السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

دروس من قصة قوم سبأ (خطبة مقترحة)

الوقوف على الفوائد والدروس المستفادة من القصة، ومن أعظمها: أن المعاصي والانحراف عن أوامر الله سبب في انقسام المجتمع وتمزيقه، وزوال النعم، وحلول النقم.

دروس من قصة قوم سبأ (خطبة مقترحة)
سعيد محمود
الأربعاء ٠١ يناير ٢٠١٤ - ١٨:٣٣ م
16516
29-صفر-1435هـ   1-يناير-2014      

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغرض من الخطبة:

الوقوف على الفوائد والدروس المستفادة من القصة، ومن أعظمها: أن المعاصي والانحراف عن أوامر الله سبب في انقسام المجتمع وتمزيقه، وزوال النعم، وحلول النقم.

المقدمة:

مناسبة ذكر القصة في القرآن: قال المفسرون: "لما ذكر الله حال الشاكرين لنعمه في سورة سبأ بذكر داود وسليمان -عليهما السلام- وقال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(سبأ:13)، بيَّن بعدها حال الكافرين الجاحدين لأنعمه بقصة قوم سبأ، فقال: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ . وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ . فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(سبأ:15-19)؛ موعظة للمشركين من أهل مكة ولغيرهم على مر الزمان، وتنبيهًا وتحذيرًا على ما جرى من المصائب والنكبات على مَن كفر بأنعم الله من باب: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ(الحشر:2).

تعريف بقوم سبأ:

- كانت بلادهم ايه من آيات الله: قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ).

- أقاموا سدًّا عظيمًا على مداخل الأنهار، وحوَّلوا الصحراء إلى جنات فيحاء: قال -تعالى-: (جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ).

- نعم من الله كثيرة، وأجواء صحية، وعظيم رفاهية: قال الله -تعالى-: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).

قال ابن الجوزي -رحمه الله- في زاد المسير: "ولم يكن يُرى في بلدهم حية ولا عقرب، ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمر الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القمل، فيموت القمل لطيب هوائها!"، وقال قتادة وغيره: "كانت المرأة تمر بالمكتل على رأسها فتمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته".

- أسفارهم سهلة وطرقهم آمنة؛ لاتصال العمران: قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ)، قال قتادة -رحمه الله-: "كان الرجل المسافر لا يحمل معه زادًا ولا سقاءً، ولا يخافون ظمأً ولا جوعًا".

بداية الانحراف:

1- الغفلة عن شكر الله على نعمه كما أُمِروا: قال -تعالى-: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبده(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

2- الإعراض عن الطاعات واستعمال النعم في المحرمات: قال -تعالى-: (فَأَعْرَضُوا).

3- الترف المحرم والبطر على نعم الله بطلب الأسفار الشاقة البعيدة: قال -تعالى-: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

نزول العقوبة:

- انهيار السد العظيم عماد نهضتهم بالسيل الشديد: قال الله -تعالى-: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ... ).

- السيول تجتاح أراضيهم وتفسد مراعيهم، وتبدل الثمر بالحثالة: قال -تعالى-: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).

- ساروا يبحثون عن أسباب الرزق من البلاد حولهم هربًا من المجاعة، فتفرقوا في البلاد: قال -تعالى-: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ... ).

عاقبة كفر النعم:

- هكذا عاقبة الكفر بالنعم والانحراف عن أمر الله: قال -تعالى-: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ).

- هكذا عاقبة كل كفور بنعم الله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا... (البقرة:61)، فكان الحرمان: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(المائدة:26).

- هكذا عاقبته: النكال والعبرة على مر التاريخ: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ . فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(البقرة:65-66).

- سنة الله ماضية لا تتوقف في كل زمان ومكان: قال الله -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(الطلاق:8)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(الأنفال:53).

عاقبة شكر النعم:

- يحسن بالخطيب أن يتعرض لمعنى الشكر لغة وشرعًا؛ لما فيه من تحريك القلوب شوقًا لأن تكون من أهله.

- مجمل ما جاء فيه: الشكر في اللغة من شكرت الدابة: إذا ظهر عليها أثر الغذاء أكثر مما علفت. وفي العبودية: ظهور أثر الشكر على اللسان والقلب والجوارح، فأما اللسان: فبالاعتراف والثناء، وأما القلب: فبالمحبة، وأما الجوارح: فبالطاعة، وجماع ذلك: بذل النعم فيما يحبه الله ويرضاه.

- أمثلة حياتية بسيطة تؤثر في النفوس: أحدهم كان فقيرًا فأعطاه الله نعمة المال فلم يشكر النعمة، واشترى السيارة الفاخرة، وكان من مظاهر كفر النعمة أن خلعت زوجته الخمار ولبست غطاءً صغيرًا على رأسها، ثم تطور الأمر إلى البنطلون؛ لأنه من لزوم السيارة -كما يقولون!-، ومثل هذا كثير.

- لقد أُمِر قوم سبأ بالشكر على النعم فجحدوا، فكانت عاقبة السوء: قال -تعالى-: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).

- الشكر عاقبته خير في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ(إبراهيم:7)، وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(آل عمران:144).

- الشكر من أعظم خصائص الصالحين: قال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(النحل:120-121).

- كان سيد الشاكرين -صلى الله عليه وسلم- يرشد إليه أصحابه في كل وقت: قال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ)، فَقَالَ: (أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ(رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

خاتمة:

حاجتنا إلى الاعتبار من هذه القصة في أيامنا هذه:

- السعيد من وعظ بغيره: قال -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

- تساؤلات يطرحها الخطيب من باب ربط القصة بالواقع: هل شكرنا الله على نعمة الحرية أم كفرنا؟ هل ظلمَنا ربنا أم نحن الذين كفرنا بنعمته وظلمْنا أنفسنا؟!

قال الله -تعالى- عن قوم سبأ: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

- التوبة وإقامة واجبات شكر النعمة، وإلا زيادة التمزق والانقسام: قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(الروم:41).

- استقيموا على منهج الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- تستقيم لكم الحياة: قال الله -تعالى-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(الجن:16)، وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(الأعراف:96).

فاللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.


www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة