الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات إيمانية في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)

فإن العبد لن يستطيع المخاصمة إلا إذا كان منيبًا إلى الله, فهو لا يخاصم إلا لله، وبالله -عز وجل-.

تأملات إيمانية في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)
ياسر برهامي
السبت ١٢ أكتوبر ٢٠١٣ - ١٤:١٩ م
4523
8-ذو الحجة-1434هـ   12-أكتوبر-2013      

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلنتأمل هذا الترتيب الرائع العظيم في هذا الدعاء من أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ... ) (متفق عليه), فإن العبد لن يستطيع المخاصمة إلا إذا كان منيبًا إلى الله, فهو لا يخاصم إلا لله، وبالله -عز وجل-.

وأكثر الخلق يخاصمون غيرهم لحظوظ أنفسهم, وليس هذا من التسليم لله -عز وجل-, بل مَن أسلم لله فإنه لا يخاصم إلا لله, ولا يخاصم كذلك إلا به مستعينا به -عز وجل- متوكلاً عليه؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله, فإذا خاصمنا لحقوق أنفسنا فقد ضاعت منا حقيقة الاستسلام لله, وإذا خاصمنا بأنفسنا وبتدبيرنا ولم نستشعر فقرنا وعجزنا، واحتياجنا التام وضرورتنا التامة إلى الله -عز وجل- وكلنا الله إلى أنفسنا, وصارت قوة الأعداء تؤثر ما لا نستطيع دفعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المخاصمة لا تكون إلا بالله ولله:

فأما إذا خاصمنا بالله, فهذه ثمرة الإسلام والإيمان، والتوكل والإنابة: فإن العبد إذا أناب إلى الله خاصم بالله, أي خاصم مستعينا بقوة الله -عز وجل-, فصار القليل منه كثيرًا, وغلبت الفئة القليلة الفئة الكثيرة -بإذن الله- كما قال -تعالى-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(البقرة:249)، وصرف الله -عز وجل- عن عباده المؤمنين من أنواع الكيد والمكر ما قد أحاط بهم أعداؤهم وأوشكوا أن يستأصلوهم, ولكن الله -عز وجل- يقلب قلوب خلقه بما شاء, ويصرِّف إرادتهم وقوتهم بأمره, وهذه ثمرة مَن خاصم بالله -عز وجل- أن يصرف عنه السوء وأذى المؤذين وظلم الظالمين؛ إلا ما يقدِّره الله -عز وجل- عليه من بلاء يجعل له فيه خيرًا كثيرًا حتى يستكمل عبوديته لله -عز وجل-.

ولابد أن نستشعر في صراع أهل الحق مع أهل الباطل عبر الزمان والمكان أن أهل الإيمان لم ينتصروا قط بعدد وعدة، وتخطيط وكيد, وإنما انتصروا بالله -عز وجل-: قال الله -تعالى-: (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(آل عمران:126)، وإنما ينتصرون بالله -عز وجل- إذا خاصموا به، وإذا صالوا به, وإذا قاتلوا به, كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مواجهة عدوه وإذا غزا: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ(رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْتَ عَضُدِي) معناه: أنت الذي تعضدني وتقويني وتعينني, فالله -عز وجل- هو الذي يستعين به أهل الإيمان, وهذا معنى المخاصمة بالله -عز وجل-.

وأما المخاصمة لله -عز وجل-: فإن أهل الأيمان يخاصمون لله، أي: لحقه -عز وجل-, فلا ينتقمون لأنفسهم ولا يغضبون لها، وكما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لنفسه, كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ" (متفق عليه), وكما قال أنس -رضي الله عنه-: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلا صَنَعْتَ" (متفق عليه), وفي رواية لأحمد بسندٍ صحيح: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ فَتَوَانَيْتُ عَنْهُ أَوْ ضَيَّعْتُهُ فَلامَنِي، فَإِنْ لامَنِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلا قَالَ: (دَعُوهُ، فَلَوْ قُدِّرَ -أَوْ قَالَ: لَوْ قُضِيَ- أَنْ يَكُونَ كَانَ).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلا امْرَأَةً، وَلا خَادِمًا، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (رواه مسلم).

وكذلك كان لا يضرب الناس بين يديه -صلى الله عليه وسلم-: فعن قدامة بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ، لا ضَرْبَ، وَلا طَرْدَ، وَلا إِلَيْكَ إِلَيْكَ" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني): أي: لا يُدفع الناس عنه، ولا يجرون ولا يقال لأحدهم: قف عندك، لا تتقدم، وإنما ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناقة؛ لأن الناس لقوه وغطوه، ومنعوه من السعي والحركة، فكان لا يضرب الناس بين يديه -صلى الله عليه وسلم-؛ هكذا كان أنبياء الله -عز وجل- لا ينتصرون لأنفسهم، وإنما ينتقمون لله ويعفون حظوظ أنفسهم، وبهذا أحبهم الناس، وبهذا قذف الله في قلوب الناس تعظيمهم، ولا أظن أن مَن لم ينتقم لنفسه ضاعت حقوقه، بل الله يحفظها. (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(يوسف:64).

وأنتَ إذا سامحت في حق نفسك، وفَّى الله لك حقك كاملاً موقرًا من عنده، ومن عفا وأصلح فأجره على الله -عز وجل-، كما قال -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ(الشورى:40), فإذا عفوت عمن آذاك، وأحسنت إلى مَن أساء إليك، وأعطيت من حرمك ووصلت من قطعك؛ فقد أخذت بالمكيال الأوفى، وصرتَ مخاصمًا لله دون أن تخاصِم لنفسك.

وهؤلاء الذين يحسنون إلى مَن أساء إليهم، ويصلون من قطعهم إنما يوفرون انتقامهم وغضبهم لانتهاك حرمات الله -عز وجل-،فنجدهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويغضبون إذا انتهكت حرمات الله، ويغيظهم ذلك، وإنما ينتصرون لله -عز وجل- وهم في ذلك مستعينون به، وكل ذلك ثمرة الإسلام والإيمان، والتوكل والإنابة، وأما مَن ينتصر لنفسه فقلبه لم ينب بعد، ولم يرجع إلى الله، ولم يحقق كمال الإسلام, ولم يحقق كمال الإيمان, ولم يحقق حقيقة التوكل على الله -عز وجل-.

ثم لابد للإنسان في مخاصمته واختلافه مع خصومه وأعدائه أن يحاكمهم إلى أمر ثابت, فيحاكِم إلى الله -عز وجل-؛ فلذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ).

قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ):

فالمؤمن يحاكِم إلى شرع الله -عز وجل-، بمعنى: أن يطلب مِن خصمه أن يتحاكما إلى شرع الله، فيحكم الله بينهما بحكمه الشرعي المنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يحاكم إلى أهواء النفوس، ولا آراء الرجال، ولا إلى شهوات الأبدان، ولا يحاكم إلى سياسات العقول الفاسدة، ولا إلى تقليد الأسلاف والأجداد؛ فضلاً عن أصحاب زبالات الآراء والأذهان، الذين وضعوا الشرائع المخالفة لشرع الله -عز وجل-!

ولذا كانت القضية قضية أساسية في حياة المؤمن؛ فهي مرتبطة بإسلامه وإيمانه وتوحيده، بل هي جزء من هذا الإسلام والإيمان:قال الله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:65), وقال -تعالى-: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا(الأنعام:114)، وذلك أنهم يحكِّمون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(المائدة49-50).

فهي قضية في حياة المرء المسلم في كل أموره، ومع كل اختلاف يقع بينه وبين غيره, كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً . أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا(النساء:59-63).

وجعل الله -عز وجل- مَن يريد التحاكم إلى العادات والتقاليد أو إلى ما وضعه الكبراء والأسلاف دون الرجوع إلى شرع الله -عز وجل- مسارعًا إلى الكفر: فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(المائدة:41-44).

وقد جمع الله -صلى الله عليه وسلم- المنافقين واليهود في هذا الوصف؛ لأنهم مشتركون فيه, فهم الذين يسارعون في الكفر بعدم تحكيم شرع الله -عز وجل-, فإنها نزلت في اليهود لما بدلوا, وما زال الرجم للمحصن الزاني في التوراة والإنجيل إلى يومنا هذا, ولكنهم تركوا ذلك وبدلوه إلى عقوبة أخف هي الجلد والتحميم, وأن يفضحا بأن يطاف بهما في الطرقات على حمارين مقلوبين! فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَاءَ يَهُودَ، فَقَالَ: (مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى؟) قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا، وَيُطَافُ بِهِمَا، قَالَ: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرُجِمَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنَ الْحِجَارَةِ بِنَفْسِهِ. (رواه البخاري ومسلم والسياق له).

فاليهود لم يكونوا قد بدَّلوا ألفاظ آية الرجم أو حرفوها في التوراة، وإنما تركوا حكمها وشرعوا شريعة أخرى خلاف حكم التوراة،فهذان اثنان من الخمسة الذين رجمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، اثنان منهما من اليهود حكم فيهم بحكم القرآن الذي ما نسخه الله في توراة ولا إنجيل ولا قرآن، حتى وُجد مَن يؤمن بلسانه ولم يؤمن قلبه مِن الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ففعلوا مثل ما فعل اليهود قديما! قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)(المائدة:41), فكان التحريف أن ينسبوا إلى شرع الله -عز وجل- ما ليس فيه بالرغم أنهم أبقوا كتاب الله -عز وجل- على ما هو عليه.

فليس التحريف فقط في تغيير الرسم أو تغيير الألفاظ والحروف، وإنما كذلك في نسبة ما ليس في الشريعة إليها، فإن في ذلك نقضًا لقول المؤمن متابعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)، (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) أي: الجلد والتحميم (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ... ) تجد صفات واحدة متكررة عبر الأزمنة والأمكنة، يسمعون الكذب ويأكلون السحت، وهي الرشوة والربا، وكل ما حرم الله -عز وجل- داخل في ذلك.

(فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ . إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... (المائدة:42-44)، إلى أخر الآيات الكريمات التي تبين لزوم الالتزام بالتحاكم إلى شرع الله -عز وجل-؛ لتتحقق للعبد الهداية والتوفيق إلى ما يحبه الله ويرضاه.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ): يبين غاية المخاصمة، وهي أنها تقف وتنتهي عندما يقبل الناس التحاكم إلى دين الله -عز وجل-، ويلتزمون به، فهنا تزول الخصومة، وهنا يكونون إخواننا في الدين، وأما من أبَى ذلك فإنه على وصف الكفر والنفاق، وإن كان من ذلك ما يكون منه كفر أكبر ينقل عن الملة، ومنه ما هو كفر دون كفر إذا كان مقرًا بشرع الله -عز وجل-، مقرًا على نفسه بالذنب، غير آبٍ لشرع الله -عز وجل-، ولا راد له، ولا ملزم بالتحكيم والتحاكم إلى غير شرع الله -عز وجل-.

ويجب التنبيه هنا أيضًا إلى أن هذا في الحكم العام، وأما فيما يتعلق بحكم ردة شخص بعينه فلابد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع حتى تثبت الحجة، فإن الله -عز وجل- لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة، والحجة من كتاب الله -عز وجل- بينة، تُبين لمن خالف شرع الله وتوضح له، وتزال الشبهات وتنفى المعاذير من إكراه أو جهل أو تأويل، أو غير ذلك مما قد يقع فيه بعض من يقع في هذا الذي نهى الله -عز وجل- وحذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- من تحريف الكلم عن مواضعه لتبديل شرع الله وإقامة الحجة وإزالة المعاذير لأهل العلم، وليس ذلك لآحاد الناس الذين لا يعرفون ما يسوغ من التأويل وما لا يسوغ، وما المقبول من أنواع الجهل وما المردود، وما يعذر فيه وما لا يعذر، وما الذي يعد إكراهًا معتبرًا وما لا يعد كذلك، فأهل العلم هم الذين يبينون ذلك وهم الذين توكل إليهم هذه الأحكام، وكذا أهل القضاء بشرع الله.

وأما الذي ينشغل به المؤمن فهو ما يخصه من ذلك في حياته كلها، فهو دائمًا يحكم بشرع الله -تعالى-، ويحاكم إلى الله وإلى كتابه وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويدعو غيره كذلك إلى هذا الأمر، ويلجأ إلى أهل العلم ليحكموا بينه وبين من خالفه بشرع الله.

وليس الأمر مقتصرًا على الخصومات التي تصل إلى القضاء أو غير ذلك، بل في كل مسألة وقع فيها اختلاف بين البشر، فيما يتعلق بالقلوب وأحوالها ومنازلها أو فيما يتعلق بالأعمال والعبادات، أو فيما يتعلق بالمعاملات، فكل مسألة وقع فيها اختلاف يكون حال المؤمن مع لسانه قائلاً: "اللَّهُمَّ بِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ".

والمؤمن في تحاكمه باذل جهده، مستفرغ وسعه في أن يحاكم نفسه وخصمه ومخالفيه في كل شيء؛ في مسائل الاعتقاد والإيمان، وفي مسائل الأعمال والمعاملات، وفي مسائل القلوب وأحوالها ومنازلها، وفي مسائل السلوك والأخلاق، وفي الموقف من الأحداث التي تقع حوله - إلى شرع الله وكتابه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإجماع أهل السنة، وما يتفرع على هذه الثلاثة أمور من قياس صحيح أو مصلحة معتبرة أو غير ذلك.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة