الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الرمزية سهام الداخل

ومع تشوف الشرع إلى التفكير والعمل الجماعي والفكر المؤسسي إلا أننا لا زلنا نجد نفوسًا تأبى إلا الفكر الفردي وصناعة القرار الشخصي داخل كيان الجماعة

الرمزية سهام الداخل
مصطفى صبحي
الأحد ١٣ أبريل ٢٠١٤ - ٢٠:٤٥ م
2426

الرمزية سهام الداخل

كتبه/ مصطفى صبحي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالإنسان مدني الطبع، قيام حياته على المشاركة المجتمعية بين النفعية الذاتية والنفعية المتعدية، وفي كل الأدوار التي يمارسها الإنسان في المجتمع لا يخلو عمله من الفردية أو الجماعية، ويتوقف تحديد نوع المشاركة على طبيعة التكليف الشرعي من ناحية فروض الأعيان وفروض الكفايات، والكلام المعني هنا هو نوع من فروض الكفايات، وهو العمل الدعوي في الصورة الجماعية المؤسسية.

لقد جاء القرآن يمنح هذه الأمة الخيرية لقيامها بالعمل الدعوي باختلاف صوره، قال الله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:110).

وحثَّ الأفراد ذوي الهمم الدعوية السامية أن تكون لديهم روح التعاون عند قيامهم بالأعمال، قال الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة:2).

وأرشدهم إلى آلية من آليات التعاون الفعال، وهي: المشاورة في اتخاذ القرار، قال الله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، وفي هذه الآية قال الحسن البصري -رحمه الله-: "والله ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأفضل أمرهم".

ومِن ثَمَّ كان قرار العقل الجمعي الذي نوَّه إليه القرآن في قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ:46)، وهذا القرار الجمعي هو خلاصة رأي الجماعة ولبها.

والمتأمل في الوحيين يجد الحث على هذه النوعية من التفكير الجماعي، والتي تربط الفرد بالجماعة، والجماعة بالفرد، وتجعل علاقة الوئام بين الطرفين هي سمة المجتمعات الدعوية الراشدة، ومتى تغلب العقل الجمعي في العمل الدعوي إلا وأتت الدعوة أكلها -بإذن الله تعالى-، وذلك لبركة الجماعة: (يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ولتتكامل صورة التفكير الجماعي والمشاورة في العمل الدعوي واتخاذ القرار كان لزامًا أن يكون هناك السياج الإداري التنظيمي المؤسسي، والذي يُميز العقول المؤهلة للمشاورة في الأعمال الدعوية، والحوادث والنوازل، ويضعها في بوتقة صناعة القرار، الذي يوجّه إلى أفراد الدعوة إلى طريق السير، ومجتمع المدينة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها وتعاملاته مع الصحابة -رضي الله عنهم- وحقبة الخلفاء الراشدين أنموذج لا يزال ينبض بالعمل الجماعي الإداري المؤسسي.

ومع تشوف الشرع إلى التفكير والعمل الجماعي والفكر المؤسسي إلا أننا لا زلنا نجد نفوسًا تأبى إلا الفكر الفردي وصناعة القرار الشخصي داخل كيان الجماعة التي تزعم انتماءها إليها، وهذه الشخصية الفردية تختلف قوة تأثير قرارها على أعضاء الكيان باختلاف قوتها الرمزية فيه، فإذا كان المنفرد بالقرار هو شخص مغمور في قواعد الكيان فلن يعدو قراره أن يكون صرخة في صحراء، أما إذا كان المنفرد بالقرار هو شخصية رمزية شامخة القامة فهذا هو بيت القصيد، إنه السهم الداخلي الذي لا يكاد يخطئ الكيان.

والشخصية الرمزية هي تلك التي بزغ نجمها في أرجاء الكيان، وذاع صيتها في العنان، وعرفها القاصي والداني معرفة العيان، تاريخها سيرة وسير، وجهدها صور وعبر، ومِن ثَمَّ فقرارها منتظر وموقفها معتبر!

ومع هذا الوصف الأزهر لبعض جوانب الشخصية الرمزية، إلا أن سحابة غمام تخفي ورائها أسبابًا غامضة عن تفرد الرمز برأيه دون القرار المؤسسي للكيان، ولعل الإجابة على ذلك تكمن في صناعة الرمز وتضخيمه، "فصناعة الرمز -قامت في بعض جوانبها- على قدرات ذاتية أفادت من الظروف المرحلية للدعوة، ولم تقم على وحدة بناء جماعية توصل الرمز لمكانته بطريقة تراكمية وموضوعية، وتفرض عليه نظاميًّا أو أدبيًّا التحاور والتواصل معها، ولا على قناعات مشتركة محررة ومفصلة بين الرمز والأوساط العلمية المحيطة به تلزمه وبدوافع ذاتية لاحترامها وتبني اجتهاداتها والرجوع لأمر الشورى فيها، ثم يأتي تضخمه دون التأكد عمليًّا وليس نظريًّا على حق تخطئته ومراجعته بالبرهان والحجة مع الاحترام والأدب المشاع بين المسلمين عمومًا، ولمثله من باب أولى" (الأزمة الدعوية).

وإذا كان هذا تحليل لبعض الأسباب التي جعلت الشخصية الرمزية تنحرف عن مسار المؤسسية، إلا أنه يبقى هناك سبب أصيل يكمن في قلب الشخصية الرمزية لا يعلمه أحد إلا خالقه -تعالى-، (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه:7)، ومتى حاد الرمز عن الركب إلا وأتى الكيان ما يوعد من تشرذم لبعض القواعد معلنين تسخطهم على الكيان، ضاربين بقول المجموع عُرض الحائط، متشبثين برأي الشخصية الرمزية مهما كان مخالفًا للقواعد الشرعية والأصول العلمية!

إنها التجمعات الخاصة حول الأفراد لا الجماعة، والتي تهدد الكيان التنظيمي وتجعله في المحك الخطر، وهذه الولاءات الخاصة ذات دلالات عميقة، منها: "عدم وضوح الهدف المشترك أو ضعف جاذبيته، ومنها ضعف تلاحم القيادة مع القاعدة، وضعف النسيج الداخلي الذي يجعل من الأعضاء كلاً واحدًا كما يفعل "النول" بالخيوط، ومنها قدرة الجماعة على تحويل التوترات داخلها إلى توازن ثابت، وعجزها عن فهم المتغيرات الحادثة خارج الجماعة" (مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي).

وتتجلى مخاطر تفرد الشخصية الرمزية بالرأي في أوقات النوازل والمحن عندما يحدثون نوعًا من البلبلة والقلاقل بآرائهم المغايرة للكيان أو تفسيراتهم الجانبة للقرار المؤسسي، وحتى لا تتأثر الكيانات بالشخصيات الرمزية المخالفة للقرار الجمعي، فإنه لابد للترويج للأسس الآتية:

1- التمحور حول المبدأ بديلاً عن الرموز:

ففرق كبير بيْن صناعة الرموز والقادة وإبرازهم إعلاميًّا وواقعيًّا وجعلهم مرجعية، وبين جعلهم هم والناس من حولهم يرجعون للمبدأ الذي ينطلقون منه، ويتمحورن حول الأفكار والمشاريع التي تخدم المبدأ، فالطريقة الأولى تجعل في نفوس الأتباع هيبة ووجل من الرمز، وتمنعهم من قدرة التصويب له إذا أخطأ، وتجعلهم عالة على تفكيره وتخطيطه وأوامره، لا عونًا له في ذلك!

أما الطريقة الثانية فتقلل من الهيبة غير الشرعية، وتمنح الجرأة على النقد، وتوفر الفرصة أمام الجميع للمشاركة والعمل والابتكار والتطوير بعيدًا عن حرج العمل الذي يأباه البعض في ظل هذه الجهة أو تلك، ويتربى الناس على التجرد بصورة عملية، كما يتخلصون من سلبية جماهيرية الرمز.

2- وحدة المبدأ وتعدد الاجتهادات:

تحقيق هذا المطلب المُلّح سيساعد على حسم التباينات التي لا يمكن التخلص منها في الظروف الحالية، وذلك من خلال تفهم هذه التباينات ودوافع أصحابها وحجمهم، والاعتراف لهم بحقهم في الاجتهاد واحترام علمهم وسابقتهم، ومطالبتهم بتقبل اختلاف الآخرين معهم، مع انطلاق الجميع من وحدة المبدأ واحترام تعدد الاجتهادات.

3- مراجعة الأدوار القيادية:

بمعنى أن يتفهم الجميع أن هذه المرحلة من تاريخ الدعوة وواقع العصر تجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى قيادة فردية جامعة يذعِن لها الآخرون، ومن هنا فلابد من جماعية الإدارة، وفي هذا الخير الكثير للدعوة بإذن الله -تعالى-" (الأزمة الدعوية).

4- صناعة المؤسسات الحقيقية:

فمتى كانت المؤسسة ملتزمة بمنهج أهل السنة والجماعة في اتخاذ القرار إلا وكانت من أهل الاجتهاد، وفارق بين اجتهاد الجماعة واجتهاد الفرد، وهذا معنى لابد أن يُغرس في نفوس المنتمين للكيانات.

وأخيرًا... فليجتمع أبناء الكيان حول مؤسستهم ملتزمين بقرارها الجمعي، مميزين بين الرمز وقبول اجتهاده الفردي مع ضرورة التزامه بالقرار الجمعي المؤسسي، وبين الرمز وقبول اجتهاده الفردي، وهدم الكيان المؤسسي.

وصلى اللهم وبارك على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.


www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً