السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

"داعش" والحقائق الثلاث: "الغلو في التكفير - هوس إقامة الدولة - توظيف الأعداء لتطرفهم"

ولكنها لا تمثل كل الأقطار الإسلامية، كما وجد حكام يتجاوزون الشريعة في بعض سياساتهم

"داعش" والحقائق الثلاث: "الغلو في التكفير - هوس إقامة الدولة - توظيف الأعداء لتطرفهم"
عبد المنعم الشحات
الثلاثاء ٠٩ سبتمبر ٢٠١٤ - ١٥:١٧ م
5021

"داعش" والحقائق الثلاث: "الغلو في التكفير - هوس إقامة الدولة - توظيف الأعداء لتطرفهم"

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الحقيقة الأولى: غلوهم في التكفير:

ينتمي تنظيم "داعش" إلى ما يعرف إعلاميًّا بالسلفية الجهادية، ورغم شرف الوصفين "السلفية" و"الجهاد" إلا أن بعض مَن ينتسب إلى هذا التيار يضر بهما معًا حينما يغفِل الشروط الواجب توافرها لكي يكون القتال للجهاد.

فمنهم فئات مِن غلاة التكفير ممن لديهم تعطش للدماء، وعندما تبنت القاعدة ضرب المصالح الغربية حتى في بلاد المسلمين، انتمى لهذا التيار بعض مَن يقولون بتكفير حكام المسلمين قاطبة -دون التحقق من وقوع كل فرد في عمل مكفر، مع ثبوت الشروط وانتفاء الموانع-، بل ناصبوا السلفيين العداء؛ لأنهم يطبقون القواعد الشرعية في العذر بالجهل.

وشاعت في كثير من طوائفهم متسلسلة التكفير بالاستعمال المتعسف لقاعدة: "مَن لم يكفر الكافر فهو كافر"، وبواسطتها كفـَّر كثير منهم قوات الجيش والشرطة في البلاد الإسلامية، وبعضهم يكتفي بهذا القدر، بينما يصل البعض الآخر بغلوه إلى درجة تكفير عموم المجتمعات الإسلامية!

وعندما يصفهم أهل السنة بأنهم "خوارج" ينبرون للدفاع عن أنفسهم، وربما دافع البعض عنهم بأنهم لا يكفِّرون مرتكب الكبيرة، وربما يكون هذا صحيحًا.

ولكن مَن الذي حصر "بدعة الخوارج" في تكفير مرتكب الكبيرة؟!

إن "بدعة الخوارج" هي تكفير المسلم سواء كان هذا عن طريق الغلو في حكم مرتكب الكبيرة، أو من خلال الغلو في معنى الولاء والبراء، أو في معنى الحاكمية، ومِن ثَمَّ تراهم يتعمدون الكلام المجمل على أهمية هاتين القضيتين -وهما من الأهمية بمكان ولا شك-، ولكن يجب أن ندرك أن إدخال الناس في الإسلام وإخراجهم منه ليس بالتشهي والهوى، وأن الموالاة مثلاً منها ما هي موالاة كفرية، ومنها ما هي موالاة محرمة وإن لم تصل إلى حد الكفر؛ فضلاً عن أن هناك أمورًا ليست من الموالاة، وربما اشتبهت بالموالاة على بعض مَن كان عنده شبهة أو هوى أو جمع بينهما.

ومِن البدع التي تنتشر في هذه الاتجاهات: التكفير باللوازم، وقد بلغت "داعش" في ذلك درجة من الغلو إلى حد تكفيرهم لكل مَن أُسر لدى الأمريكان ثم أفرج عنه؛ بدعوى أنهم لا يفرجون عنه إلا لعمالته مع أن هذا ينطبق على زعيمهم "أبو بكر البغدادي"!

ولكنك ستجد أن مِن عامة التيارات الغالية في التكفير مَن يكفرون غيرهم بأمور يترخصون هم فيها أو يقطعون لأنفسهم بانتفاء اللازم!

ومِن العجيب أن بعض مَن ينتسب إلى السُّنة ممن أصابه الإحباط من واقعه، ويريد أن يتعلق بوهم "داعش" يحاول أن يلقي ظلالاً من الشك حول غلو "داعش" في التكفير رغم أن رفاقهم في هذا التيار ينكرون عليهم الغلو في التكفير، ورغم افتخارهم الفينة تلو الأخرى بذبح رجال من فصائل المقاومة الأخرى التي يقع بعضها في جنس ما تقع فيه "داعش"، ولكن بدرجة غلو أخف.

وليس أدل على غلوهم في التكفير، وتعطشهم للدماء: مِن هذا القتل الوحشي البربري للأخ "صائد الدبابات" وذبحهم إياه بطريقة وحشية، ولم يعلنوا سببًا شرعيًّا واحدًا يوجب كفره أو إهدار دمه، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمسك عمن ظهر نفاقه لبعض الناس؛ لخفائه عن الغالبية العظمى منهم؛ درءًا لمفسدة أن يتحدث الناس أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه.

فكيف إذا كان الحال أن فصيلاً ينتسب إلى الجهاد يَذبح مَن ينتسب إلى فصيل آخر؟!

ولا شك أن غلو "داعش" في التكفير قد تضاعف بعد إعلانهم عن دولتهم المزعومة؛ إذ زادت الأمور التي تستلزم الكفر عندهم لازمًا جديدًا، وهو "الامتناع عن بيعة دولتهم"؛ إذ يرون أن مثل هذا الأمر لا يصدر إلا عن نفاق وزندقة!

ومن العجيب أن البعض صار يدافع عنهم بأنهم ورثوا نزعات التكفير من شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- أو من أحفاده، وتناسى أن السلفية قائمة على أنه لا معصوم إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن كل أحد يؤخذ مِن قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ هذا إذا سلمنا بصحة هذه الدعوى، ولا شك في بطلانها فيما يخص شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- الذي قال في رد هذه الفرية عن نفسه: "وإذا كنا لا نكفـِّر مَن عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم مَن ينبههم؛ فكيف نكفر مَن لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم".

فقول بعضهم أن "داعش" اتهمت بعين ما اتهم به محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- سفسطة بالغة العجب! حيث نفى ابن عبد الوهاب التهمة بقوله وعمله، بينما أثبتتها "داعش" بقولها وعملها الموثق بالصوت والصورة.

الحقيقة الثانية: هوس إقامة الدولة:

نحن نؤمن بأن الإسلام عقيدة وشريعة، دين ودولة، وأن من مقاصد الشريعة الإسلامية إقامة الدولة الإسلامية، والتي من خصائصها:

1- الحكم بالشريعة الإسلامية في جميع الأمور.

2- دور الحكومة فيها حفظ الدين وسياسة الدنيا بالدين.

3- الحاكم يختار فيها عن طريق أهل الحل والعقد الذين تدل بيعتهم على الرضا العام بالحاكم.

4- أنها تضم الأقطار الإسلامية كلها.

هذا وقد وُجدت في واقع المسلمين صور من الدول التي لم تتحقق فيها كل هذه الشروط؛ فوجدت دول تطبِّق الشريعة على نطاق بقعة جغرافية كبيرة، ولكنها لا تمثل كل الأقطار الإسلامية، كما وجد حكام يتجاوزون الشريعة في بعض سياساتهم، كما وجد حكام متغلبين بالسيف والسنان، وليس ببيعة أهل الحل والعقد.

ومِن ثَمَّ اقترح الاصطلاح على تسمية الدولة المستجمعة للشروط: "بالخلافة التامة"، وتسمية ما افتقد فيها بعضها: بالخلافة الناقصة، وعندما كانت المساحة تتقلص جدًّا كانوا يطلقون عليها وصف الإمارة.

ومن الأمثلة التاريخية على ذلك: "إمارة الموصل"؛ تلك الإمارة العظيمة التي طردت الصليبيين من الشام عندما تحرك "عماد الدين زنكي" -رحمه الله- من الموصل إلى الشام لجهاد الصليبيين، وظل يوسع حدود إمارته دون أن يدعى له وصف الخلافة لا في زمنه ولا في زمن ابنه "نور الدين محمود" -رحمه الله- حتى أنقذ الله مصر من الفاطميين على يد تلميذهما "صلاح الدين الأيوبي".

وقد تكلم "الجويني" -رحمه الله- في كتابه: "غياث الأمم" على قريب من هذا، فذكر ثلاثة أحوال:

الأول: وجود خليفة مستجمع للشروط.

الثاني: عدم وجوده، مع وجود شخص ذي نجدة وكفاية صالح لتولي الأمر.

الثالث: والذي وصف فيه أحوال أشبه بأحوال بلاد العراق والشام وغيرها في زماننا، ووصفها بشغور الزمان عن الإمام، ووجَّه فيها عناية الأمة إلى التعاون على البر والتقوى، والتعاون على إقامة فروض الكفايات عن طريق رجوع أهل كل محلة إلى علمائهم، مع توجيه علماء كل محلة لضرورة توحيد جهودهم وراياتهم؛ فأين هذا ممن يعلن دولة خلافة لمجرد سيطرته على بقعة من الأرض؟! بل إن سيطرته ليست كاملة ولا حقيقية!

والعجيب أن هذا الخليفة المزعوم لم يعتنِ برعيته في قارات الدنيا الست، ولا عرَّفهم بنفسه، ولا بيَّن لهم كيف يمكن أن يبايعه مَن عاش معه أوهامه!

ثم إنك إذا يممتَ وجهك شطر علماء السياسة؛ وجدتَ أنهم يذكرون للدولة أركان ثلاثة: "حدود جغرافية ثابتة - شعب مستقر عليها - نظام حكم"، وأنت لا تكاد تجد في دولة "داعش" المزعومة شيئًا من هذا يجعلها حتى مجرد دويلة وفق هذا التعريف السياسي! وهو تعريف ينطبق مع السنة النبوية حيث لم يتعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- كحاكم إلا بعد أن وُجدت الأرض والشعب، والذي كان بيْن مؤمن به -صلى الله عليه وسلم-، وبين معاهد، ومِن ثَمَّ ندرك مدى حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على إتمام وثيقة المدينة لتكتمل له أركان الدولة.

وإذا قارنا بين حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وبين حاله في مكة وفي شِعب أبي طالب، وكذلك حال أبي جندل وأبي بصير -رضي الله عنهما-، يتبين لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام دولة في المدينة بالمعايير السياسية المتعارف عليها حديثًا.

وإن ادعاء "داعش" إقامة الخلافة ثم ترحيب البعض بذلك لا يَخرج عن الحالات التي تصيب بعض البشر في الأزمات بالبحث عن فكرة الخلاص السريع وأنه أتى أو على وشك الإتيان، وقد راجت في وقت من الأوقات كتابات تحديد عمر أمة الإسلام ونحوها، والآن جاء دور "قيام دولة الإسلام".

وهي حمَّى بدأتها "داعش"، وتبعتها "بوكو حرام" في نيجيريا، ونسأل الله ألا يأتي اليوم الذي يكون فيه في كل مجموعة أحياء "خليفة مبايَع"؛ يقيم الحدود، ويجمع الصدقات، ويحارب مَن خالفه.

الحقيقة الثالثة: توظيف الأعداء لتطرفهم:

ضع نفسك مكان متخذ القرار الأمريكي أو الإيراني، وأمامك الآن فصيل ينتسب إلى أهل السنة، ومع هذا يسرع فيهم القتل... !

أمامك فريق يكفـِّر بكل ما يظنه موالاة للأعداء، ومع هذا يسلم القيادة العسكرية لقيادات من البعث العراقي... !

أمامك فريق لديه فكرة الخلافة في بيعة مجهول مِن مجاهيل مثله في بعض الدروب الصحراوية... !

ومِن هنا، كان توظيفهم في قتال الفصائل التي تقاتل "بشار"، بل وفي الزمان والمكان الذي كان يحتاجه "بشار"!

ويذهب البعض إلى تحليل هذا بالعمالة الصريحة، ولكن طالما أننا نتكلم عن حقائق؛ فهذا "التوظيف" حقيقة ملموسة على الأرض، وأما تفسيرها: فيمكنك أن تذهب فيه كل مذهب، وأقصى درجات إحسان الظن أن تقول: إن بعثيي بشار استطاعوا التواصل مع بعثيي "داعش" لإثارة الخلافات مع فصائل المجاهدين الأخرى في الزمان والمكان المطلوبين لبشار.

ثم لما كانت القبائل السُّنية بصدد بداية جهاد مسلح ضد الحكم الشيعي، وكحقيقة ملموسة أيضًا ستجد أن قوات الجيش العراقي قد انسحبت من أمام "داعش" مخلفة وراءها ذخيرة وعتادًا، بينما تستميت في قتال القبائل السنية!

وكحقيقة ملموسة أيضًا؛ فإن الطيران الأمريكي لم يتدخل إلا عندما فكرت "داعش" في دخول المدن الكردية!

ويمكنك أن تذهب في تفسير هذه الوقائع كل مذهب... ولكن يبقى أن أقصى درجات حسن الظن أن الأمريكان والشيعة يدركون أن سلاح "داعش" سوف يتحول إما عاجلاً وإما آجلاً لإجهاض جهاد القبائل السنية كما فعل في سوريا.

ولإدراك أمريكا أنه لا يمكن أن تُهدم فكرة الحكم بالشريعة في بلاد المسلمين المعاصرة، وأمل السعي العاقل المتدرج للوحدة -والذي اقتبسه الاتحاد الأوربي من بعض الكتابات الإسلامية-؛ فلا يمكن أن يُفعل هذا كله بأفضل مما فعلته "داعش".

وفي النهاية نكرر ما ذكرناه إبان حرب حزب لله مع إسرائيل، نتمنى انتصاره عليهم مع بدعته، لكونه أقل منهم شرًّا، ولكن نحذر من انخداع أو حماسة أو وهم يمرر فكر العنف والتكفير إلى بلادنا.

كما يجب التحذير ممن إذا أُحبط مِن فشل تجارب سلمية؛ تمنى أو كف لسانه أو قلمه عن نقد فكر التكفير والعنف من باب "اتركهم يجربون -أو يذوقون- ويلات تضييقهم على الدعوات السلمية".

وهذا منطق مجافٍ للسنة من جهات عديدة، أهمها:

1- السكوت عن منكرات هذه البدع.

2- المشاركة في هدم المجتمعات المسلمة التي هي بيئة الدعوة وحاضنتها، وهي المقصود الأهم "قبل ومع الدولة".

3- التقصير في كف الاعتداء على أعراض المسلمين ودمائهم.

4- أن هذه البدع متى وُجدت تجذرت وصعب جدًّا اقتلاعها.

ومِن ثَمَّ فيجب على الجميع أن يتكاتف من أجل التصدي لكل هذه الانحرافات التي توجد في المجتمع، لا سيما تلك التي تُفعل باسم الدين؛ لأنها تنفـِّر الناس مِن الدين، وتصد الناس عن الحق، وتوقع الفتن والشحناء بين المسلمين.

نسأل الله أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي