الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات إيمانية في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-

يرى المؤمن آثار القهر والعزة على كل المخلوقين، ملكهم ومملوكهم، فالكل مقهور قد غُلب على أمره؛ لا يملك ميلاده، ولا يملك دق قلبه

تأملات إيمانية في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-
ياسر برهامي
الأربعاء ٠٢ يوليو ٢٠١٤ - ١٨:٣٣ م
3921

تأملات إيمانية في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالمؤمن يشهد كل صفات الكمال والجلال والعظمة، ثابتة لله -عز وجل- على أكمل وجه، وعلى أتم معنى، فالله -عز وجل- يستحق الحمد على كمال أسمائه وصفاته؛ ولذا استأثر الله -عز وجل- بذلك النوع مِن الحمد على الكمال المطلق.

وأما مَن دونه؛ فكل ما فيه مِن كمال فهو بالنسبة إلى كمال الله -عز وجل- نقص، ومَن حُمد مِن عباده فبما أعطاه الله -عز وجل- مِن كمالات نسبية بالنسبة إلى غيره مِن البشر، ليس بالنسبة إلى صفات الكمال لله -عز وجل-، بل لو قورنت هذه الصفات بما لله -عز وجل- من صفات لظهرت كأنها ضدٌ؛ فعِلْم البشر إلى علم الله -عز وجل- جهل، وعدلهم إلى عدل الله ظلم "إذا كان الحكم مِن عند أنفسهم ولم يحكموا بحكم الله -عز وجل-".

وقدرة الإنسان بالنسبة إلى قدرة الله -عز وجل- عجز، وغنى البشر بالنسبة إلى غنى الله -عز وجل- فقر؛ فله الحمد على أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تتضمن كل كمال وجمال وجلال.

فيرى المؤمن آثار القهر والعزة على كل المخلوقين، ملكهم ومملوكهم، فالكل مقهور قد غُلب على أمره؛ لا يملك ميلاده، ولا يملك دق قلبه، ولا يملك نوعه: ذكرًا أم أنثى، لا يملك شكله، لا يملك نشأته، ولا يملك مِن أي الأُسر يكون، لا يملك أن يختار أباه ولا أمه، ولا يملك حياته، ولا يملك الموعد الذي يرحل فيه، ولا يستطيع أحد من البشر تحديد ذلك!

حتى أبوه وأمه لم يحددا متى يأتي هذا الإنسان، بل تزوجا ورجيا أن يكون لهما ولد، وما بقدرتهما أن يأتيا به، ولا أن يخلقاه، ولا أن يعطياه سمعًا ولا بصرًا، ولا يدًا ولا رِجلاً، وإنما يُوهَب ذلك وهو في بطن أمه، فلا أحد مِن الخلق يملك ذلك حتى أمه التي هو في بطنها؛ فكيف يتصور بعد ذلك أن يظن هذا العبد الضعيف أنه عزيز أو قاهر فوق أحد؟! بل هو مقهور مغلوب وأمر الله -عز وجل- نافذ فيه.

وكذلك يرى المؤمن آثار القوة ظاهرة في الكون بما أودع الله -عز وجل- فيه من أنواع القوة الهائلة في الأرض، وفي الرياح، وفي البحار؛ فالإنسان قوته ضعيفة جدًّا بالنسبة إلى هذه القوة، فلا شك أن الذي خلق هذه الأنواع من القوة هو القوي العزيز الذي يستحق الحمد على كمال أسمائه وصفاته وأفعاله.

وكذلك يرى المؤمن آثار الحكمة والعدل، والنعمة والفضل والرحمة على العباد، حتى فيما يبتليهم به، فيحمد الله -عز وجل- على ذلك؛ فالله -تعالى- خلق العباد ويعلم ما يصلحهم، فإن للعبد طاقات مستكنة، وقدرات عجيبة لا تظهر إلا مع وجود الصعاب والمحن والابتلاءات؛ مما يحقق به العبد فقره وذله لله -عز وجل-؛ فيخبت ويخضع، وينكسر ويتضرع؛ فيجبره الله -عز وجل- ويعطيه.

وأعظم ما يكون مِن ذلك: عندما يكون العبد جائعًا عطشان، عندما يكون مبتلى مظلومًا، عندما يكون ممتحنًا مضطهدًا؛ لا يجد عونًا إلا بالله -عز وجل-، فالله -عز وجل- قدَّر على العباد ما يؤلمهم أولاً ليسعدهم به ثانيًا، فهو -عز وجل- ما حَرَمك إلا ليعطيك، وما آلمك إلا ليلذك، وما ابتلاك إلا ليمنحك، وما كسرك إلا ليجبرك.

فالمؤمن يشهد دائمًا أن الله -عز وجل- بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنه -عز وجل- أرحم بعباده من الأم بولده، وهو -عز وجل- لا يقدِّر على عباده ما يسوؤهم مِن غير مصلحة لهم، وإنما يقدر ما يسوؤهم وما يؤلمهم؛ لكي تحصل هذه الإدراكات العالية التي لا يمكن أن تحصل للقلب إلا بوجود الآلام والمحن، فالله -عز وجل- يحب أن يسمع تضرع المؤمن، ويشهد انكسار قلوب ووجلها، ويشهد انهمار الدموع مِن عيونهم، ويفرح -سبحانه وبحمده- برجوعهم إليه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ) (متفق عليه).

وكل ذلك يجمع للعبد في العبادة وخصوصًا إذا كان معها مِن أنواع الابتلاءات الأخرى التي يقدرها الله -عز وجل- على أهل الإيمان والإسلام، فعند ذلك لا يحصل للعبد السخط الذي يغم القلب، وإنما يحصل الغم والهم والكرب إذا كان الإنسان ساخطا لا يشهد حكمة الله -عز وجل-، فينظر دائمًا إلى الألم، ولا ينظر إلى النعمة التي وضعت في طيات هذا الألم، فيحصل الضيق والكرب.

أما إذا شهد حكمة الله -عز وجل- وملكه ورحمته بعبده فيما ابتلاه به، وفيما ابتلى به غيره؛ حمد الله -عز وجل- وشهد ذلك بقلبه، وقال بلسانه: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".

فالمؤمن يحمد الله -عز وجل- على السراء والضراء، ليس أنه يحمد الله -عز وجل- على الضراء بلسانه فقط مضطرًا للحمد، كما يظن البعض أن معنى قولنا: "الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه" أنه يحرك لسانه بالحمد دون أن يكون شاهدًا نعمة الله -عز وجل- عليه في الضراء، فلا يكون ذلك حتى يسعد ويفرح قلبك، فالله -عز وجل- أخذك إليه، فهل بعد ذلك من نعمة؟!

فالله -عز وجل- كسرك وأخضعك إليه بهذا الابتلاء، وهذا الذي فتح لك باب الدعاء، وهذا الذي فتح لك باب الرجاء، وهذا الذي فتح لك باب الاستكانة له -عز وجل-؛ فكل هذه نعم أعظم مما لو فاتك ما ابتليت به، وكل هذه نعم أعظم مما لو سلم لك ما نقص منك!

فعندما يبتلى الإنسان بمرض، أو يبتلى بظالم يظلمه، أو يبتلى بفقد قريب أو حبيب أو ولد، أو يبتلى بأي نوع مِن أنواع الابتلاءات؛ فليعلم أنه إنما ابتلي ليتضرع، فليحمد الله -عز وجل- أن فتح لقلبه هذا الطريق السهل اليسير الممهد إليه -عز وجل-، وما كان ليحصل هذا التضرع إلا مع هذا الكسر؛ فضلاً عن أن تشهد نعم الله -عز وجل- عليك كلها في ظاهرك وباطنك، في دينك ودنياك، فتقول بلسانك ويشهد قلبك: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد مِن خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر".

فالمؤمن يشهد أن كل مخلوق مِن مخلوقات الله -عز وجل- في هذا العالم الواسع يستحق الحمد على خلقه، وعلى إتقان صنعه، وعلى الحكمة البالغة.

لو تأملتَ مثلاً في أصغر المخلوقات "ولتكن البعوضة وما فيها من أجهزة": من مخ يدبر، ومن جناح يطير، ومن جهاز هضمي، ومن جهاز تناسلي، ومن جهاز تنفسي، وما فيها من الأعاجيب مع هذا الحجم الضئيل!

ولو تأملتَ ما هو أصغر من ذلك "مِن بكتيريا وفيروسات وجراثيم": لابد أن تشهد بقلبك، وتقول بلسانك: "الحمد لله على عظمته وحكمته وإحكامه، وقدرته وعلمه، وعلى كمال أسمائه وصفاته، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

 

تصنيفات المادة