الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الطريق إلى ثقافتنا (3) الغزو العسكري كأداة للغزو الفكري

لا شك أن أحداث ما بعد الصحوة الإسلامية المعاصرة والتي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أثبتت أنهم دائمًا جاهزون للعودة لتوجيه دفة الفكر كلما احتاج الأمر ذلك

الطريق إلى ثقافتنا (3) الغزو العسكري كأداة للغزو الفكري
عبد المنعم الشحات
السبت ٠١ فبراير ٢٠١٤ - ٢٠:١٥ م
3564

الطريق إلى ثقافتنا (3) الغزو العسكري كأداة للغزو الفكري

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد عرضنا في المقالة الأولى من هذه السلسلة لأهم مقاصد كتاب "الطريق إلى ثقافتنا".

والتي لخصناها في النقاط الآتية:

1- تعريف الثقافة، موضع اللغة والدين والأخلاق منها.

2- الاستشراق وكيف بدأ بالنهل مِن ثقافتنا ثم صار حربًا عليها!

3- في القرن السابع عشر الميلادي نهضة أوروبية وأخرى إسلامية، وكيف عمل الاستشراق ثم الاستعمار على وأد يقظتنا لصالح يقظتهم.

4- الحملة الفرنسية وسياسة تدجين أهل الدين في بلادنا.

5- التغريب في الثقافة والتعليم في عهد الاحتلالين: "الفرنسي والإنجليزي".

وكنا قد فرغنا من النقطتين الأوليتين في المقالتين السابقتين، وهذا أوان الشروع في النقطة الثالثة، والتي تدور حول نهضة أوروبا الممتدة من أواخر القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، وكيف بدأت؟ وما هي دوافعها؟ وظهور نهضة إسلامية في نفس الحقبة، وكيف جاء "الاحتلال العسكري" خصيصًا لوأدها، لنكتشف مِن خلال هذا العرض أن الغزو الفكري لم يكن مجرد بديل عن الغزو العسكري كما يردد كثير من الباحثين! بل إن "الغزو العسكري" لا يعدو أن يكون إحدى وسائل الغزو الفكري، وأن الاحتلال الأوروبي لبلاد المسلمين إنما جاء؛ لعرقلة اليقظة الإسلامية، ولتصدير طليعة تؤمن بمبادئه، ثم عاد يتابع الموقف.

ولا شك أن أحداث ما بعد الصحوة الإسلامية المعاصرة والتي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أثبتت أنهم دائمًا جاهزون للعودة لتوجيه دفة الفكر كلما احتاج الأمر ذلك.

وإليك عرض لأهم ما جاء في كلام الأستاذ "محمود شاكر" -رحمه الله- حول هذه الجزئية؛ حيث يقرر الأستاذ "محمود شاكر" أنه رغم البون الشاسع بين حضارة الإسلام وهمجية الغرب في العصور الوسطى، والذي كشفت عنه الحروب الصليبية إلا أن هذا الفرق قد أورث الأمة الإسلامية حالة من الكمون والاسترخاء، بينما أورث الغرب حالة من الرغبة الأكيدة في تعويض الفارق "الحضاري" بين الأمتين "وليس مجرد الفارق العسكري"؛ فنشأت حركة الاستشراق التي تلخصت في تعاون قصور الحكم في أوروبا مع الكنائس لإرسال النبهاء من أبنائهم؛ لكي يتعلموا الموروث الحضاري للمسلمين بما في ذلك القرآن والسنة وعلومهما.

يقول الأستاذ "محمود شاكر" في تقرير هذا:

"غَبَر ما غبر، ودخلت دار الإسلام في سِنَة لذيذة أورثتها نشوة النصر المؤزر، ودخلت أوروبا كلها في عزيمة حاسمة لترد عن عرضها العار، وبلغ السيل الزبى، فكانت يقظة محسوسة في جانب، وغفوة لا تحس في جانب، وشال الميزان... ".

"وبينما هم كذلك إذ رصدوا أن ثمة يقظة إسلامية لا ينتظمها إطار عضوي واحد، وإنما قام بها رجال متباعدة أقطارهم، كل في مجاله، ولكن خيرية الأمة الإسلامية جعلت جهودهم تلتقي وتتنتقل من بلد إلى آخر؛ مما مثل نهضة حضارية كبرى كانت متأخرة بعض الشيء عن الجوانب المادية عن النهضة الأوربية إلا أن هذا التأخر كان على وشك الزوال، ومِن ثَمَّ أبرق المستشرقون باستغاثات هرعت على إثرها جيوش الاحتلال الإنجليزية والفرنسية لتحاصر العالم الإسلامي مِن أطرافه، ثم جاءت الحملة الفرنسية على مصر لتضرب قلب العالم الإسلامي، وبعد فشلها جاء الاحتلال الإنجليزي، وبهذا تمت إعاقة النهضة الإسلامية في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي".

ويقول الأستاذ "محمود شاكر" -رحمه الله- واصفًا حال تلك اليقظة:

"ويومئذٍ آنس قلبُ دار الإسلام ركزًا خفيًّا فأرهف له سمعه، سمع نقيض أركان دار الخلافة وهي تتقوض، فتوجس توجسًا غامضًا لشر مستطير آت لا يدري مِن أين؟ فهب مِن جوف الغفوة الغامرة أشتاتٌ من رجال أيقظتهم هدّة هذا التقوض، فانبعثوا يحاولون إيقاظ الجماهير المستغرقة في غفوتها... رجال عظام أحسوا بالخظر المبهم المحدق بأمتهم فهبوا بلا تواطؤ بينهم، كانوا رجالاً أيقاظًا مفرقين في جنبات أرض مترامية الأطراف، متباعدة أوطانهم، لا يجمعهم إلا هذا الذي توجسوه في قرارة أنفسهم مبهمًا من خطر محدق.

أحسوا الخطر فراموا إصلاح الخلل الواقع في حياة دار الإسلام؛ خلل اللغة، وخلل العقيدة، وخلل علوم الدين، وخلل علوم الحضارة، وبأناة وصبر عملوا وألفوا، وعلَّموا تلاميذهم، وبهمة وجدّ أرادوا أن يدخِلوا الأمة في عصر النهضة، نهضة دار الإسلام من الوسن والنوم، والجهالة والغفلة عن إرث أسلافهم العظام.

ومِن هؤلاء خمسة من الأعلام أذكرهم لك هنا مجرد ذكر باختصار:

1- البغدادي عبد القادر بن عمر صاحب خزانة الأدب (1030 - 1093 هـ/ 1620 - 1683م) في مصر.

2- الجبرتي الكبير: حسن بن إبراهمي الجبرتي العقيلي (1110 - 1188هـ/ 1698 - 1774م) في مصر، وسأحدثك عنه بعد قليل.

3- ابن عبد الوهاب: محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (1115 - 1206هـ/ 1703 - 1792م) في جزيرة العرب.

4- المرتضى الزبيدي: محمد بن عبد الرزاق الحسيني صاحب تاج العروس (1145 - 1205 هـ/ 1772 - 1790م) في الهند وفي مصر.

5- الشوكاني: محمد بن علي الخولاني الزيدي (1173 - 1250 هـ/ 1760 - 1834م) في اليمن.

وإذا أنعمتَ النظر في هذه التواريخ علمتَ أن عصر النهضة عندنا واقع بين منتصف القرن الحادي عشر الهجري إلى منتصف القرن الثاني عشر، ويقابله منتصف القرن السابع عشر الميلادي إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، تذكر هذا ولا تنسه أبدًا؛ فهو الذي يكشف لك اللثام عن التغرير الفاضح الذي طفحت به حياتنا الأدبية الفاسدة المهلكة. 

هبَّ البغدادي في منتصف القرن الحادي عشر الهجري "السابع عشر الميلادي"؛ فألَّف ما ألف ليرد على الأمة قدرتها على التذوق، تذوق اللغة والشعر والأدب وعلوم العربية.

وهبَّ ابن عبد الوهاب يكافح البدع والعقائد التي تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي ركن الإسلام الأكبر، ولم يقنع بتأليف الكتب، بل نزل إلى عامة الناس في بلاد جزيرة العرب وأحدث رجة هائلة في قلب دار الإسلام.

وهبَّ المرتضى الزبيدي يبعث التراث اللغوي والديني وعلوم العربية وعلوم الإسلام، ويحيي ما كان يخفى على الناس بمؤلفاته ومجالسه.

وهبَّ الشوكاني الزيدي الشيعي محييًا عقيدة السلف، وحرَّم التقليد في الدين، وحطم الفرقة والتنابذ الذي أدى إليه اختلاف الفرق بالعصبية.

أما خامسهم: "وهو الجبرتي الكبير"، فكان فقيهًا كبيرًا، نابهًا، عالمًا باللغة وعلم الكلام، وتصدر إمامًا مفتيًا وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولكنه في سنة (1144هـ - 1731م) ولى وجهه شطر العلوم التي كانت تراثًا مستغلقًا على أهل زمانه، فجمع كتبها من كل مكان، وحرص على لقاء مَن يعلم سر ألفاظها ورموزها، وقضى في ذلك عشر سنوات (1144هـ - 1154هـ) حتى ملك ناصية العلوم كلها في: الهندسة، والكيمياء، والفلك، والصنائع الحضارية كلها: حتى النجارة، والخراطة، والحدادة، والسمكرة، والتجليد، والنقش، والموازين!

وصار بيته زاخرًا بكل أداة في الصناعة وكل آلة، وصار إمامًا عالمًا أيضًا في أكثر الصناعات، ولجأ إليه مهرة الصناع في كل صناعة يستفيدون من علمه، ومارس كل ذلك بنفسه وعلَّم وأفاد حتى علَّم خدمه في بيته.

ويقول ابنه عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ (تاريخ الجبرتي 1/ 397): "وحضر إليه طلاب من الإفرنج، وقرأوا عليه علم الهندسة وذلك في سنة تسع وخمسين (1159هـ/ 1746م) وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياءً نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل، واستخرجوا به الصنائع البديعة، مثل: طواحين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه، وغير ذلك".

ويقول منبهًا على الفرق بين النهضة الإسلامية والنهضة الأوروبية آنذاك:

"لا تنظر إلى الفرق الهائل الكائن اليوم بين الشمال المسيحي والجنوب الإسلامي، فإنك إن فعلت ضللتَ عن الحقيقة، والحقيقة يومئذٍ أن الفرق بيننا وبينهم كان خطوة واحدة تستدرك بالهمة والصبر، والدأب والتصميم لا أكثر، بل أكبر من ذلك: فإن اليقظة الأوروبية كانت بعد في أول الطريق وتتكئ اتكاءً شديدًا على ما كان عندنا مِن العلم المسطور في كتبنا برموزه التي تحتاج إلى استبانة وفهم، وعلى العلم الحي الذي عند أهل دار الإسلام كما حدثك الجبرتي المؤرخ عن أبيه الفقيه الجليل الجبرتي الكبير -انظر ما سلف قريبًا-، وقراءة المستشرقين عليه ليهتدوا به اهتداءً إلى حل هذه الرموز واستبانتها وفهمها!

وكل الفرق بيْن اليقظتين يومئذٍ هو: أن يقظتنا كانت هادئة سليمة الطوية، منبعثة من داخلها، ليس لها هدف إلا استعادة شبابها ونضرتها في حدود الإسلام، وإن كانت يومئذٍ يقظة متباعدة الديار غير متماسكة الأوصال، ولكنها كانت قريبة التواصل وشيكة الالتئام.

وأما يقظتهم هم: فكانت متفجرة بحقد قديم مكظوم شيمته السطو الخفي، وشملُها مجتمع بالضغينة المتقادمة، وهدفها إعداد العدة لاختراق دار الإسلام بالدهاء والخداع والمكر كما حدثتك آنفًا فأطلتُ الحديث. أي هما يقظتان كانتا في زمن واحد، إحداهما من طبيعتها: الرفق المهذب، والأخرى من طبيعتها: العدوان الفاجر؛ فانظر الآن ماذا كان بعد ذلك لأمر أراد الله أن يكون".

ثم يوضح دور المستشرقين في الاستنجاد بالساسة الأوروبيين:

"هبوا -أي المستشرقون- هبة الفزع من هذه اليقظة فتسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة مما هو جار تحت أعينهم في دار الإسلام، ووضعوه بينًا جليًّا مشفوعًا بمخاوفهم وملاحظاتهم ونصحهم وإرشادهم تحت أبصار ملوك المسيحية الشمالية وأمرائها ورؤسائها وقادتها وساستها ورهبانها، وبصروهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه اليقظة الوليدة التي بدأت تنساح في أرجاء دار الإسلام، وتناجوا بينهم نجوى طويلة يقلبون النظر في أهدافهم ووسائلهم، وتبينوا الخطر الداهم الذي جاء يتهددهم إذا ما تمت هذه اليقظة واشتد عودها واستقامت خطواتها على الطريق اللاحب".

ثم قال مبينًا كيف اختار الساسة في أوروبا خيار التواجد العسكري المقنّع الذي سرعان ما تحول إلى احتلال عسكري صريح: "فلما فزع الاستشراق فزعت معه كل المسيحية الشمالية ودولها التي كانت أساطيلها تطوِّق دار الإسلام من أطرافها البعيدة، وتتوغل بسيطرتها على سواحلها متحسسة طريقها إلى قلب هذه الدار المترامية الأطراف بالدهاء وبالمكر وبالخديعة، وبالتنمر أحيانًا حين يتطلب الأمر التنمر والترويع.

كانت دول أوروبا كلها في صراع مستميت فيما بينها على نهش أطراف دار الإسلام واستنزاف ثرواتها وكنوزها وخيراتها بشراهة لا تشبع، وكان أكبر الصراع المتوحش على الطرف البعيد في الهند حيث لا تستطيع طليعة الإسلام في دار الخلافة "تركيا" أن تصنع لإنقاذها شيئًا ذا بال، بل هي يومئذٍ مشغولة أيضًا بالحفاظ على وجودها وهيبتها لا أكثر.

كان أكبر دولتين يومئذٍ إنجلترا وفرنسا، وكان السبق لإنجلترا؛ فأنشأت ما يسمونه شركة الهند الشرقية البريطانية، وهو أول جهاز استعماري قوي وذلك في سنة (1600 - 1858م/ 1009 - 1275هـ)، وتبعتها فرنسا فأنشأت جهازها الاستعماري باسم: شركة الهند الشرقية (1664 - 1769م/ 1075 - 1183هـ)، ولا يغررك لفظ: "شركة"؛ فإنه في الحقيقة جيش غاز مسلح، مهمته النهب والسلب، وقطع الطريق، وتخويف الضعفاء الذين لا يملكون عن أنفسهم دفعًا.

بدأ الصراع بين الشركتين في الهند -أي اللصين- صراعًا مستحرًّا مستميتًا، وظل محتدمًا حتى قضت الشركة البريطانية على الشركة الفرنسية قضاءً مبرمًا على يد القائد البريطاني المحنك روبرت كلايف (1725 - 1774م/ 1138 - 1188هـ) في معركة فاصلة سنة (1757 م/ 1171هـ)، وطردتها من الهند كلها سنة (1761م/ 1175هـ)، فخرجت هي والأسبان وغيرهم من حلبة الصراع في الهند دامية وجوههم وأكبادهم! واستأثرت إنجلترا وحدها بالصيد الغزير.

وفي ذلك الوقت جاءهم النذير؛ نذير الاستشراق للمسيحية الشمالية بالخطر المُدْلهم الذي تهددهم به يقظة دار الإسلام بقيادة محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب (1115 - 1206هـ/ 1703 - 1792م)، وظهور الجبرتي الكبير (1110 - 1188هـ/ 1698 - 1774م) في مصر هو والزبيدي ومِن قبله البغدادي.

كان نذير الاستشراق مروعًا وحاسمًا، أما إنجلترا صاحبة الشركة الهندية الشرقية البريطانية فأسرع مستشرقوها إسراعًا حثيثًا إلى سواحل جزيرة العرب الشرقية، وبالدهاء والمكر والدسائس جاءت في زي الناصر والمعين لتتدسس إلى يقظة ابن عبد الوهاب، يقظة تنقية الدين مما تراكم عليه من البدع المفسدة لعقيدة التوحيد، لتتخذ بذلك عندها يدًا، وبهذه اليد تسيطر عليها وتحتويها، وأبعدت إنجلترا الرحلة من ناحية أخرى، تؤلب عليها من حولها لتطوقها تطويقًا يحول بينها وبين الانتشار، وهذا هو أسلوب بريطانيا حيث حلتْ من الأرض، وأما فرنسا... ".

ثم تطرق الأستاذ "محمود شاكر" -رحمه الله- بشيء مِن التفصيل للحملة الفرنسية على مصر، وهذا ما سوف نتناوله في مقالنا القادم من هذه السلسلة -بمشيئة الله-.


www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي