الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

كعب بن مالك والعقوبة الموجعة

3. لا يجوز السكوت عن الخطأ خصوصًا تلك الأخطاء التي تحل حلالا أو تحرم حراما ، أو تلك التي من شأنها أن تغير في ثوابت المنهج ومبادئه

كعب بن مالك والعقوبة الموجعة
أحمد الشحات
الثلاثاء ٢٥ فبراير ٢٠١٤ - ٢٢:١٧ م
3430

كعب بن مالك والعقوبة الموجعة

كتبه / أحمد الشحات

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله .. صلى الله عليه وسلم .. وبعد ..

فستظل قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه معينا لا ينضب من الدروس والعبر التي لا يستغني عنها أي طالب للهداية وأي باحث عن الاستقامة.......

كما تعلمون من تفاصيل القصة والتي حكاها كعب بنفسه بعد مدة طويلة من الزمن أنه وهو في ريعان شبابه وعنفوان قوته وقع في ذنب عظيم وهو التخلف عن الغزو مع رسول الله صلي الله عليه وسلم بدون أن يكون معه عذر في ذلك بل قد كان مهيأ تمام التهيئة ولكن التسويف والكسل سيطرا عليه وقتها حتي فعل ما فعل.

وحسب سياق القصة فإن كعبًا رضي الله عنه صدق رسول الله في الحديث ولم يفعل كما فعل المنافقون بل اعترف علي نفسه بحقيقة أمره وهنا أوكل رسول الله قضيته حتي يفصل فيها الوحي.

وهنا جاء الوحي بعقوبة شديدة ومؤلمة وهي " المقاطعة " الشاملة له حتي تنكرت له الأرض وما عليها وأصبح يمشي في طرقات المدينة كالمسافر في بلاد الغربة لا يكلمه أحد ولا يختلط بأحد حتي أقرب الأقرباء له، ولكي نشعر بقيمة هذا الألم فلنستمع إلي كلماته وهي تنطق بهذه الذكريات المريرة يقول كعب :-

 " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال فاجتنبنا الناس وقال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله قال فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي "

لا تحتاج كلمات كعب رضي الله عنه إلي تعليق فكل كلمة منها تعبر عن معاناة شديدة لا يستطيع أن يتحملها إلا من استقر الايمان في قلبه استقرارا عميقا لا يمكن أن يتزلزل بفضل الله.

ثم كان الاختبار الأشد والأعنف الذي واجهه كعب رضي الله عنه وربما كان قاصمة الظهر بالنسبة لأي إنسان  في مثل حالته وموقفه إلا أن الله عصمه وعافاه يقول كعب :-

" فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها "

ثم جاء ابتلاء من نوع آخر وإن كان لا يبتعد كثيرا عن سبب الفتنة التي وقع فيها فإنه لما تخلف عن الغزو وافتقده رسول الله فسأل عنه تطوع أحد الناس من بني سلمة وقال " يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه "

فكأن الله أراد أن يخلصه من أي شائبة لحقت به فجاءه الأمر بإعتزال إمرأته فقال كعب :-

" حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها فلا تقربنها قال فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر"

إلي هنا تنتهي سلسلة الإبتلاءات التي أصابت كعب رضي الله عنه في هذه المحنة الشديدة ولنا مع هذه الفتنة عدد من الوقفات الهامة نذكرها فيما يلي:-

1.    الحي لا تؤمن عليه الفتنة أيا ما كان قدره ومهما ارتفعت منزلته ، فهذا أحد صحابة النبي صلي الله عليه وسلم وقد وقع في هذا الذنب العظيم وبالتالي فمعرفة ذلك تدفعنا إلي الخوف علي أنفسنا خوفا شديدا لأن الفتنة أقرب لكل منا من شراك نعله لذلك كان النبي صلي الله عليه وسلم يُكثر من دعاءه " اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي علي دينك " ثم بالإضافة إلي ذلك يجب علينا أن نتعلم عدم الغلو في الأشخاص ولا يكن حبنا لأحد دافعا لإطرائه أو رفعه فوق منزلته وإلا ففي هذا هلاك محقق للمادح والممدوح معا.

2.    إذا وقع الخطأ من أحد الأفاضل فإن ميزان العدل والاعتدال هو أن نقوم بنصحه ورده إلي الحق ولا يدفعنا حبنا له إلي تبرير خطأه أو الدفاع عن زلته ولنمتثل في ذلك قول ابن القيم رحمه الله عن شيخه الهروي " وشيخ الإسلام حبيب إلي نفوسنا ولكن الحق أحب إلينا منه " وعلي الجانب الآخر قد يسارع بعض الناس إلي هدم الشخص ونكران جميله ونسيان تاريخه ولسان حاله يقول " لم نر منك خيرا قط " وبهذه الطريقة لن يبقي أحد علي ظهر هذه البسيطة سالما فكلنا ذوو خطأ ولو تم تعميم هذا المنهج لأنعدمت الثقة بين أبناء المجتمع المسلم.

3.    لا يجوز السكوت عن الخطأ خصوصًا تلك الأخطاء التي تحل حلالا أو تحرم حراما ، أو تلك التي من شأنها أن تغير في ثوابت المنهج ومبادئه ، وبالتالي فالتصدي للخطأ ومهاجمته أمر نصت عليه الشريعة وأمرت به ، أما صاحب الخطأ  فيتم التعامل مع كل حالة علي حدة  فربما كان لدي الشخص عذر من تأويل أو جهل أو سبق لسان أو غيرها ، فإذا كان لدي الشخص عذر فإن الله يحب العذر ويجب علي من أخطأ أن يسارع في الإعتراف بخطأه والإعتذار عنه أو التوبه منه إن كان تلبس بفعل محرم ، أما إن لم يكن له عذر بأي حال من الأحوال وتكرر منه الخطأ فلا بد من النظر في هذا الأمر بنوع من الجدية والحزم حتي لا يكون فتنة لغيره.

4.    عقوبة " الهجر" التي نزل بها الوحي علي النبي صلي الله عليه وسلم لا بد أن تخضع لقاعدة المصالح والمفاسد وإلا ربما ترتب علي هجر الجماعة المسلمة لأحد أفرادها - بغرض التقويم والإصلاح -  أن ينتكس هذا الفرد وأن يترك الإلتزام بالكلية خصوصا وأن هذه اللحظات يكون الإنسان فيها ضعيف الإرادة قليل الإيمان وبالتالي يكون فريسة سهلة لشياطين الجن والإنس.

5.    اتضح لنا من خلال القصة مدى تربص الأعداء بالجماعة المؤمنة ومدى مراقبتهم لحال المجتمع المسلم مما يمر به من أزمات ومشاكل وتلهفهم لإستغلال ذلك لتفريق صف المجتمع وضرب الدعوة من الداخل عن طريق أحد أبناءها ، ويدل أيضا علي مدي تقديرهم للنبهاء والنابغين ففي خسارة الصف الإسلامي لبعض هؤلاء فت في عضضهم وإضعاف لشوكتهم وفتنة لكثير من بسطاءهم.

6.    يقوم مقام النبطي القديم في زماننا المعاصر كثير من رجالات الإعلام والكيانات والتكتلات المعادية للفكرة الإسلامية والتي لا تتمنى لها ولا لرجالها الخير وسيكون لسان حالها عند وقوع أي أزمة لأحد من أبناء هذا التيار - خصوصا إذا كان من البارزين أو المشاهير – " إلحق بنا نواسك " لذا لا بد أن يُستخدم  التقويم والإصلاح مع الأخطاء ولكن بحكمة وحذر فالنفس البشرية ضعيفة وحبائل الشيطان كثيرة وقد لا يبلغ الكثيرين إلي مرتبة إيمان كعب رضي الله عنه فيفعلون مثل ما فعل.

7.    المسلم يحزن إذا وقع أخيه المسلم في ذنب ، ولا يتصور أن يفرح أحد أو يشمت بسبب ذنب أذنبه أخيه ولا يقع ذلك إلا ممن هو فارغ القلب ضعيف النفس ذلك أن الصحابه فرحوا فرحا شديدا بقبول توبة كعب يقول كعب حاكيا عن ذلك :-

" فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج قال فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره قال فكان كعب لا ينساها لطلحة "

نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها زما بطن ، ونسأله عزوجل أن يمسكنا بالإسلام حتي نلقاه عليه الله آمين.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

 

 

تصنيفات المادة