الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

أبطال من "بوستات"!

كنتُ أتعجب كثيرًا ممن أراهم في الطرقات يكلمون أنفسهم بصوت مرتفع، بل في كثير من الأحيان

أبطال من "بوستات"!
غريب أبو الحسن
الأحد ٢٣ فبراير ٢٠١٤ - ٠٧:١٩ ص
3003

أبطال من "بوستات"!

كتبه/ غريب أبو الحسن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كنتُ أتعجب كثيرًا ممن أراهم في الطرقات يكلمون أنفسهم بصوت مرتفع، بل في كثير من الأحيان يكون كلامه شجارًا مع شخصية وهمية، فيسمعه أقذع الألفاظ وأبشعها؛ يهدد ويتوعد، يرعد ويزبد، ثم في نفس الوقت هو هو ألعوبة في أيدي أطفال الحي يلهون به حيث شاءوا، وهو مستسلم لهم استسلام تام!

وأتذكر نصائح بعض الناصحين لمن يعاني من كبتٍ ما؛ من ظلم لا يجرؤ على مقاومته أو من زوجة سليطة اللسان ويخاف منها، أو غير ذلك... بأن يذهب لمكان خاوٍ ثم يصرخ بأعلى صوته بكل ما يريد ويخرج كل ما بداخله فينتقد مَن ينتقد، ويسب مَن يسب، ويؤكد الناصحون أنه سيشعر براحة تامة وستزول اضطراباته الداخلية، ويكملون نصيحتهم: "إن عادتْ فعد".

والعيب في الطريقة السابقة أنه يفعل ذلك سرًّا؛ فلا يراه أحد وهو يسب مديره في العمل الذي يسومه سوء العذاب، ولا يراه أحد وهو يسمع امرأته أوامره ونواهيه الصارمة فتبقى غصة في الحلق، ثم تعاوده اضطراباته سريعًا حينما يعود ليلتقي مديره بوجهه الصارم، أو حينما يستيقظ على صوت سباب زوجته! ولكن لأننا في زمان يختلف كليًّا عما سبقه من أزمان؛ ولأن العالم أصبح قرية صغيرة؛ ولأن كلاً منا معه موبايله أو تابلته، وله حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي - تم التغلب على هذا العيب الأخير وهذه الغصة، فصار كل منا يدخل على مواقع "التواصل الاجتماعي"، ويخرج أسوأ ما فيه، فينطق بكل ما لا يستطيع أن ينطق به على أرض الواقع! ويشاهد تلك البذاءات أصدقاؤه الافتراضيون، بل ويبدون إعجابهم بهذه الجرأة "الافتراضية طبعًا!".

وقد كنا في عائلاتنا المصرية ينكر بعضنا على بعض في جلساتنا العائلية وغيرها إذا تحدث شاب بما قد يظن منه أنه يخدش حياء أحد البنات الحضور، ويقال له: "فرق بين جلسات الشباب وبين الجلسات التي تشهدها إحدى القريبات"؛ أما الآن فحدث ولا حرج عن جرأة البنات على صفحات "التواصل الاجتماعي"، وتشعر بالأسى وأنت تسمع منهن أحط العبارات! وتسمع منهن السب واللعن، وتشعر بالخوف على هذه البلاد من مستقبل سوف تكون فيه هذه الفتاة مسئولة عن تربية الجيل!

ويبدو أننا في هذه المرحلة سنطلب من المُقدِم على الزواج بعد أن يسأل عن عائلة عروسه وعن أخلاقها مع جيرانها؛ سنطلب منه أن يطلع أيضًا على حسابها على "الفيس" و"تويتر"!

إلا أن الأمر الأكثر ألمًا هو تردي أخلاق بعض مَن ينتسبون للصف الإسلامي، وورودهم نفس المورد الآسن، وخوضهم في نفس الوحل! فبعد "موجة التثوير" التي عصفت بكثير من شباب التيار الإسلامي وانبهاره بالثورة وما ترتب عليها من نتائج؛ أصبح العديد منهم يقدِّم العمل الثوري على العمل الإصلاحي البنائي، وشيئًا فشيئًا أصبح يقلل من أهمية العمل الإصلاحي البنائي إلى أن أصبح يرى أن العمل الثوري أهم مِن تعبيد الناس لرب العالمين، وزرع معاني الإيمان في النفوس؛ ذلك الإيمان الذي تُستمطر به الرحمات، وينزل به النصر الحقيقي، ذلك الإيمان الذي يثبِّت صاحبه عند اللقاء، ويجعله يضحي مِن أجل ما يراه في صالح أمته.

ومع مرور الوقت واتضاح الصورة، وظهور حقيقة التغيير المترتب على العمل الثوري، وأن تحريك الجماهير غير قاصر على الثوريين، بل مَن ثاروا عليهم عندهم تلك الإمكانات، بل وأكثر؛ فبدلاً من عودتهم إلى تبني المنهج الإصلاحي، وإدراك الأولويات الصحيحة في التغيير، وأن تغييرًا بغير تغيير النفوس سراب - إذا بشريحة منهم تعلِّق فشل رؤيتها وقصر نظرها على غيرها من أصحاب النهج الإصلاحي، وتحول الأمر إلى التخوين والرمي بالعمالة والنفاق لكل أصحاب المنهج الإصلاحي البنائي!

بل منهم مَن يتهم أصحاب النهج الإصلاحي بالانبطاح للظالمين، ولا يدرك المسكين أن طريق الإصلاح والبناء هو مِن باب الصبر على الطاعة الذي هو أشق أنواع الصبر على النفس، وأنه يتطلب الاستمرار، فالبناء كالزرع إن لم تتعاهده فسد، وأنه كذلك يستلزم صبرًا على البلاء المترتب على دعوة الناس، وأنه قبل ذلك كله يتطلب صلاح المصلح؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ولأن دركات الغي لا نهاية لها؛ فإن شريحة من أصحاب النهج الثوري من أصحاب الخلفية الإسلامية ممن قدموه على نهج الإصلاح والبناء -وقد توارت عندهم المصطلحات الشرعية وحلت محلها المصطلحات الثورية- يستدعي عبارات التكفير قسرًا فينزلها على خصومه السياسيين!

وعندما تسأله عن مكان الشريعة في طريق نضاله الثوري منذ الثورة لا تجد لها مكانًا! وعندما تسأل عن الخطوات الخاصة أو العامة التي خطاها في طريق تطبيق الشريعة؛ فلن تجد عنده شيئًا إلا -من رحم ربك-، ولكنه يظل يراوح مكانه فيتقلص مشروعه الثوري حتى يصبح صيحات يطلقها مِن آن لآخر على مواقع التواصل الاجتماعي، كذاك المكبوت الذي يعمد إلى الخلوات فيصرخ لينفث عن قهره ويسد عجز نفسه، سباب ولعن، وذكر للفروج والعورات! فكل ذلك عنده من لوازم الفعل الثوري، ثم لا ينسي أن يطلق التكفير كالفرس الجموح يضرب به كل أحد.

إن حالة "الأمان النسبي" التي أعقبت ثورة "25 يناير" وغياب سوط السلطان جرأت الجميع على تلبس الحالة الثورية حتى أولئك الذين كانوا قبل الثورة لا تسمع لهم صوتًا! وأعرف مَن كان قبل الثورة حين يُستدعى لأمن الدولة فيصفع بها صفعة واحدة يخرج ليحلق لحيته، هو هو بعد الثورة لبس ثوب الثورة، وكان مما ثار عليه أخلاق الإسلام، فلم يترك عالمًا إلا سبه ولعنه! ولم يترك جماعة إلا خوَّنها ورماها بكل نقيصة! يجلس أمام الكمبيوتر كـ"تنين" ينفث مِن فيه النار؛ فهو الشريف في مجتمع كله خونة، وهو المقدام في مجتمع كله جبناء، يتحدى الأشرار ويواجه وحده الفئام من البلاطجة، ثم ينتشي وهو يرى "لايكات المعجبين"!

ولكن لأن سنن الله ماضية، ولأن الزمان يدور دورته، ومع بوادر ظهور سوط السلطان بادر هؤلاء النفر إلى حلق لحاهم، وعدنا لما كان عليه الوضع قبل الثورة؛ لأنه لا يصبر على التغيير الحقيقي، ولا يصبر على الإصلاح والبناء، وما يناله المصلحون من بلاء، إلا من استوى عوده واستقامت سريرته، وحسن خلقه، وصدق إخلاصه، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد:17).

ناهيك عمن كان يدعو لقتل جنود الجيش والشرطة بلا رحمة، بل وتصويرهم، بل والتشفي بذويهم! كل هذا طبعًا في العالم الافتراضي، فإذا لقيهم ببعض الأكمنة مازحهم، و كان قد استعد قبل ذلك بحلق لحيته، حتى لا تكون حاجزًا بينه وبين تقبلهم لمزاحه؛ وكلما زاد تواجدك بالعالم الافتراضي كلما قل وجودك على أرض الواقع، وكلما كنت مثمرًا على أرض الواقع كلما قل تواجدك بالعالم الافتراضي ولم تخدع بأبطاله الزائفين.

وأعرف الكثير من طلبة العلم والدعاة ممن لا يعرفهم "أهل الفيس" و"تويتر"، ولكن تعرفهم المساجد والمنابر والمعاهد، بل والحواري والأزقة، والقرى والنجوع، ومِن قبْل يعلمهم الله -سبحانه وتعالى-، ينشرون الدين الصافي الغض الطري؛ فهم كالغيث إذا مر بالأرض الموات أحياها، يصلحون ما أفسد الناس، أصحاب عبادة وزهد، هؤلاء هم فعلاً أمل الأمة في التغيير والإصلاح المنشودين.

فاللهم تقبل منهم وأعنهم، وتولى أمرهم، أنت حسبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي