الجمعة، ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

فما لنا إن نحن وفينا؟

وكيف هضمت حظ نفسها ورأت غيرها أفضل منها

فما لنا إن نحن وفينا؟
محمد سرحان
السبت ٠٩ مايو ٢٠١٥ - ١٣:٣٤ م
1326

فما لنا إن نحن وفينا؟

 

كتبه / محمد سرحان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :

قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا (أي : الأنصار ) للبيعة (بيعة العقبة الثانية) قال العباس بن عبادة بن نضلة : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلًا أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة.

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: «الجنة» ، قالوا: ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه .

لم يعِدِ النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بشيء من الدنيا ، ولا لفت انتباههم إليها ، رغم علمه صلى الله عليه وسلم بنصره وما يفتح الله على أمته ، لم يوجه انتباههم إلَّا إلى الآخرة ، فلمّا قالوا : فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: «الجنة» ، فلم يعِد بغيرها ولم يذكر غيرها .

وروى الإمام أحمد عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ، قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَنِيئًا مَرِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَمَا لَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5] ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينُا}؛ قَالَ: الْحُدَيْبِيَةُ. قَالَ أَصْحَابُهُ : هَنِيئًا مَرِيئًا ؛ فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.

لأنه إذا دخلت الدنيا - أو شيء من متاعها - في العمل أفسدته ، وإذا أراد الإنسان الدنيا أو شيئًا منها ودخلت إلى قلبه ، أفسدت العمل ؛ لَمَّا جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا شَيْءَ لَهُ» فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَا شَيْءَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ » .

وأفسدت القلب ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ " .

وأفسدت الدنيا والآخرة ، قال تعالى : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19] ، قال ابن الجوزي رحمه الله :" {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، فعبَّر بالنعت عن الاسم، {عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ} من عَرَض الدنيا، وقيل: من البسط والتقتير، { لِمَنْ نُرِيدُ } فيه قولان : أحدهما: لمن نريد هَلَكته، قاله أبو إِسحاق الفزاري. والثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئًا ، وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا، وبيان أنه لا ينال ما يقصده منها إِلاَّ ما قُدِّرَ له ، ثم يدخل النار في الآخرة ، وقال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد.

قوله تعالى: {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ} يعني: الجنة ، {وَسَعى لَها سَعْيَها} أي: عمل لها العمل الذي يصلح لها، وإِنما قال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لأن الإِيمان شرط في صحة الأعمال ، {فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً }أي: مقبولًا. [زاد المسير في علم التفسير ] .

وقال السعدي رحمه الله :" يخبر تعالى أن {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} الدنيا {العاجلة} المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ، ونسي المبتدأ أو المنتهى ، أن الله يعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب الله له في اللوح المحفوظ ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له .

ثم يجعل له في الآخرة {جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} أي: يباشر عذابها {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} أي: في حالة الخزي والفضيحة والذم من الله ومن خلقه، والبعد عن رحمة الله فيجمع له بين العذاب والفضيحة.

{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} فرضيها وآثرها على الدنيا {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} الذي دعت إليه الكتب السماوية والآثار النبوية ، فعمل بذلك على قدر إمكانه {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} أي: مقبولًا منمَّى مدخرًا لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم ، ومع هذا فلا يفوتهم نصيبهم من الدنيا ، فكلًا يمده الله منها ؛ لأنه عطاؤه وإحسانه ".[تيسير الكريم الرحمن] .

ولما دخلت الدنيا للحظات في القلوب الطاهرة الزكية – قلوب بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين – كان ما كان في غزوة أحد : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] .

فإذا كان التفات القلب إلى الله وحده ، وأراد وجهه ، ولم يكن له هم إلَّا الآخرة ، فلا تسل عن صلاح القلب وزكاة النفس وصلاح الدنيا والآخرة .

لما عزل عمر رضي الله عنه خالد بن الوليد وولّى أبا عبيدة رضي الله عنهما ، أخفى أبو عبيدة توليته حتى انتهت المعركة وترك القيادة لخالد ؛ لأن همه نصرة الدين ، لا أن يكتب النصر باسمه ، وظل خالد رضي الله عنه بعد ذلك يقاتل جنديًّا ولم يغضب ويترك الميدان ، لأنه تربى على العمل لله لا على العمل لنفسه ، ففي أي مكان وضع عمل لله :" طوبى لعبدٍ آخِذٍ بعِنانِ فرسِهِ في سبيلِ اللهِ، أشْعَثَ رأسه ، مغبرةٍ قدماه ، إنْ كان في الحِراسةِ كانَ في الحِراسَةِ، وإنْ كانَ في الساقةِ كانَ في الساقَةِ ، إنِ استأذَنَ لمْ يؤذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لم يُشَفعْ ".

ولما عزل سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير – والي المغرب وفاتح الأندلس - عن ولاية الأندلس – بل وأهانه – لم يخلع يدًا من طاعة ، ولم يمنّ ويدلّ بعمله ، ولم يقل أنه كان ينتظر المكافأة لا الإبعاد.

ولما التفتت القلوب إلى الله فتأمل كيف زكت وطهرت حتى آثرت غيرها بالحياة، فعن حبيب بن أبي ثابت رضي الله عنه : أن الحارث بن هشام ، وعكرمة بن أبي جهل ، وعيَّاش بن أبي ربيعة رضي الله عنهم جُرحوا يوم اليرموك حتى أُثبتوا ، فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة ، فقال : ادفعه إلى عكرمة ، فلما أخذه عكرمة نظر إليه عيَّاش ، قال: ادفعه إلى عيَّاش ، فما وصل إلى عيَّاش حتى مات، وما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا.

وكيف هضمت حظ نفسها ورأت غيرها أفضل منها ؛ قال عمر رضي الله عنه : أبو بكر سيدنا ، وأعتق سيدنا ، يعني بلالًا ، وعمر بالاتفاق أفضل من بلال ومع ذلك يقول عنه : سيدنا .

فالحذر الحذر من التفات القلب إلى الدنيا ، أو الشهرة ، أو الجاه ، أو المنصب ، أو غيرها من متاع الدنيا وشهوات النفس ، وليتحسس العبد قلبه على الدوام خوفًا من دخول هذه الشهوات الخفية إليه ، فيفسد ويضيع ، وليحذر العبد من التأويل لنفسه وإيجاد الأعذار لها في كل ما تفعله ، فالبضاعة الزائفة لا تروج على الله.

فاللهم أصلح قلوبنا وثبتها على الحق ، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وتوفنا على الإيمان .

وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً