الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الإعلام وثوابت الإسلام (3) قضية تدوين السنة ومنزلة "صحيح البخاري

صحيح البخاري عند المسلمين يعد أعظم كتاب بعد كتاب الله

الإعلام وثوابت الإسلام (3) قضية تدوين السنة ومنزلة "صحيح البخاري
سعيد محمود
الخميس ٢٥ سبتمبر ٢٠١٤ - ١٤:٠٧ م
2081

الإعلام وثوابت الإسلام (3)

قضية تدوين السنة ومنزلة "صحيح البخاري"

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي هجمة علمانية ممنهجة يواصل الإعلام المأجور هجومه على ثوابت الإسلام، معلنًا بالحال والمقال قاعدته في هذه المرحلة: "لا تبقوا مِن الإسلام شيئًا ثابتًا، فكل شيء في الإسلام قابل للتشكيك!"؛ يبتغون مِن وراء ذلك صرف الناس عن دينهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ومِن الثوابت التي يتعرض لها ذلك الإعلام المأجور بالهجوم عليها في هذه الأيام: "قضية تدوين السنة" مِن خلال الطعن على ناقليها أو مدونيها: كالإمام "البخاري" -رحمه الله-؛ فيَخرُج هذا مِن فضائية، والآخر من أخرى، والأخرى مِن جريدة، يهجمون على كتاب "صحيح البخاري" وعلى صاحبه بالنقد والتشكيك والتكذيب؛ هدمًا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين، وهكذا فإنهم إذا نجحوا في ذلك لم يبقَ لهم إلا التشكيك في كتاب الله -تعالى-! وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وهذه وقفات موجزة لنعرف من خلالها أهمية قضية تدوين السنة، ومنزلة البخاري في حياة المسلمين.

أولاً: منزلة "البخاري" العامة عند المسلمين:

صحيح البخاري عند المسلمين يعد أعظم كتاب بعد كتاب الله، ويعظمون نسبة الخطأ إليه حتى إذا أخطأ أحدهم وأراد أن يهون خطأه قال: "هل أخطأنا في البخاري؟!"، وأما منزلته عند العلماء فقد قال الإمام النووي -رحمه الله-: "اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول" (مقدمة شرح النووي على صحيح مسلم).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أما كتب الحديث المعروفة، مثل: البخاري، ومسلم، فليس تحت أديم السماء كتاب أصح منهما بعد القرآن" (مجموع الفتاوى 18/ 75).

وقد كان الأمراء يأمرون بقراءة صحيح البخاري عند الغزو والجهاد، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ذكر فتح عكا وبقية السواحل: وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق: الغزاة في سبيل الله إلى عكا، وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على مَن عندهم من تجار المسلمين فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأبرزت المجانيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمطوعة يجرون في العجل، حتى الفقهاء والمدرسون والصلحاء، وتولى سياقتها الأمير علم الدين الدواداري، وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام، وخرج هو في آخرهم، ولحقه صاحب حماة الملك المظفر، وخرج الناس من كل صوب، واتصل بهم عسكر طرابلس، وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدًا عكا، فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر، ونصبت عليها المجانيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها.

واجتمع الناس بالجامع لقراءة "صحيح البخاري"؛ فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري، وحضر القضاة والفضلاء والأعيان... وطلع المسلمون على الأسوار مع طلوع الشمس، ونصبت السناجق الإسلامية فوق أسوار البلد، فولت الفرنج عند ذلك الأدبار، وركبوا هاربين في مراكب التجار، وقتل منهم عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى، وغنموا من الأمتعة والرقيق والبضائع شيئًا كثيرًا جدًّا، فيسر الله فتحها نهار جمعة، كما أخذتها الفرنج من المسلمين في يوم الجمعة، وسلمت صور وصيدا قيادهما إلى الأشرف، فاستوثق الساحل للمسلمين، وتنظف من الكافرين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين" (البداية والنهاية بتصرف يسير 17/ 632-634).

ثانيًا: مكانة السنة من الشريعة:

إن مرجع الشريعة الإسلامية إلى أصلين، هما: "القرآن والسنة": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، والسنة تفسِّر القرآن؛ فلا يعرف الشرع إلا بهما جميعًا، قال الله -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44)، ولابد من فهمهما في ضوء الإجماع، والقياس مبني على الثلاثة.

بل قد تنفرد السنة ببعض الأحكام، مثل: "ركعات الصلاة - تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها - تحريم سائر القرابات من الرضاع - تحريم كل ذي ناب ومخلب من الطير - تحليل ميتة البحر - وغير ذلك".

ومِن هنا يتبين لك لماذا كل هذا الهجوم على السنة؟!

ثالثًا: اهتمام الصحابة -رضي الله عنهم- بالسنة والحديث:

فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- في غاية الحرص على سماع الوحي والسنة: عن عمر -رضي الله عنه- قال: "كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ... " (متفق عليه).

وكانوا حريصين على جمعها وتبليغها بنصها امتثالاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

رابعًا: تدوين السنة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-:

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في البداية ينهى الصحابة -رضي الله عنهم- عن كتابة الحديث عنه خشية اختلاطه بالقرآن؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ) (رواه مسلم)، ثم أذِن -صلى الله عليه وسلم- لهم أن يكتبوا عنه السنة لما أمِن ذلك.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لَمَّا فَتَحَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ، قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ)، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِلا الإِذْخِرَ) فَقَامَ أَبُو شَاهٍ -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ)، قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (متفق عليه).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" (رواه البخاري)، وكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض أصحابه كعمرو بن حزم وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وغيرهما.

وفي سنة 99 هجرية أمر عمر بن العزيز -رحمه الله- بجمع الحديث وتدوين السنة في مجامع خشية الضياع بالموت أو خلط المفسدين (التعريف بالكتب الستة لأبي شهبة).

خامسًا: منهج العلماء في تدوين السنة:

وضع علماء الحديث الضوابط الصارمة لضمان صحة النقل: كعدم الغفلة، والنسيان، والاختلاط؛ فضلاً عن الصدق، والضبط، والعدالة، واتصال السند، وعلم الرواية مِن فحص الرجال، والجرح والتعديل؛ تعظيمًا لمسألة النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتثبًا في نقل الأخبار؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، وقال -تعالى-: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء:36)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).

ولأجل ذلك فقد ارتحلوا في البلاد مع قلة المؤونة، وعسر وسائل السفر: قال أبو حاتم الرازي -رحمه الله-: "مشيتُ على قدمي زيادة على ألف فرسخ، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيًا!" (التذكرة للذهبي). وقال الشعبي لرجل أفتاه: "أعطيناكها بغير شيء، كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة!".

سادسًا: "مَن هو البخاري؟ وما هو صحيحه؟":

هو أمير المؤمنين في الحديث، ارتحل منذ الصغر وتعلم على العلماء الأجلاء، ومِن أبرزهم: مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وابن المديني، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم...

وكان عظيم الهمة في العلم، قال عنه ابن كثير -رحمه الله-: "كان يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من 20 مرة، ويوقد السراج ليكتب الفائدة تمر بخاطره".

وكان البخاري -رحمه الله- آية في الحفظ: لما قدم بغداد أرادوا أن يمتحنوه، فاجتمع عليه علماء بغداد،، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، ثم أعطوا كل واحد منهم عشرة أحاديث منها، فألقى عليه الأول العشرة التي عنده، فكان كلما ذكر حديثًا قال له البخاري: لا أعرفه، وهكذا حتى انتهى العشرة من سرد ما عندهم، فصار الجهلاء من الحاضرين يحكمون على البخاري بالعجز والتقصير، وآما العلماء منهم فيقولون: قد فهم الرجل، ثم التفت البخاري إلى الأول فقال له: أما حديثك الأول فصحته كذا، وأما حديثك الثاني فصحته كذا، حتى انتهى من ذكر أحاديثه العشرة، ثم التفت إلى الثاني والثالث وهكذا إلى العاشر، يذكر الحديث المقلوب ثم يذكر صحته!

قال بعض العلماء: ليس العجب من إدراكه الصواب، ولكن العجب كل العجب من سرده الأحاديث على الترتيب الذي سمعه من الممتحنين من مرة واحدة! (التعريف بالكتب الستة لأبي شهبة).

وأما كتابه الجامع الصحيح؛ فهو كتاب يجمع الصحيح فقط من الحديث، بخلاف الكتب قبله: قال البخاري -رحمه الله-: "كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا بصحيح سنة رسول -صلى الله عليه وسلم- فوقع في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح".

وقد قوي عزمه برؤيا رآها، فقد روي عنه أنه قال: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين، فقال: أنت تذب الكذب عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (التعريف بالكتب الستة لأبي شهبة).

الجانب الروحي الإيماني عند التصنيف: قال الفربري: "سمعتُ البخاري يقول: صنفتُ كتاب الجامع في المسجد الحرام، وما أدخلتُ فيه حديثًا إلا صليت ركعتين واستخرت الله، وتبينت صحته".

مكانة الجامع الصحيح وتقييمه من العلماء: مكث البخاري 16عامًا في تصنيفه، ولما انتهى منه قام بعرضه على العلماء، وقد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله، وأقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب!

فرحم الله الإمام البخاري رحمة واسعة، وجزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين، وعن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي