الجمعة، ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين .. بين التجديد والتبديد -1

إن أصول الدين محفوظة من كل عابث وإن تستر بستار التجديد والإصلاح أو الثورة الدينية

الدين .. بين التجديد والتبديد -1
قلم سلفي
الخميس ٠٨ يناير ٢٠١٥ - ١١:٢٨ ص
1663

الدين .. بين التجديد والتبديد (1)

كتبه / قلم سلفي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ..وبعد ..

- لعل البعض يستلهم تجربة مارتن لوثر الألماني في قيامه بثورة بروتستانتية ضد المسيحية الأصولية في روما متجاهلا الفروق بين الحالتين كعادة العلمانيين في محاولاتهم الدؤوبة لإيجاد حالة من الشبه بين الواقع الغربي الذي نشأت فيه العلمانية والواقع الإسلامي الذي يراد له أن يصير إلى ما صارت إليه أوروبا ، لقد ثار لوثر ضد دين محرف تصادم مع العلم الحديث وحقائقه ، واحرقوا العلماء بحجة الهرطقة ، واحتكر رجاله الحديث باسم الدين باعتبارهم نوابا عن الله في الأرض واعتبروا إلهامهم وحيا من الله وقرارات مجامعهم تعبيرا عن شرع الله ، ثار لوثر على كنيسة تحالفت مع القيصر من اجل ترسيخ الاستبداد والإقطاع ، واستولت على أموال الناس في مهزلة صكوك الغفران ، ثار لوثر زعيم الإصلاح الديني ( كما يقال ) على بدع ومحدثات في الدين المسيحي ، على رهبانية ابتدعوها وقدسية أضافها رجال الإكليروس على أنفسهم ، وكانت دعوة مارتن استاذ اللاهوت هي شرارة التمرد ضد الأوضاع السائدة في أوروبا ، كان من المنطقي أنتكفر أوروبا بهذا الدين المحرف وتهتدي إلى نور الإسلام والإيمان فيحل اشكالها مع الدين الذي وقف حجر عثرة امام تقدمهم وحريتهم ، ولكن عصبيتها ضد الإسلام منعتها من ذلك فرات بديلا عن ذلك وهو أن يكون هذا الدين ( المحرف ) مصدرا للغذاء الروحي دون التمسك بحقيقة نصوصه التي اثبت العلم الحديث عدم صلاحيتها ، يتعصبون له دون أن يتمسكوا به !!

- هذه هي الثورة الدينية والإصلاح الديني الذي حصل في أوروبا وحاول أن يستنسخ تجربته بعض من تزعموا دعاوي الإصلاح في بلاد المسلمين فكانت محصل دعوتهم هو التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية الحديثة ، أو إن شئت فقل ؛ تأويل نصوص الكتاب والسنة لتتوافق مع الحضارة الغربية الحديثة والتي قامت فلسفتها على تقديس العقل والإيمان بالمادة وتعظيم العلم التجريبي واعتباره في صراع مع الإيمان والدين .

ثم يا ليت من انشغلوا بهذه الدعاوى وجهوا طاقة الأمة إلى البحث العلمي والتقدم الدنيوي الذي لا يعرف نص واحد من كتاب أو سنة يمثل حجر عثرة أمامه ، ولكنهم انشغلوا بمعارك اخري بعيدة تمام البعد عن هذا المجال ، فكانت اغلب دعاويهم في إنكار الغيبيات ( كعذاب القبر ووجود الجن وحقيقة الجنة والنار والمعجزات النبوية والتشكيك في السنة بزعم معارضتها للمعقول والطعن في رواتها ، والدعوة لسفور المرأة وتبرجها ... الخ هذه القضايا التي ترسخ مظاهر الثقافة الغربية في الأدب والفكر والمجتمع .

التجديد الذي نحتاجه والذي لا ينقطع بفضل الله كما اخبر صلي الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتي يأتي امر الله وهم كذلك) وقال صلي الله عليه وسلم ( أنا لله يبعث على راس مائة سنة من يجدد لهذه الأمة امر دينها) هو التفقه في الكتاب والسنة والبحث عن حلول المشكلات المستجدة وفق الإطار الشرعي وقواعد الشريعة دون أن يخالف نصا أو إجماعا معتبرا مع مراعاة تنزيل الأحكام على الواقع لتحقيق المصالح الشرعية ومقاصد الدين .

ومن مجالاته الاجتهاد في تطوير نظم الحياة بما يتناسب مع تطور المجتمع ويحقق مصالحه وهو باب رحب للاجتهاد أبدع فيه الصحابة رضي الله عنهم حيث تطور شكل الدولة الإسلامية على حسب احتياجهم ومصالحهم وفهموا الفرق بين الوسيلة والغاية والثابت والمتغير وهو ما يسميه الفقهاء والأصوليون بالمصالح المرسلة .

ومن ذلك الاجتهاد في تطوير شكل مراقبة الحاكم ومحاسبته وتوليته وتفعيل دور الأمة في ممارسة السلطة التي جعلت من حقها ، والاجتهاد في تحقيق الجامعة الإسلامية التي فرضها الله على الأمة وما يتناسب مع تعقيدات الوضع الدولي وتطور شكل الدولة الإقليمية ، وتطوير منظومة القضاء بما يحقق نزاهته واستقلاله ، وتطوير آليات الشورى وتنظيمها ، كل ذلك مجال رحب للاجتهاد .

ومن ذلك الاجتهاد في تقديم النظريات الاقتصادية لتحقيق العدالة بين الناس ومنع الاحتكار والتضخم الذي يؤدي لغلاء الأسعار وتفعيل صور الشركة مع ما يتناسب مع العصر ويمنع من هيمنة الربا على سائر المعاملات .

ومن ذلك الاجتهاد في الرد على الانحرافات العقدية الحديثة والمتجددة كالإلحاد والعلمانية وقيمها الفاسدة ومناهجها المنحرفة ، فلا يمكن الاقتصار على محاربة بدع مضي زمانها هربا من أتون الصراع مع الحاضر .

وكل من يتأمل يجد أن السلف الأوائل وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم قد أبدعوا في هذا المجال أيما إبداع ، خصوصا الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه الذي واكب عهده طفرة هائلة من التطوير الإداري لشكل الدولة وتقسيمها لولايات كانت بمثابة نواة للدولة الإقليمية ، وتطوير مجلس الشوري ، واستحداث نظام الدواوين المقتبس من الفرس ولم يكن تمسكهم بالكتاب والسنة مانعا من اقتباس النافع من الحضارات الأخرى كما يروج العصرانيون ، بل شهد عهده تغيير اسم رأس الدولة من خليفة رسول الله إلى أمير المؤمنين لعلمه أن هذا لا يغير من مضمون الأمر شيئا ، وشهد عهده كذلك حزمة تشريعات لمعالجة الخلل الذي بدأ ينتشر في المجتمع مثل امضاء الطلاق الثلاث وجلد شارب الخمر ثمانين جلدة ، ورعاية منضبطة لفقه المقاصد كما في العمريتين في الميراث ، وعدم تقسيم الأرض المفتوحة على المقاتلين أخذا بخيار اخر مشروع وهو وقفها لعامة المسلمين ، وهكذا على مر العصور لم يجد المسلمون مانعا من التطوير في كل المجالات التي أشرنا إليها آنفا .

حتى في مجال العلوم الشرعية كان هناك تجديد وتطوير في لغة الخطاب ومعالجة مشكلات العصر بما يحقق المصلحة في اطار الشريعة وقواعدها دون جمود أو تميع ، ويمكنك المرور سريعا على عناوين الكتب وأسلوبها ولغتها ومواضيعها تدرك دون ادني تعب وجود ثراء فكري وعقلية واسعة غير منغلقة .

لم يجد المسلمون على مر عصورهم ادني غضاضة في الاستفادة من علوم الآخرين واقتباس النافع من حضارتهم ، وما زالت الأمم تتقارض الحضارات دون أن تتنازل عن مقوماتها الرئيسة ، حتي دب الضعف والتخلف في الأمة بسبب بعدهم عن الكتاب والسنة كمصدر للهدى والنور فجمدت عقولهم وتيبست قرائحهم وتطورت الدنيا من حولهم ولم يبرحوا هم مكانهم فحصلت آفة التخلف فانهزموا امام الغرب ، ولم تكن هزيمتهم العسكرية هي الاشكالية الكبرى فقد حصلت قبل ذلك مرارا وإنما الكارثة في هزيمتهم النفسية امام هذا العدو الغالب المنتصر وصاروا يرددون انه لا تقدم للشرق إلا بأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها وخيرها وشرها ، هكذا نظروا وكتبوا ، وعند التطبيق لم نجد إلا المر والشر وتركنا النافع المفيد .

إن تجارب من تسموا بالإصلاحيين في بلادنا كانت مريرة ولم يحدث من ورائها إلا هدم الدين والعبث بأصوله وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام مصطفي صبري ( وأما النهضة الإصلاحية المنسوبة للشيخ محمد عبده فخلاصته انه زعزع الأزهر عن جموده على الدين فقرب كثيرا من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة ، وهو الذي ادخل الماسونية إلى الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني ، وشجع قاسم أمين على دعوته للسفور فالشيخ بدلا من أن يتغلب على مناظره ويهزم جيوش المتفرنجين الكامنين وراءه هزم جيوش علماء الدين الذي هو جيشه نفسه بطول ما رماهم به من وسمة الجمود وبفضل ذلك حاز رضا المتفرنجين طبعا والمنهزمين تبعا ) أ. هـ [ كتاب موقف العلم والعقل من رب العالمين وعباده المرسلين 133،134/1 ] والاسم الأليق بهؤلاء هو المجردون كما سماهم الشيخ احمد شاكر أو المبددون كما سماهم الشيخ يوسف القرضاوي ، واما التجديد فالأحق به هم علماء الإسلام من أهل السنة والجماعة على مر العصور .

إن أصول الدين محفوظة من كل عابث وإن تستر بستار التجديد والإصلاح أو الثورة الدينية ، فإن البخاري ومسلم وكتب السنن وشروحها له بالمرصاد ، سيظل المغني ورياض الصالحين والمجموع وفتاوى ابن تيمية ورسائل محمد بن عبد الوهاب باقية ينهل من معينها طلاب الشريعة مهما حاولوا اخفاءها أو الإغارة عليها ولن تزال طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ثوروا ما شئتم واعبثوا كما تهوون فمصيركم كمصير أسلافكم ( فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) .

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي

تصنيفات المادة