الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

قاعدة "أخف الضررين" والمشهد الحالي

أوقات الفتن تُدهش العقول حتى ينطق الإنسان بما يخالف الشرع إما تهورًا واندفاعًا أو عن قلة علم أو نسيانه، فيقول -مثلاً- فيما يخص موضوع مقالنا: "خليكم مع المصالح والمفاسد"، و"صنم المصالح والمفاسد"،

قاعدة "أخف الضررين" والمشهد الحالي
عصام حسنين
السبت ٢١ ديسمبر ٢٠١٣ - ١٩:١٣ م
11109

قاعدة "أخف الضررين" والمشهد الحالي


كتبه /عصام حسنين 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي أوقات الفتن تُدهش العقول حتى ينطق الإنسان بما يخالف الشرع إما تهورًا واندفاعًا أو عن قلة علم أو نسيانه، فيقول -مثلاً- فيما يخص موضوع مقالنا: "خليكم مع المصالح والمفاسد"، و"صنم المصالح والمفاسد"، و"مش كل حاجة مصالح ومفاسد" إلخ!

ولو اتبع هؤلاء قوله -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ(النساء:83)، لسلموا من الفتن وسلَّموا غيرهم، ولكنه شؤم المخالفة الذي يجعل نار الفتن تزداد اضطرامًا، نسأل الله أن يسلمنا من الفتن وأن يسلم الناس منا.

وهذا الذي يتكلم بهذه المخالفة إن كان عن تهور واندفاع فنذكره بالتؤدة والتأني، والتثبت والعقل الراجح "خاصة عند الفتن"، ومتابعة أهل العلم إن كان لا يعلم!

وإن كان عن قلة علم فنقول له: إن الشريعة شريعة المصلحة -والحمد لله-، جاءت لتحصيل المصالح والمنافع للناس وتكميلها، ودرء المفاسد والشر عنهم، والمصالح إما ضرورية أو حاجية أو تحسينية لحفظ الدين والنفس والمال والعقل، وأحيانًا كثيرة تتعارض المصالح والمفاسد، فيحتاج الناس إلى علمائهم لمعرفة خير الخيرين وشر الشرين.

كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "لاسيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف, لنرجح عند التزاحم والتمانع خير الخيرين، وندفع عند الاجتماع شر الشرين، ونقدِّم عند التلازم -تلازم الحسنات والسيئات- ما ترجح منها، فإن غالب رءوس المتأخرين، وغالب الأمة من الملوك والأمراء، والمتكلمين والعلماء والعباد وأهل الأموال يقع -غالبًا- فيهم ذلك..." (الاستقامة 2/ 198).

وإذا كان ذلك في زمان شيخ الإسلام -رحمه الله-؛ فما بالك بزماننا نحن وما يستجد فيه من نوازل ليس لها إلا الجهابذة من أهل العلم؟! والله المستعان.

وقاعدة التعارض -كما ذكرها أهل العلم-: "إذا تزاحمت المصالح فيقدم الأعلى منها، ويقدم الواجب على المستحب، والأرجح من الأمرين على المرجوح، وإذا تزاحمت المفاسد واضطر إلى واحد منها قُدِّم الأخف" (قواعد السعدي ص150).

وقال في شرحها: "وهذان أصلان عظيمان، قال الله -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ(الإسراء:9)، أي: أصلح وأحسن... وقال: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ(الزمر:55)، فالواجب أحسن من المستحب, وأحد الواجبين أو المستحبين أرجح من دونه وأحسن".

وقال: "وقصة الخضر في خرقه السفينة وقتله الغلام تدل على الأصل الآخر، وذلك أن الحال دائر بين قتله للغلام وهي مفسدة، وبين إرهاقه لأبويه الكفر وإفساده لدينهما، وهي مفسدة أعظم، فارتكب الأخف، وكذلك خرقه السفينة مفسدة، وذهاب السفينة كلها غصبًا من الملك الذي أمامهما مفسدة أكبر، فار تكب الأخف منهما، فيدخل في هذين الأصلين من مسائل الأحكام ما لا يُحد" اهـ.

- قلت: ومن المثال أيضًا لقاعدة أخف الضررين: قصة تبول الأعرابي في المسجد وقول الصحابة له: "مَهْ، مَهْ" أي : اكفف. فقال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهُ وَلا تُزْرِمُوهُ) فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ (رواه البخاري ومسلم). فتبول الأعرابي في المسجد مفسدة يمكن تداركها بصب ماء عليها, وقطع بوله مفسدة أكبر ومضرة، فارتكب الأخف منهما الذي يمكن تداركه.

ومثله ترك النبي -صلي الله عليه وسلم- قتل المنافقين خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه فيُصد الناس عن الدخول في الإسلام ، فصبر علي أذى المنافقين درءًا للمفسدة الأعلى!

قال صاحب مراقي السعود:

وارتكب الأخف من ضرين                وخيرن لدى استوا هذين

قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في شرحه: "يعني أنه من أصول مذهب مالك ارتكاب أخف الضررين إذا وجدا، وكان أحدهما أخف ضررًا من الآخر، وينبني على ذلك جبر المحتكر على البيع عند احتياج الناس إلى ذلك، وأهل السفينة إذا خاف ركابها الغرق فإنهم يجبرون على رمي ما ثقل من المتاع، وتوزع قيمة ما رمي على ما معهم ارتكابًا لأخف الضررين" (نثر الورود 1/ 184).

فهذه هي أدلة الشرع على هذه القاعدة وكلام أهل العلم عليها، وأما تنزيلها على واقعنا فإننا نحتاجها كثيرًا، وغالب الفتاوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان مبنية على هذا الأصل.

وأما النازلة التي نزلتْ بنا فهي مبنية أيضًا على موازين المصالح والمفاسد، والقوة والعجز -كما ذكرنا مرارًا-، فالقوى الداخلية والخارجية مع سوء إدارة أدى إلى تغول الثورة المضادة، ومما زادها تغولاً أنها نجحت في إيجاد ظهير شعبي محتقن لها.

ولما تأزمت الأمور بعد "30/ 6" مطالبة برحيل النظام حاول الناصحون حتى الجيش أن يتدارك الأزمة فقدِّمت مبادرات، منها: "مبادرة حزب النور" بعد بيان الجيش بإمهال القوى السياسية (48) ساعة رأبًا للصدع، ولئلا يحدث الانهيار، فتواصلتْ مع الجيش ومكتب الإرشاد، وقدمت حلولاً، منها: دعوة الرئيس لانتخابات رئاسية مبكرة وإقالة الحكومة فورًا أو انتظار مبادرة الجيش أو إن رُفض الأول والثاني لم يبقَ إلا سيناريو 54 أو سيناريو الجزائر، فقوبل الأول والثاني بالرفض، ووافقوا على الثالث!

وكان هناك إصرار من الجيش على انتخابات رئاسية مبكرة، فصارت هناك مفسدتان متعارضتان: مفسدة رحيل الرئيس الذي اجتمع عليه سبع قوى يساندهم ظهير شعبي محتقن، وكان يمكن تعويضها لو وافق على انتخابات رئاسية مبكرة، وفيه ما فيه من المصالح: من بقائه فترة يحاول أن يصلح ما أفسدته سوء الإدارة والأثرة، والمحافظة على الدستور، وعدم تغول الثورة المضادة ومطالبتهم تعطيل الدستور، وقيام الحكم المدني العلماني، ولكنهم لم يسمعوا!

وكذا مصلحة الإبقاء على الجماعة بقياداتها وقواعدها، والعمل من جديد في جولة أخرى بعد التمحيص الجيد للتجربة، لاسيما وأنها ارتضت الحراك السياسي السلمي.

ومفسدة الخيار الثالث: "خيار المواجهة لسيناريو 54 أو سيناريو الجزائر ومفاسده": "انهيار الجماعة - القضاء على العمل الإسلامي برمته - تشويه صورة الدعاة والدعوة الإسلامية - فقدان ثقة الناس في المشروع الإسلامي الذي يؤدي إلى أن تكون أنظمة المجتمع موافقة للشريعة - الدخول في مواجهة مع الجيش والشعب مما يؤدي إلى إراقة الدماء وإضعاف الجيش، وهذا لا يصب إلا في مصلحة الغرب وإسرائيل - انفراد التيارات الليبرالية والعلمانية والقومية بالشعب فيذيقونهم الويلات والتي سبق أن تجرعوا مرارتها - ... " إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله أن يجنبها البلاد والعباد.

فالميزان الشرعي هنا "ارتكاب أخف الضررين" ترجح كفته إلى رحيل الرئيس بعد رفضه للحلين الأولين واختياره الثالث؛ لدفع المفسدة الأعلى. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فشُنع علينا التشنيع البالغ، وقيل البهت الكاذب، والله حسيب كل إنسان، ولكن مع الإصرار والعناد أو بالأحرى اختيار الحل الثالث كان ما كان من المفاسد التي تحقق بعضها -ونعوذ بالله من بقيتها-، والتي ندعو العقلاء -أصحاب الديانة- إلى أن يستمعوا لكلام أهل العلم ويراجعوا موقفهم هذا، وأن يدخلوا في مصالحة وطنية تحقن الدماء، وتحافظ على مصالح البلاد العليا، والمحافظة على كيانهم أيضًا.

ومع الأيام تبين أن الميزان الشرعي "أخف الضررين" قد اتضحت معالمه، فوجدنا البعض يطالب بانتخابات رئاسية مبكرة بشرط عودة الدكتور "مرسي".

والسؤال الآن: هل من مراجعة للموقف قبل فوات الأوان؟!

وقد نصحناكم بذلك مِن قبل، وفيه ما فيه من المصالح ودرء المفاسد، والله ليس لنا إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن كان سببًا في هذه المفاسد، وتأخير الدعوة إلى الله، وتعطيل المشروع الإسلامي، وصرف أكثر الناس عنا، والذي يحتاج إلى وقت لإعادة ثقتهم بنا!

ندعو الله أن يكون ذلك، وإلا يفعل الله ما يريد، ونحن عباده ندور مع أمره حيث دار، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

موقع أنا السلفي


تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً