الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

أساليب نشر العالمانية... (3) ترويض الظاهرة الدينية

وهذا ما دفع العالمانيون إلى سلوك اتجاه موازٍ دون التنازل عن الطريق الأصلي وهو نشر العالمانية الصريحة والدعوة إليها

أساليب نشر العالمانية... (3) ترويض الظاهرة الدينية
عبد المنعم الشحات
الخميس ٢٩ يناير ٢٠١٥ - ١٣:٠٤ م
1887

أساليب نشر العالمانية (3) ترويض الظاهرة الدينية

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تناولنا في مقالتين سابقتين "أساليب نشر العالمانية"، وأجملناها في أمور ثلاثة هي:

1- صنع الظروف المولدة للعالمانية، وذلك مِن خلال:

- افتعال الصدام بين الدين والعقل.

- افتعال الصدام بين الدين والعلم الحديث.

- افتعال الصدام بين الدين ومتطلبات الحياة الحديثة.

2- تكريس الواقع المنحرف؛ لا سيما في المجالات الآتية:

- مجال الحكم بتكريس الديمقراطية الليبرالية، ومنع محاولات أسلمة الديمقراطية.

- مجال الاجتماع خصوصًا فيما يتعلق بالأسرة والمرأة.

- مجال الاقتصاد خصوصًا فيما يتعلق بالربا والميسر.

- مجال الفنون والآداب.

3- ترويض الظاهرة الدينية، وذلك عبْر الوسائل الآتية:

- تقديم عدة نماذج من العالمانية.

- الزعم أن الدين عالماني بطبعه!

- المطالبة بعلمنة الدين.

- تثوير الدعوة الإسلامية!

- ترويع المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية.

وقد تناولنا الوسيلتين الأوليتين في مقالين سابقين، ونتناول الوسيلة الثالثة في هذا المقال -بإذن الله تعالى-.

ترويض الظاهرة الدينية:

نجحت العالمانية في فرض نفسها على واقع الحكم في الغرب مستثمرة للأخطاء الفادحة للحكم الديكتاتوري الثيوقراطي، كما نجحت في فرض واقع في بلاد المسلمين مستندًا إلى قوة الاحتلال العسكري، وبقيت هذه التركة الثقيلة لم يتم إصلاحها في الواقع القانوني رغم أنها أُصلحت دستوريًّا في كثير مِن البلاد كـ"مصر".

وعلى الرغم من ذلك فقد هُزمت العالمانية اجتماعيًّا حتى في دول أمريكا وأوروبا ذاتها، لا سيما إذا استصحبنا "مفهومهم للدين"، وأنه دين يقبل درجة كبيرة مِن درجات العالمانية -كما سيأتي إن شاء الله-.

وأما فشلها في "بلاد المسلمين" فأوضح مِن التدليل عليه.

ورغم أن كثيرًا مِن التيارات الإسلامية تخطئ "أخطاءً كارثية" يحاول العالمانيون إلصاقها بالإسلام ذاته؛ إلا أن هذا الأمر لا يَلقى قبولاً لدى القطاع الأكبر مِن الناس في بلاد المسلمين -بفضل الله-، وهذا ما دفع العالمانيين إلى سلوك اتجاه موازٍ دون التنازل عن الطريق الأصلي، وهو نشر العالمانية الصريحة والدعوة إليها، وهذا الطريق الاحتياطي هو: "محاولة ترويض الظاهرة الدينية"، وذلك عبر وسائل، منها:

تقديم عدة نماذج مِن العالمانية:

أحد وسائل معسكر العالمانيين في محاولة كسر عزلة العالمانية "لا سيما في العالم الإسلامي"، هي: إبراز اختلاف مذاهب العالمانيين، وتقسيم العالمانية إلى متطرفة ومعتدلة، أو إلى شاملة وجزئية، أو إلى مدارس مختلفة منها.

وأشهرها ثلاث مدارس، وهي:

- المدرسة الفرنسية المضادة للدين، وشعارها: "اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس!".

- المدرسة الإنجليزية الأكثر رواجًا في أوروبا: وهي لا تتحدث عن الدين لا بسلب ولا بإيجاب، وهذا يعني أنها لا تستحضره عندما تتحدث عن تشريع عام أو نظام عام.

- المدرسة الأمريكية التي تحترم الدين: فلا بأس أن يكون الدين جزءًا من مكونات شخصية الرؤساء والمسئولين، ولا بأس أن يستشهدوا بنصوص دينية، لكن غير مقبول إطلاقًا أن تتحدث عن الدين كمرجعية عليا.

وبالتالي فأكثر مدارسهم اعتدالاً "هي عندنا مدرسة متطرفة"؛ لأنها لا تقر بالمرجعية العليا للشريعة التي يقتضيها دين الإسلام.

وتجد الواحد مِن هؤلاء حتى ولو كان مؤمنًا بأقصى صور العالمانية تطرفًا يتشدق كلما ناقش الإسلاميين بأن الإسلاميين لا يفهمون العالمانية، أو -على الأقل- لا يفرقون بين أنواعها، وأنهم أصدروا حكمهم على العالمانية الفرنسية وعمموه على كل الأنواع! مع أن المدرسة الأمريكية هي الأكثر رواجًا الآن.

وهؤلاء يجهلون -أو يتجاهلون- أنه حتى تلك العالمانية الأمريكية مناقضة لقوله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (الجاثية:18)، وقوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162).

الزعم أن الدين عالماني بطبعه!:

وهي أحد أخطر وسائل العالمانيين في ترويض الظاهرة الدينية، وقد لاقت قبولاً كبيرًا في بلاد الغرب، وهي تستند إلى نص في الإنجيل منسوب إلى عيسى -عليه السلام- يقول: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وساعدهم على هذا أن الأناجيل خلت مِن التشريعات، وهذا ربما يفسره القول المنسوب إلى عيسى -عليه السلام- في الإنجيل: "ما جئتُ لأنقض الناموس، ولكن لأتممه".

ومع هذا فقد "كان الإنسان الأوروبي ممزقًا" بيْن عاطفته الدينية التي تمثـِّل له زادًا روحيًّا وهوية تاريخية، وبين العالمانية التي أصبحت واقعًا في حياته؛ فكان الحل هو استدعاء الدين بتفسيره المتعايش مع العالمانية، وهذا ما يحاول العالمانيون في بلادنا فعله، إلا أن ثمة فارقًا جوهريًّا وهو أن الغربيين يدركون أن دين الكنيسة الكهنوتي في العصور الوسطى دين آخر غير دينها المتعايش مع العالمانية، بينما يأتي علمانيو بلادنا في المناقشة، ويسردون تاريخ الدين النصراني في أوروبا وكأنه ينطبق تمام الانطباق على ديننا، ثم يختزلون ذلك التاريخ في اللحظة الراهنة، فتراهم يزعمون أن الدين "أي دين، ومنه: دين الإسلام!" كهنوتي بطبعه؛ لكي يَنفروا الناس عن التحاكم إليه ثم يعودون ويقدمون الحل في اعتبار أن الدين "أي دين، ومنه: الدين الإسلامي" عالماني بطبعه، ولا يمثـِّل إلا علاقة خاصة بين العبد وبين ربه.

وفي الواقع: إن الدين الإسلامي "لا يقبل لا الكهنوت"، ولا "العالمانية"، وإنما هو دين التوحيد القائم على أننا متعبدون بالطاعة المطلقة لله وحده أصالة، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عنه، وكل طاعة بعدهما مقيدة بطاعتهما، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).

وهذا ينافي "الكهنوت" و"العالمانية" على حد سواء، وهذا الجانب مِن أهم ما ينبغي إدراكه مِن أن "الإسلام هو الإسلام"؛ لا يجوز انتزاع قاعدة مِن دين آخر ثم تطبيقها عليه.

المطالبة بعلمنة الدين:

وهي مطالبات تأخذ شكلاً صريحًا أحيانًا، مثل: تقرير مؤسسة "راند" الذي جعل معيار الاعتدال عنده ليس مجرد سلوك منهج المواءمة بين الإسلام وبين معطيات الحضارة الغربية كما فعلت مدرسة "الأفغاني" و"محمد عبده"، بل يطالِب بفقهٍ جديدٍ يستند على الواقع دون محاولة ربطه بالنصوص، وتأخذ أحيانًا عبارات مجملة تحتمل معانٍ مقبولة وأخرى مردودة كمزيدٍ مِن التلبيس، مثل: "تجديد الخطاب الديني"، وقد تناولته في مقالتين سابقتين: الأولى: بعنوان "ضوابط تجديد الخطاب الديني عند شيخ الأزهر"، والثانية: بعنوان "تجديد الخطاب الديني بين المقبول والمردود"، وفصَّلت بعض أفكار تلك المقالة في مقال بعنوان: "صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان".

وإليك ملخص ما ذكرتُه في مقالة: "تجديد الخطاب الديني بين المقبول والمردود":

تجديد الخطاب الديني يُطلق، ويُراد به أحد ثلاثة معاني، اثنان مقبولان، والثالث مردود:

المعنى الأول: تنقية الدين مِن الأفهام الخاطئة.

المعنى الثاني: مخاطبة الناس على قدر عقولهم وبلغة يفهمونها، والاهتمام بما استجد مِن مشاكلهم.

المعنى الثالث المردود: التلاعب في أحكام الدين ذاته.

ويشمل ذلك صورًا تتفاوت في تطرفها وانحرافها، منها:

- استعمال منهج المواءمة بين الشريعة الإسلامية والحضارة الغربية، بحيث تصبح معطيات الحضارة الغربية هي أحد المرجحات الفقهية في مسائل الخلاف، وهذا المنهج الذي سلكه "الأفغاني" و"محمد عبده"، ثم آل إلى حالةٍ شديدة مِن إخضاع الشريعة لمعطيات الحضارة الغربية عند "الترابي" و"الغنوشي"، ولا يعني هذا أننا لسنا بحاجة إلى صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان أو أننا لا نقر أن للواقع أثرًا في الفتاوى، ولكن المشكلة في اعتبار أن له أثرًا في الأحكام؛ ولهذا الأمر مقام آخر في بيان ضوابط استعمال قاعدة: "تغيُّر الفتوى بتغير الزمان والمكان" ولعلنا أن نخصص لها مقالة قادمة -إن شاء الله-.

- ومِن أشدها خبثًا: ادعاء تاريخية الخطاب الديني، وحصر كل آية في سبب نزولها؛ مما يساوي عمليًّا زعم أن كل نصوص الوحي كتابًا وسنة قد نُسخت يوم نزولها، وصارت تاريخًا لكَ أن تحاكيه إن شئت أو تعرض عنه إن شئت! (وقد رد عليهم "شيخ الأزهر" في كتابه المشار إليه آنفًا، ونقلنا ذلك عنه في المقالة التي أشرنا إليها).

- وأما أشد هذه الدعوات خبثًا على الإطلاق: فهي "الدعوة إلى نقد النصوص ذاتها"، بل ربما تبجَّح بعضهم ودعا إلى نقد القرآن ذاته -والعياذ بالله!-.

تنبيه: دعوة الرئيس "عبد الفتاح السيسي" مِن أي نوع كانت؟!

قدَّمنا أن "تجديد الخطاب الديني" لفظ مجمل يحتمل معانٍ مقبولة، وأخرى مردودة، وعندما يتكلم أحد بلفظ مجمل كهذا؛ فإذا كنتَ تحمل الخير للجميع "لهذا المتكلم ولمن يسمعونه" فقد وجب عليك أن تحاول أن تسأل المتكلم، وبالطريقة التي تعينه بها على تفسير كلامه على المعنى الموافق للحق؛ لا سيما إن كان متبوعًا مِن عالم أو رئيس أو نحوهما، وهذا ينبغي ألا يكون له أي علاقة بموقفك الشخصي أو السياسي أو غيره منه؛ لأن دور الداعية هو هداية الناس إلى الحق، واتخاذ التدابير الموصلة إلى ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وبخصوص هذه التصريحات فقد سارع البعض إلى تفسيرها بالتفسير غير الموافق للحق "للخلاف السياسي بينهم وبين الرئيس"، ولكن الحمد لله أن غيرهم سلك غير هذا المسلك، وأن كلام المؤسسات الدينية خرج في غاية الانضباط، ثم كانت تصريحات "الرئيس" نفسه في هذا الباب في حواره مع قناة "سكاي نيوز"، والذي قال المصلحون لما سمعوه: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات".

وهذا نص السؤال والجواب من الحوار:

"س: على هامش تجديد الخطاب الديني حضرتك ذكرت ثورة دينية؛ ماذا كنتَ تقصد بها؟!

ج: هناك فرق بين مَن أساء الفهم وبين مَن يريد أن يحمِّل كلامي ما لا يتحمله، فهناك دول كثيرة تقدمت، ونحن نريد تعديل في الفكر.

س: هل هذا في الأفكار الأساسية؟

ج: لا طبعًا، لا أحد يتكلم في العقيدة، الثوابت لا تعديل فيها، أما بعض الأفكار التي تصل بنا إلى تقتيل بعضنا، هذه الأفكار لا بد أن نواجهها بشجاعة وأمانة.

س: هل هذه مسئولية المؤسسة الدينية فقط؟

ج: هذه مسئوليتنا جميعًا؛ حكامًا ومحكومين، نحتاج جميعًا إلى تغيير هذا الوضع".

تثوير الدعوة الإسلامية:

قدَّمنا في المقال السابع مِن سلسلة "مناهج الإصلاح" عرضًا مختصرًا لغزو فكر التثوير للحركة الإسلامية كان ملخصه: "في العلوم السياسية يقسِّمون التيارات التي تنادي بالتغيير إلى تيارات إصلاحية تؤمن بالتغيير التراكمي المتدرج، وتيارات ثورية تؤمن بالتغيير الجذري الفوري، ونحن بهذا المصطلح ننتمي إلى الفكر الموصوف بالإصلاح أيضًا.

وينبغي هنا أن ندرك أن الثورات هي حالات فوران مؤقتة تسقط نظام الحكم، ومِن ثَمَّ فإنه لا التيارات الإصلاحية، ولا التيارات الثورية تصنع الثورة، وإنما تنشأ الثورة حينما تنسد كل طرق الإصلاح، ويصل المجتمع ككل إلى حالة الغليان، ومِن ثَمَّ فقد تنفجر الثورة كرد فعل لحادث تكررت حوادث مِن جنسه أو ربما أفدح منه.

وإذا كانت الثورة كحدث لا يستطيع أحد تحديد لحظة انفجارها، فيبقى الفرق بين التيارات الإصلاحية والتيارات الثورية في آليات العمل؛ فالتيارات الإصلاحية تسعى لتحقيق القدر الممكن من الإصلاح "ولا تعتبره هو سقف آمالها"، وإنما تنطلق لتحقيق مزيدٍ من الإصلاح، بينما تسعى التيارات الثورية إلى تأزيم المواقف؛ أملاً في الوصول إلى حالة الثورة!

ومِن هذا العرض يتبين أن: القضية ليست في تبني آليات إنكار واضحة كالمظاهرات أو الاعتصامات والإضرابات، ولكن في الهدف مِن وراء هذه الفاعليات وغيرها.

وعلى الرغم من وجود تيارات تؤمن بالحل العسكري في أوساط الصحوة الإسلامية؛ ظنـًّا منهم أن هذا نوع مِن الجهاد! فإنه لم يكن يوجد مَن يدعي حالة الثورية حتى قامت "ثورة الخامس والعشرين من يناير"، وعلى الرغم من أن "ثورة الخامس والعشرين من يناير" بدأت بفعل إصلاحي -مظاهرات محدودة تطالب بمطلب محدد وهو عدم التوريث-، والأهم من ذلك أنها كانت نتاج عمل إصلاحي تراكمي - إلا أن انقلابها إلى ثورة ثم نجاحها؛ أغرى بعض الكيانات الإسلامية، وبعض الشباب الإسلامي أن يصف نفسه بالثورية!

مع أنه لا يلزم مِن المشاركة في ثورة متى اندلعت استمرار ذلك؛ لا سيما إذا اندلعت كنتاج لتراكم إصلاحي لا يوجب على مَن شارك فيها أن يبقى ثائرًا أو يرفع شعار: "كل مطالبي وإلا فالثورة مستمرة!"، وقد عانى فريق من الإسلاميين حينما وصل إلى السلطة من استمرار "حالة التثوير" المستمرة.

ناهيك عما تستلزمه الحالة الثورية مِن بعض التأويلات في الأحكام والدماء التي تتشابه إلى حد ما مع تأويلات تيارات المواجهة المسلحة، بل "ربما تتطابق معها" حينما يقف الجيش مع النظام السياسي الحاكم، أو عندما تكون المواجهة معه أصلاً، فلا يكون هناك مجال للكلام عن "ثورة سلمية!"، بل لا بد مِن تحولها إلى مواجهة مسلحة بناءً على ما تم رصده عبْر التاريخ مِن أنه لا تنتصر ثورة سلمية إلا بتأييد الجيش "أو حياده على الأقل".

ومِن رؤية واقع حال هذه التيارات التي تتصاعد وتيرة ثوريتها على مر الوقت؛ فتزداد درجة شراستها، ودرجة تبنيها للعنف، وإهدارها لحرمة الدماء، وشيوع التهم بالعمالة والتكفير والتخوين - ندرك تمامًا خطورة أن تتحول التيارات الإسلامية من موقع "الهداية" إلى موقع "التثوير".

ومِن الملاحظ: أن كثيرًا مِن القوى العالمانية والمؤسسات الدولية، مثل: أكاديمية التغيير، وغيرها، يدركون مدى التغيير الذي يطرأ على الحركات الإسلامية عندما تتبنى المنهج الثوري؛ فتخلع رداءها الإصلاحي وترتدي ثوب الإفساد، والسب والشتم، ونشر فضائح الخصوم "الصحيح منها والباطل"، وزوال أي فرق منهجي أو أخلاقي بينهم وبين باقي الفصائل الثورية الأناركية أو غيرهم؛ ومِن ثَمَّ فهم يدفعون الحركات الإسلامية في هذا الاتجاه دفعًا.

ترويع المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية!:

إذا أردتَ أن ترى تطبيقًا عمليًّا لما يسمى بالإرهاب الفكري؛ فما عليك إلا أن تشاهد القنوات العالمانية إذا ما قررت الهجوم على أحد الفصائل الإسلامية، فإنك قد تجلس أمام التلفاز وتدير "الريموت" فتظن أن خللاً ما أصابه، وأن القنوات قد غدت قناة واحدة، وأن البرامج قد غدت برنامجًا واحدًا متعدد المذيعين، وأن الجميع يعزف لحنًا واحدًا، ويستقي مِن معينٍ واحدٍ!

وقد كنا نظن أن هذا خاص بالدعوات الإسلامية الأهلية، حتى أشار "قائد الأوكسترا" -الذي لا نراه، ولكن نرى أعضاء فرقته!-؛ فعزف الجميعُ لحنَ هجاء "الأزهر"؛ شيخًا ووكيلاً، ومؤسسة ومناهجَ! فما زال هجاؤهم تتردد نغماته النشاز، ونحن لا ندري إلى أي غاية يقودوننا؛ حتى صرَّح بعضهم: "نريد مؤسسة بديلة للأزهر تدافع عن الإسلام الوسطي!"، وهذا بدلاً مِن الأزهر الذي جاءتهم نشرة مفاجئة بأن ما كرروه مرارًا أنه يمثـِّل "الإسلام الوسطي" لم يعد صحيحًا!

وبالطبع فإن "مناهج الأزهر" لم تتغير، ولكن معايير الإسلام الوسطي عند بعض الهيئات "المانحة" للقب "وسطي" قد تغيرت.

ومِن هنا رأينا أنه مِن واجبنا أن نقف مع "الأزهر"؛ لأن وجوده يحافظ على كثيرٍ مِن عموم المسلمين، وعلى الكثير مِن المفاهيم الصحيحة في مواجهة "الفكر العالماني الوافد".

وهذا لا يمنع مِن الاختلاف مع بعض شيوخ الأزهر أو حتى مع المؤسسة ذاتها، ولكن بكل أدب واحترام، وحفظ هيبة المؤسسة وشيوخها في نفوس عموم المسلمين؛ لا سيما وأننا كما قلنا مرارًا: "ليس مِن قول نتبناه إلا ولنا فيه مِن علماء الأزهر سلفًا قد قال به، وربما درَّسه في الأزهر ذاته".

خاتمة:

وفي نهاية هذه السلسلة أسأل الله أن أكون قد وُفقتُ لعرض أهم الأساليب التي تُمرَّر بها هذه الفكرة الدخيلة على ديننا؛ لعلنا ننتبه إليها، ونسد هذه الثغرات ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

www.anasalafy.com

موقع أنا السلفي