الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

صلاة الليل... أنس العابدين

ما من عبد أراد الثبات والاستقامة إلا لزمه الانطراح على باب سيده

صلاة الليل... أنس العابدين
نور الدين عيد
الخميس ٠٩ يوليو ٢٠١٥ - ١٢:٤٥ م
2091

صلاة الليل... أنس العابدين

كتبه/ نور الدين عيد

 الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فمن تدبر سبيل صلاحه وصحة سيره إلى ربه: علم أن له قلب لا يسير إلا به، ولا ينصلح هذا القلب إلا بعبوديته لربه قال الإمام ابن القيّم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإنَّ شعث القلب لا يلمُّه إلا الإقبال على الله تعالى!"

فما من عبد أراد الثبات والاستقامة إلا لزمه الانطراح على باب سيده، يتملق إليه، يناديه ويناجيه، ويدعوه ويرفع إليه شكواه، عن ابن عمر قال كان الرجل في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وكنت غلاما شابا عزبا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان كقرني البئر وإذا فيها ناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار - قال - فلقيهما ملك فقال لي لم ترع. فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- « نعم الرجل عبد الله لو كان يصلى من الليل ». قال سالم فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا." متفق عليه.

فكلما كان الوقت أفرغ كانت الخلوة أنفع، وهذا يقع للعبد في جوف الليل على وجه أقرب ما يكون من التمام، قال الله تعالى: "إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا " قال ابن كثير رحمه الله :"والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال: { هي أشد وطئا وأقوم قيلا } أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش."

وعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال :الصلاة في جوف الليل قيل أي الصيام أفضل بعد رمضان قال شهر الله الذي تدعونه المحرم " رواه مسلم، فمن كان له حظ منها كان له القرب وإصابة الهدى والنور ورفع الأغلال وشفاء القلوب والأبدان، لذلك حرص الصالحون على اغتنام هذه السويعات في القيام بين يدى الرب جل وعز فعن عبيد الله قال :" كان عبد الله بن مسعود إذا هدأت العيون، قام فسمعتُ له دوياً كدوى النحل"

فمن ذاق لذة مناجاته ما هان عليه فواتها، إنما ينتظرها ويشتاق إليها عن عائشة قالت فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدى على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول « اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ».رواه مسلم، فشوقه أضج مضجعه، ينتفض من رقدته إلى مناجاة سيده، ولا يذوق إلا من جاهد ووفق، وأما من زهد وأعرض فمحروم مما لا نظير له في دنيا الناس، فهذه الركعات في جوف الليل شأنها ليس كسائر الأوقات فإنها مقارنة للنداء الإلهي، والعطاء الرباني.

عن أبي هريرة :أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" متفق عليه وفى رواية مسلم:" ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذى يدعوني فأستجيب له من ذا الذى يسألني فأعطيه من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر »

فمن كان عاكفاً قائماً متبتلاً باكياً داعياً ليس كمن كان غافلاً عن سؤاله مستغنياً وفى قربه زاهداً، فلا إله إلا الله من انشراح صدر القائمين التالين الذاكرين، و يا سرور المناجين، و يا أنس تائبين، تتنزل عليهم الرحمات تلو الرحمات، فمن أدام أصاب من التمام، فلا لذة تزاحم القيام، ولا يقدم أحداً على الله في ساعات ليله، فيشح بها لغيره، فلا يكسل ولا يترك لما يصيبه من لذة القرب وحلاوة المناجاة

قال محمد بن زيد: "أن ابن عمر مان له مهراس فيه ماء، فيصلى فيه ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش، فيغفى إغفاءة الطائر ثم يقوم فيتوضأ ويصلى، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسة"

فمن جاهد نفسه في الله أصاب ثمرة جهاده قال الله تعالى : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" قال ثابت البناني :" كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة" فما قام الليل وأدامه إلا تنزل بالشفاء لقلبه من أمراضه وعلله، قال قتادة :" كان يقال: قلما ساهر الليل منافق"، فمقارنة القيام لوقت التنزل إصابة بالهدى والمغفرة والنور، فسرورهم وأنسهم يصبرهم على مكابدة ساعاته، قال أبو سليمان الدارانى: "لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا، ولربما رأيتُ القلب يضحك ضحكاً" فمن أصاب ذلك فقد أصاب الطريق، وأعجب الحال حال من علم وترك ثم رجا منازل السابقين، قال إبراهيم بن شماس :" كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام يحيى الليل" وأنكر رحمه الله على عاصم بن عصام البيهقي لما نام عن قيام الليل فقال له :" سبحان الله ، رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل ؟!!"

فمن أراد رفعة الدرجات، ومزاحمة السابقين فعليهم بركبهم وسننهم، لا يكن نصيبه الأماني والمزاعم فتنقضي حياته وقد فاتته أفضل ما فيها، فعلامة المحبين القيام بين يدى رب العالمين، أخذ الفضيل بن عياض بيد الحسن بن زياد ثم قال:" يا حسن، ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عنى " فإن القائمين يؤملون ما لا يؤمل غيرهم بحسن قيامهم وقرب قلوبهم، قال الأوزاعي رحمه الله :" من أطال قيام الليل، هون الله عليه وقوف يوم القيامة" قال الله تعالى :"أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ " وقال جل شأنه: "إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)""

قال الحسن رحمه الله ما نعلم عملا أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال ،فقيل له :ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال :لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره" ففيض نوره على فلوبهم يظهر على وجوههم.

والله أسأل أن يجعلنا من القائمين التالين الراكعين الساجدين، وأن يجعل ليلنا ليل المناجين المتهجدين، والحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com