريًّا بعيدًا عن مجال المجادلة بالتي هي أحسن، لقد بلغ هذا التعالي الكاذب ووهم التفرد برجل أن يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ!(رواه البخاري ومسلم)، وقد شاء الله -عز وجل- أن يكون الخوارج من نسل ذلك الرجل.

إن التكفير عند البعض لا يعدو أن يكون أسلوبًا لإغاظة الخصم عن طريق سلبه دينه أو وطنيته أو شرفه، فهو لا يعدو عند البعض أن يكون أسلوبًا من أساليب الشتم والسب، وإذا كان الشرع قد حرَّم السب والشتم إذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيِّ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)؛ إلا إنه شدد في أمر التكفير خاصة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا(متفق عليه).

ومن ناحية أخرى: فإن المتتبع لخطاب الأنبياء والمرسلين مع المشركين من أقوامهم يجد أنه ألين بكثير من الخطاب الذي يتراشق به المسلمون مع بعضهم البعض.

فذكر الله حوار نوح -عليه السلام- مع قومه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ . أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ . فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ(الأعراف:59-64).

فتأمل هذا الصبر والحلم من نوح -عليه السلام- مع قومه، مع كفرهم وعنادهم وطول نفسهم في ذلك الأمر، وقد حكى الله -عز وجل- مثل ذلك الحوار بين عامة الأنبياء وأقوامهم.

وقد حكى الله مثل ذلك عن أتباع الأنبياء، فذكر حوار مؤمن آل فرعون مع قومه: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ . يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ . مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ . وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ . تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ . لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ . فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(غافر:38-44).

وهذا لا يمنع من التبرؤ من الشرك كما أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(يونس:41)، وقال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هَُوَ أَهْدَى سَبِيلاً(الإسراء:84).

فحبذا لو اقتصر الإنسان على التبرؤ من الأفعال التي يرى خطأها دون أن يحاول أن يجرد صاحبها من دينه أو من وطنيته؛ لا سيما إن كانت هذه الأفعال تدخل في نهاية المطاف في باب الاجتهاد السياسي أو كانت حتى من باب كبائر الذنوب والمعاصي.

وإليك هذا النص من درر كلام العلامة "الطاهر بن عاشور" -رحمه الله- في خطورة دعاوى التكفير ومفاسدها الاجتماعية "فضلاً عن العقدية": ولهذا اتفق جمهور الأمة المقتدَى بهم على أن المعاصي لا تخرِج المسلم من حظيرة الإيمان، وشذت الخوارج فكفروا مرتكب الذنب بسبب الذنب، وقالوا: هو كافر، وسموه كافر نعمة إلا أنه لا يعامل معاملة المرتد ولا يجاهد، وشذت المعتزلة فقالوا: هو مؤمن، لكنه خالد في النار كالكافر، ويسمونها منزلة بين المنزلتين، ولا يرتفع عن المعاصي ذلك عند الفريقين إلا إذا تاب.

وهذان مذهبان من أكبر الأخطار على الإسلام؛ لما يقتضيان من يأس العاصي في حال دوامه على المعصية، فلعل ذلك اليأس يخرجه عن ربقة الإسلام، ولما في مذهب الخوارج خاصة من انحلال الجامعة الإسلامية؛ لأن الذنوب لا يسلم منها إلا المعصوم، فلو راعى المسلمون مذهب الخوارج لكان إعلان الكفر والردة أهون على العاصي من البقاء في الإسلام مع معصيته؛ لأنه يثقل نفسه بقيود، ولا ينتفع برضا معبوده.

ومن توابع مقصد عموم دعوة الإسلام لسائر البشر تكثير سواد أتباعه بقدر الإمكان وصولاً إلى تعميمه، وتسهيل سبل الدخول فيه على راغبيه؛ ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يَعرض الإسلام على قبائل العرب، ويخاطب به رؤساء الأمم القاصية عنه؛ ليكونوا دعاة رعاياهم إلى الدخول في الإسلام، ويسجل عليهم إن هم أعرضوا بأن عليهم إثم أقوامهم، فكان من الفقرات التي لا تخلو عنها كتبه إلى رؤساء الأمم: "فإن توليت فإن عليك إثم كذا"، وقال الرسول في الحديث الصحيح: (فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ(متفق عليه)، وقال في شأن المشركين من العرب: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا(متفق عليه)، وقال لعلي -رضي الله عنه-: (فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)(متفق عليه)، وأعان على ذلك بالتيسير فقال: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا(متفق عليه)، وكان يتألف الداخلين في الإسلام في مدتهم الأولى فيوفي لهم العطاء، ويجعل لهم حظـًّا من مال الزكاة، وآثار الشريعة مفعمة بدلائل هذا المعنى.

وكما عني الإسلام بتأسيس هذه الجامعة وتسهيل الدخول إليها وتكثير سواد أتباعها أحاطها بسياج مانع من اطراد أهلها بعضهم بعضًا، ففي الحديث: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا(متفق عليه)، وفي الحديث الآخر أن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله عندما أهوى إليه بالرمح، فلما بلغ ذلك رسول الله قال لأسامة: (يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ)، وجعل يكررها... حتى قال أسامة: "حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ" (متفق عليه)، وكذلك وقع لخالد بن الوليد -رضي الله عنه- في بني هُدية عندما غزاهم من جذيمة فلم يستطيعوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا: صبأنا، فجعل خالد بن الوليد يقتل، فلما بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ(رواه البخاري).

وفي الختام: ننصح الشعراء أن يراجعوا قوله -تعالى-: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(الشعراء:224-227).

فليجتهد كل منهم أن يكون من هؤلاء الذين يصلحون، وليس من هؤلاء الذين هم في كل وادٍ يهيمون، كما ننصح كل مَن رُمي بمثل ذلك أن يصبر ولا يرد الخطأ بمثله، وله في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة وهم خير الخلق بعد الأنبياء، وقد كفَّرهم الخوارج غير ملتفتين لعلمهم وسبقهم وفضلهم! فلم يردوا الخطأ بمثله رغم أن تكفير الصحابة يتضمن تكذيبًا بنصوص شرعية، لو سلم الخوارج عن الشبهة لوجب تكفيرهم من أجل تكذيب هذه النصوص إلا أن الصحابة استصحبوا وجود شبهات لديهم فلم يكفروهم.

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في شأنهم: "ومع هذا فلم يكفرهم الصحابة، بل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي قاتلهم حكم فيهم بحكمه في المسلمين الجاهلين الظالمين، لا بحكمه في الكافرين المشركين وأهل الكتاب، وكذلك الصحابة كسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ذكروا أنهم من المسلمين، هذا مع أن الخوارج كفَّروا عثمان وعليًّا -رضي الله عنهما- ومن والاهما، وكانوا يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وقد قتلوا من المسلمين ما شاء الله!".

نسأل الله -تعالى- أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي