الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

بدعة تكفير المسلمين(3)

فقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة لدى العلماء وكثرت بينهم، في تحذيرهم من تكفير المعين بلا دليل أوضح من شمس النهار؛ لأن نتيجته

بدعة تكفير المسلمين(3)
إيهاب شاهين
الخميس ٠٩ أكتوبر ٢٠١٤ - ١٠:٠٣ ص
2117

بدعة تكفير المسلمين(3)

العذر بالجهل

كتبه / إيهاب شاهين

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة لدى العلماء وكثرت بينهم، في تحذيرهم من تكفير المعين بلا دليل أوضح من شمس النهار؛ لأن نتيجته الواقعية سيئة، سواء أكانت بالأقوال أم بالأفعال, ومن أصول أهل السنة والذي يجب أن يوضع في موضعه حسن الظن وحسن الرجاء لأهل القبلة أمواتاً وأحياء. خاصة في هذه الآونة وقد أطلت علينا البدع برأسها وصار أهل البدع يروجون قواعد يضعونها في غير موضعها ويستعملونها استعمالا لم يعرفه أهل العلم ويلوحون بها في وجه مخالفيهم ,كقاعدة، أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، ، وهي ليست آية في القرآن ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم، وإن صحت فإنها تحمل على من لم يكفر الكافر الذي قام على كفره دليل قطعي، أو من لم يكفر الكافر الذي نزل الوحي بكفره. كما أنه ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا أحد أغير من الله ؛ من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ؛ من أجل ذلك مدح نفسه . ولا أحد أحب إليه العذر من الله ؛ من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين " .

 قال المناوي رحمه الله


جمع بين محبة المدح والعذر الموجبين لكمال الإحسان وبين أنه لا يؤاخذ عبيده بما ارتكبوه حتى يعذر إليهم المرة بعد الأخرى ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه إعذارا وإنذارا وهذا غاية المجد والإحسان ونهاية الكمال والامتنان فهو لا يسرع بإيقاع العقوبة من غير إعذار منه ومن غير قبول للعذر ، ممن اعتذر إليه ، وفيه دلالة على كرم الله وقبوله عذر عباده فقد بسط عذرهم ودلهم على موضع التملق له وعرفهم أنه يقيل عثراتهم ويعفو عن زلاتهم ويتجاوز عن سقطاتهم.                                                                        والسؤال هل يعتبر العذر بالجهل في المعلوم من الدين بالضرورة ؟


المعلوم من الدين بالضرورة هو ما انتشر علمه بين الخاصة والعامة ، فلا يتصور فيه جهل أصلاً لمن هو بين أوساط المسلمينوإنما يتصور الجهل لمن يعيش في ديار بعيدة عن ديار المسلمين ، أو كان حديث عهد بإسلام .
فما كان معلوما من الدين بالضرورة يكفر منكره إلا أن تدل القرينة على عدم علمه .وهذا الأمر نسبي من مكان لآخر ومن زمان لآخر .
قال النووي رحمه اللهإن جحد مجمعاً عليه يعلم من دين الاسلام ضرورة كفر إن كان فيه نص ، وكذا إن لم يكن فيه نص في الأصح ، وإن لم يعلم من دين الاسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل المسلمين لم يكفر والله أعلم. [روضة الطالبين وعمدة المفتين - (ج 3 / ص 442) . وقال رحمه الله:
إذا ترك الصلاة جاحدا لوجوبها أو جحد وجوبها ولم يترك فعلها في الصورة فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين ، ويجب علي الامام قتله بالردة إلا أن يسلم ، ويترتب عليه جميع أحكام المرتدين وسواء كان هذا الجاحد رجلا أو امرأة هذا إذا كان قد نشأ بين المسلمين فأما من كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة من المسلمين بحيث يجوز أن يخفى عليه وجوبها فلا يكفر بمجرد الجحد بل نعرفه وجوبها فإن جحد بعد ذلك كان مرتدا.

هل العذر بالجهل في كل مسائل الدين ؟


نعم ، العذر بالجهل في كل مسائل الدين مما يتصور فيه الجهل ، سواء كان من الأمور العلمية أو العملية . وأما من يفرق بين مسائل الدين ويقسمها إلى أصول وفروع ثم يبنى الأحكام على ذلك . فهذا ابتداع ما أنزل الله به من سلطان

.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللههذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني : أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها : وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. (مجموع الفتاوى 1/258)
وقال رحمه اللهوهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.             

     والأدلة على ذلك كثيرة :

 الدليل الأول : قوله تعالى: عن أصحاب موسى عليه السلام (  قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ  تَجْهَلُونَ ) الأعراف  (138)

 قال القرطبي :

نظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط يعظمونها في كل سنة يوما : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام : "الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لتركبن سنن في قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه" . وكان هذا في مخرجه إلى حنين ، على ما يأتي بيانه في (بَرَاءَةٌ) إن شاء الله تعالى. {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)

قوله تعالى : (إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ) أي مهلك ، والتبار : الهلاك. وكل إناء مكسر متبر. وأمر متبر. أي إن العابد والمعبود مهلكان. (وَبَاطِلٌ) أي ذاهب مضمحل .(مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(كَانُوا) صلة زائدة. ( قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً) أي أطلب لكم إلها غير الله تعالى. يقال : بغيته وبغيت له.(وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)أي على عالمي زمانكم. وقيل : فضلهم بإهلاك عدوهم ، وبما خصهم به من الآيات.                     

    الدليل الثاني : قول الله حكاية عن أصحاب عيسى عليه السلام  : ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ المائدة : 5 / 112 ] .

قال أبو محمد بن حزم رحمه الله :

( فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟  و لم يبطل بذلك إيمانهم ، و هذا ما لا مخلص منه ، و إنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة و تبيينهم لها ) ( الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ).

وجاء في التفسير الميسر :

 واذكر إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء؟ فكان جوابه أن أمرهم بأن يتقوا عذاب الله تعالى، إن كانوا مؤمنين حقَّ الإيمان. والشاهد من الدليل  :  إن عيسى عليه السلام  لم يكفرهم بل أمرهم بالتقوى

وقد يقال : هذه رواية صحيحة  و لكن على ما قرأه الكسائي رحمه الله : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) تَستطيعُ – بتاءٍ مفتوحة – و ربَّكَ - بنصب الباء المشدَّدة  و في تفسير الآية على هذه القراءة قال القرطبي : ( قال الزجاج : هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، و قيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ، و المعنى متقارب و لا بد من محذوف ) ( تفسير القرطبي : 6 / 365 ).

و على هذا المعنى لا يكون الحواريُّون قد قالوا ما قالوه شاكين في قدرة الله ، و لا يكون ممَّا يُكفِّر ، و بالتالي فلا حجّة في الآية على العذر بالجهل ، فضلاً عن وقوعه .

والجواب :  إن كلا الروايتين صحيحتين وليس الأولى شاذة لكى لا نأخذ بها بل الصحيح أن القاعدة : العمل بالدليلين أولى من اهمال أحدهما وقاعدة أخرى : الجمع أولى من الترجيح  

إذا ًفالروايتين تثبت أن بعض أصحابه قالوا يستطيع والبعض الآخر قال تستطيع ولكن الأغلب قال يستطيع والدليل على ذلك من جوابه عليهم , عليه السلام فقال لهم (قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ).

والدليل أيضاً من ردهم  فقالوا له (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ).وسياق الآيات يدل قطعاً إنهم كانوا جاهلين بعظمة الله وقدرته وأرادوا أن يصدقوا ذلك

ثم هي القراءة المشهورة والله أعلم .

ثانياً  :  الدليل من السنة الصحيحة:

الأول :  حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب(وشي الثوب: لونه ونقشه ونسجه، انظر لسان العرب 15/392.). حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقي في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً) (رواه ابن ماجه وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 87)

هذا الحديث و إن كان يتحدث عن حال الناس في آخر الزمان، حيث لا يدري ما صلاة ولا صيام، فإن فيه دليلاً على العذر بالجهل حيث ينطبق الحديث على بعض الأمكنة أو الأزمنة  بالقياس حيث ينتشر الجهل ويضعف نور النبوة، فتخفى على بعض الناس كثير من الأحكام الظاهرة المتواترة ، ولكن لابد من الإقرار الذي عليه مدار النجاة، لأنه بدون الإقرار لا يكونون مسلمين.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم و الإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: "يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة" ثم ذكر بقية الحديث.

الدليل الثاني :

 حديث أبي هريرة قال :" كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذ أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحد فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت ؟ قال يا رب خشيتك فغفر له" متفق عليه .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية  رحمه الله :

في  مجموع الفتاوى (11/409): " فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر - إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره -".

 وقال في مجموع الفتاوى (3/231):"والتكفير هو من الوعيد . فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة . ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة . وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها ، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال:" إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ، ففعلوا به ذلك فقال الله له : ما حملك على ما فعلت . قال خشيتك : فغفر له". فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك"

وقال في الكيلانية (1/92)و (مجموع الفتاوى 1/491)،:" فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم ؛ بعد ما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك وهذان أصلان عظيمان : " أحدهما " متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير . و " الثاني " متعلق باليوم الآخر . وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله  :

في معرض حديثه عن حكم من جحد فرضاً من فرائض الإسلام:(و أما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً) (مدارج السالكين 1/367.).

وقال الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب  :

في هذه المسألة قوله في الدرر السنية (10/ 239-240):"إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، وبقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى قوله: (بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

   واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه". فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم".

وقال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله-:

 (و أما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان) ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة - رضي الله عنهم - عن القدر ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه) (التمهيد 18/46،47.).

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله:

 بعدما ذكر الحديث: (فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله) (الفصل 3/252.).

وقال ابن الوزير رحمه الله في تعليقه على الحديث:

 (وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب، و أما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالاً فلا يكون كفراً إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك و أنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحداً منهم لقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ( الإسراء، 15.)وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل) (إيثار الحق على الخلق 436.).

وقال الإمام الخطابي رحمه الله:

 (قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله) (فتح الباري 6/523.)

إذاً يمكن أن نستخلص من كلام الأئمة أمرين مهمين:

الأول: أن عمل هذا الرجل هو كفر لأن فيه إنكاراً لقدرة الله تعالى على إعادته بعدما يحرق، ولكنه عذر بسبب جهله الذي قاده إلى هذا الظن الفاسد.

الثاني: أن هذا الرجل معه أصل الإيمان وهذا واضح في الحديث، وهكذا فهم الأئمة، وقد ذكر بعض العلماء بعض التأويلات لهذا الحديث تخالف ما سبق وسنشير إلى هذه التأويلات برد علمي في مقال لاحق. والحمد لله رب العالمين .

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

 

 



 

ربما يهمك أيضاً