الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

لماذا نصلي؟ -6

دعامة جميع الشرائع السماوية

لماذا نصلي؟ -6
محمد إسماعيل المقدم
الخميس ٣٠ يوليو ٢٠١٥ - ١٢:١٨ م
2006

لماذا نصلي؟ [6]

محمد إسماعيل المقدم

الصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين، وهي قرة عيون الموحدين، وأم العبادات، وأجل القربات، ومرآة عمل المسلم، وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وهي دعامة جميع الشرائع السماوية، وشعار دار السلام، وهي شهادة بالإيمان، وبراءة من النفاق، وهي سبيل المؤمنين، وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وهي زلفى وقربى إلى رب العالمين.

 

الصلاة مجلبة للرزق

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فنستأنف بإذن الله تعالى ما كنا بصدده من ذكر خصائص الصلاة وفضائلها، وقد ذكرنا أن الصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين، وأنها أهم أمور الدين، وأنها توءم الفرائض والأركان، وأنها أم العبادات، وأنها أمر الله تبارك وتعالى، وأنها الوصية الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها مرآة عمل المسلم وميزان تعظيم الدين في قلب المؤمن، وأنها دعامة جميع الشرائع السماوية، وأنها شعار دار الإسلام، وأنها إيمان، وأنها براءة من النفاق، وأنها سبيل المؤمنين وشعار حزب الله المفلحين، وأوليائه المرحومين، وأنها القاسم المشترك بين عبودية الكائنات، وأنها خير موضوع، وأنها زلفى وقربى إلى الله عز وجل، وأنها مدرسة خلقية، وأنها راحة وسعادة وقرة عين، وأنها نور وبرهان ووضاءة، وأنها من سنن الهدى، وأنها منحة ربانية، وأنها شكر لنعم الله تعالى، وأنها إغاظة للكافرين ومراغمة لأعداء الدين، وأنها تحرير للبشرية، وأنها ناهية عن المنكرات وعاصمة من الشهوات، وأنها كفارة للسيئات وماحية للخطيئات، وأنها ملجأ المؤمن في الكربات، وانتهينا إلى بيان أن الصلاة حفظ وحماية للمصلي. أيضاً من خصائص وفضائل الصلاة: أنها مجلبة للرزق، لقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس على المؤمنين، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، ومن رحمته بعباده أنه خففها عز وجل من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات. ولو بقي الأمر على ما كان عليه، وفرض علينا في اليوم والليلة خمسين صلاة، لكان حتماً واجباً علينا أن نحافظ عليها، وإلا حق علينا الوعيد الإلهي، فمن رحمة الله تبارك وتعالى أنه خففها من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات، كما أمرنا بالمداومة على إقامتها في أوقاتها، قال تعالى: والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]، وليس المراد من المداومة استغراق الليل والنهار بها، ولكن المطلوب فقط هو أداؤها في أوقاتها؛ كي يستطيع الإنسان أداء الواجبات الأخرى كتحصيل معاشه ونحو ذلك. ......

 

إعطاء كل ذي حق حقه

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه) رواه البخاري . هذا الحديث هو ميزان ومقياس الوسطية التي امتاز بها الإسلام، لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستطرد ويقول: وإن لوالديك عليك حقاً، وإن لإخوانك عليك حقاً، وإن لكذا عليك حقاً، لكن بعدما ذكر هذه النماذج من أصحاب الحقوق، ختمها بذلك القول الجامع: (فأعط كل ذي حق حقه). نتوقف قليلاً عند هذا الحديث؛ لأنه يمس موضوعاً مهماً جداً نبينه إن شاء الله تعالى، هذا الحديث كما ذكرنا يعطي كل مؤمن ميزاناً ليزن به الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك) فالإنسان ليس له وظيفة واحدة، بل له وظائف متعددة، ودوائر الالتزام بالحقوق والواجبات لديه متعددة، فالإنسان المتوازن لا يميل كل الميل إلى وظيفة، ثم يهدر باقي الوظائف، فالطالب مثلاً: وظيفته أنه طالب، يحضر المدرسة، ويذاكر دروسه، هذه وظيفته كطالب، لكن في نفس الوقت هناك واجبات أخرى متنوعة في حقه كابن تجاه والديه وأقاربه وأرحامه، وقبل ذلك كله عليه واجبات تجاه ربه كعبد، والأب مثلاً: عليه واجبات تجاه أولاده كأب، وهو كزوج عليه واجبات تجاه زوجته وتجاه أهله، وواجبات تجاه صلة رحمه وأقاربه، وكعبد لله سبحانه وتعالى عليه واجبات تجاه ربه عز وجل، أيضاً مجال النوافل مفتوح للمتقرب لله سبحانه وتعالى، كذلك إذا أتاه الضيوف عليه واجبات تجاههم، وهكذا، فلكل طرف من هذه الأطراف التزامات على الإنسان، لكل منهم حق نفسه لها حق.......

 

طلب العلم الشرعي لا يعارض الدراسة المنهجية لتحصيل الوظيفة والعمل

بعض الإخوة عندهم نوع من الخلل في مفهوم التوازن والوسطية، ويظنون أنهم ينجزون شيئاً عظيماً، فبعضهم يقول: أنا لا أستطيع إيجاد التوازن بين الدراسة وبين تعلم العلوم الشرعية أو حضور دروس العلم، فتجد الواحد من هؤلاء إما أن ينقطع تماماً إلى العلوم الشرعية ولو أخل بكل الواجبات الأخرى، وإما أن ينغمس تماماً في الدنيا ويخل بطلب العلم ونحو ذلك، وهذا السؤال ليس له محل من البداية أصلاً؛ لأن هذا السؤال لا نحتاجه إلا عند حصول التعارض بين واجب وواجب آخر، فعند التعارض نحتاج إلى الترجيح، لكن متى ما أمكن الجمع فيجب أن نجمع بين الواجبات، والأصل أن المسلم بحكم كينونته عبداً مسلماً طائعاً لله سبحانه وتعالى، ومنفذاً لشريعته على نفسه ومن يليه؛ تتعدد وظائفه، ولا يصح أن يقول: أنا أقوم بواجبي كأب ويضيع واجبه كابن، فينشغل بحقوق أولاده عن بر والديه، أو العكس ينشغل ببر والديه ويضيع تماماً حقوق زوجته وأولاده، وهكذا. أنا أتعجب لماذا دائماً نفترض التعارض بين الواجبات، في حين أن الحديث يحسم هذه القضية تماماً: (فأعط كل ذي حق حقه)؟! كذلك هناك من الناس من ينشغل بالرزق وتحصيل الرزق ويخدع نفسه ويقول: العمل عبادة، ويريد بهذا القول ألا يصلي مع الجماعة، وكأن الصلاة ليست عبادة، والعمل هو العبادة. هذا المفهوم في غاية الخطورة، وهو ناشئ عن التصور القاصر في العلاقة بين الأمور. أما بالنسبة للإخوة الطلبة الذين لا يريدون أن يتحملوا المسئولية، ويريدون أن يكون كل شيء على هواهم، فإذا كانت الدراسة لا يستسيغها ولا يحبها، فتراه يستتر خلف القراءة في كتب الدين، حتى إذا ما انتهت الامتحانات التي كان يهرب منها، فلا يقرأ في دين ولا يقرأ في دنيا ولا يعمل أي شيء، فهو ينكشف مع الوقت أنه كان يهرب، فالهروب لا يحل المشكلة، بل ستظل ماثلة أمامه، فالإنسان يكون صريحاً مع نفسه. نقول: إن فترة الطلب سواء في جامعة أو في مدرسة من أخطر فترات حياة الطالب ويستطيع أن يغتنمها في تحصيل أمور كثيرة جداً؛ لأنه بعد ذلك في الغالب ينشغل، ويكون الأمر بعد التخرج أصعب، وتكون مشاغل الحياة أكثر، خاصة إذا تزوج ورزق أولاداً، فالهموم تزداد، وقدراته على التحصيل في الغالب تقل، إلا من يسر الله عليه. فالشاهد أن فترة الدراسة فترة مثمرة جداً، ولو أحسن المرء استخدامها يكون النجاح إلى حد كبير، ويستطيع أن يجمع بين كثير من الأمور الخيرية. لكن هناك نقطة مهمة جداً وهي أن الإخوة الطلبة يقولون: كيف نترك الدراسة الدينية ونذاكر الكلام الفارغ، نقول: إن حكم الدين، أن الابن إذا بلغ النكاح، وصار مكلفاً، فعليه أن ينفق على نفسه، لكن بما أن ظروف الحياة حالياً انتهت إلى أن فترة الطفولة الاقتصادية قد طالت؛ وذلك لأن الوظائف الآن لا تنال إلا بشهادات في الغالب، والطالب يظل يتلقن هذه العلوم إلى حد فترة بعيدة قد تمتد أكثر من أربع وعشرين أو خمس وعشرين سنة. ونحن نلاحظ أن الأب في بلادنا الإسلامية هو الذي يتحمل نفقة ابنه ليفرغه لطلب العلم، فما على الابن إلا أن يشتغل بدراسته، وأن يحفظ دروسه ويذاكر؛ لأن هذا عمله ووظيفته، ولأجل تفريغه لهذه الوظيفة يتكفل والده بالنفقة عليه، فيفرغه لمصلحه الدراسة. إذاً: على الإنسان أن يكون واضحاً مع نفسه، وألا يهرب من الدراسة ويقول: أنا سأقرأ كتباً دينية؛ لأنه مهما كان إقبالك على طلب العلم الشرعي فلا بد في النهاية أن تكون لك وظيفة تشتغلها، وإلا هل سيبقى المتدينون من العاطلين عن العمل أو سيرتزقون من وراء الدين؟! لو كان الأمر هكذا فليدخل كلية أزهرية من البداية، ويسلك المسلك الطبيعي الذي يؤدي به إلى أن يطلب العلم، وفي نفس الوقت تكون له وظيفة، لكن معظم الناس ليسوا كذلك. إذاً: وظيفة الطالب الأساسية هي الدراسة والمذاكرة، فالدراسة ليس لها حل إلا أن ينهيها ويكملها، قال الفقهاء: من شرع في فرض كفاية لزمه أن يتمه. خلاصة الكلام: ترك الدراسة والبحث عن عمل بدون شهادة فيه مشقة شديدة، والتعرض للفتن يكون أكبر في الغالب؛ لأنك ستكون محكوماً، وستواجه صعوبة في التعامل معك، والعمل في القطاع الخاص يكون الوقت فيه أوسع، وبالتالي ينهك أكثر، ويحرم من دروس العلم، ويحرم من طلب العلم، فلو جاء يقارن بين من يشتغل وبين من يدرس، يجد أنه في فترة الدراسة يكون في سن الشباب، ويبذل للدعوة ويجتهد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بحرية، وفي نفس الوقت إذا قارن الشغل الذهني الذي يستخدمه في المذاكرة يجده أخف بكثير من الشغل المفروض، فلو قطع علاقته بالمذاكرة والدراسة وذهب ليشتغل ففي الغالب يكون شغله شاقاً، وأنتم تعرفون ظروف البطالة والأوضاع التي نحن فيها، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الآباء يتعذبون مع أولادهم عذاباً شديداً، تجد الأب كل رغبته أن يضحي ويبذل من أجل أن يكمل ولده الدراسة، وهو لا يريد من ابنه شيئاً، بينما تجد الابن ينفر من تحمل مسئوليته وهي الدراسة والمذاكرة! فأقول للذي يهرب من المذاكرة ويترك الدراسة ويذهب ليعمل: عليك أن تراجع نفسك، وأن تكون صريحاً معها؛ لأن بعض الناس يغتنم فترة الدراسة، فتجد أن أباه يبعث له نقوداً من أجل الدراسة، وهو مع ذلك لا ينفق هذه النقود على كتب الدراسة، بل ينفقها لشراء كتب دينية، فأقول: أنت مؤتمن على هذا المال، وأبوك إنما بذله لكي تتفرغ لدراستك وتشتري كتبك وهذه الأشياء، فلا يجوز لك أن تخدعه ولا تأتي بالكتب الدراسية؛ لأنها كتب علوم دنيوية. أنا لا أنفر من العلوم الشرعية؛ لأنها أشرف العلوم على الإطلاق، لكن أقول: إن فترة الدراسة أفضل فرصة يحصل فيها الإنسان العلم الشرعي، ويجتهد في العبادة، ولا تعارض على الإطلاق بينها وبين العلوم الدنيوية، فلماذا دائماً نفترض التعارض؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن لجسدك عليك حقاً) يعني: عليك أن تحافظ على صحتك؛ لأنك مطالب بحماية صحتك والاعتناء بها. ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ولربك عليك حقاً, ولضيفك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, صم وأفطر، وصل وائت أهلك، فأعط كل ذي حق حقه). فخلاصة الكلام: إن ظاهرة الهروب من الدراسة تكثر أيام الامتحانات، فترى الواحد يراجع نفسه ويقول: هل أدرس أم لا أدرس؟ ونقول: إن أيام الامتحانات أسبوع أو أسبوعان ثم تأتي إجازة طويلة عريضة، فما عليه لو توقف عن قراءة العلم الشرعي الآن وبعد أسبوعين أو ثلاثة يرجع إلى قراءة الكتب الدينية، ويرينا همته الحقيقية؟! على الطالب أن يستغل النعمة العظيمة التي هي نعمة الصحة والفراغ، يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فإذا جمع الله لك النعمتين فاستغلهما كما ينبغي. هذا تنبيه لزم التنويه عليه؛ نظراً لما يدور في أذهان كثير من الناس، ترى الواحد منهم لا يريد أن يعمل ولا يريد أن يذاكر، ولا يريد أن يدخل الامتحان بحجة طلب العلوم الشرعية! أقول: كن صريحاً مع نفسك، إن كنت تريد الهروب من هذه الأمور فلا تتستر وراء العلم الشرعي، اترك الدراسة واسلك طريقاً آخر ولا تقل: إن العلوم الشرعية هي التي عطلتني.

 

وجوب ترك العمل لأداء الصلاة المفروضة

إن الاشتغال بالصلاة يقطع الإنسان مؤقتاً عن عمل الدنيا، وبعض الناس قد يفتنون بالدنيا وراء تحصيل المال ولو على حساب إقامة الصلاة، فتجد أهل الدنيا ينشغلون وينهمكون في عمل الدنيا إلى حد اللهف والجري وراء الرزق ولو على حساب إقامة الصلاة، ولو ضيع صلاة الجماعة اشتغالاً بالرزق. من هنا لم يغفل الشرع الشريف هذه الجزئية، فبين الله سبحانه وتعالى أن ترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، وليس العمل عبادة، إذ لو كان العمل فعلاً عبادة لما كان الاشتغال بهذا العمل ساعة دخول وقت الصلاة حراماً، فترك اكتساب الرزق من أجل أداء الصلاة المفروضة فرض، يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. في جلسة من جلسات مجلس الشعب في عهد السادات قام أحد الناس الطيبين أثناء الجلسة التي كانت بعد العصر وقال: الصلاة يا رئيس، فقال له الرئيس: نحن في عبادة، واستمرت هذه العبادة حتى غربت الشمس! فما بالك بالذي يشتغل بالمباراة ومتابعة الكرة حتى تغرب الشمس أو غير ذلك من هذه الأشياء، فمن يقول: إن العمل عبادة فأوضح رد على تلبيسهم من القرآن الكريم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ))[الجمعة:9] وتدبروا كلمة (فاسعوا)، فالسعي المقصود به الجدية والمبادرة، لكن انظر في طلب الرزق كيف جاء التعبير: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] فأمرنا بطلب الرزق بالمشي، فعلى الإنسان ألا يستميت في طلب الرزق إلى الحد الذي يقطعه عن أداء العبادات. قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) عبر عن طلب الرزق بالمشي، أما العبادة فعبر عنها بالسعي، وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فالبيع الذي تسميه عبادة يجب عليك الآن أن تترك هذه العبادة التي هي العمل وطلب الرزق، فالدليل على أن ترك اكتساب الرزق من أجل الصلاة المفروضة فرض قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وبعد أداء حق الله تبارك وتعالى أُمروا أمر إباحة أن ينتشروا في الأرض في حوائجهم، فيقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم وبخ سبحانه من ترك العبادة وانصرف إلى التجارة فقال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

 

حق الله مقدم على حق غيره

نعود إلى موضوع التوازن بين حقوق الأولاد والأهلين وحقوق العمل وحقوق الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر حق الله يلغى كل عمل آخر، ومن ثم قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فهي تقدم على غيرها من الواجبات أو الحقوق، بل تلغى الحقوق الأخرى ويقدم حق الله تبارك وتعالى. وهذا الإنسان الذي يؤجل الصلاة عن أول وقتها ويظن أنه إذا أخرها سينجز حاجته وعمله، نقول: بالعكس، إن البركة تنزع من وقته، ولا يحصل منه الصلاة في وقتها، ولا يحصل منه إنجاز عمل عطل الصلاة من أجله، فتنزع البركة من الوقت فلا ينجز لا هذا ولا ذاك، فالإنسان يعود نفسه أنه متى ما جاء وقت الصلاة فليتذكر معنى كلمة: الله أكبر، فيقدم حق الله وحق الله أكبر على أي حق آخر في هذه اللحظة، يقول عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قال جماعة من المفسرين: إن المراد بقوله تعالى: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) هنا الصلوات الخمس، فمن اشتغل عن الصلاة بماله كبيعه أو صنعته أو ولده،كان من الخاسرين وذلك لقوله تعالى في آخر الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، وقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، فانظر إلى هؤلاء الذين يقولون: إن العمل عبادة ويضيعون الصلاة، وانظر إلى قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، والبيوت في الآية هي المساجد.

 

الثناء على التجار الصالحين

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( (ضرب الله هذا المثل في قوله: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ [النور:35]) لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم) قوله: (كانوا أتجر الناس) يعني: كان الصحابة أشد الناس خبرة بالتجارة. قوله: (وأبيعهم) يعني: أقدرهم على البيع والعمل وهذه الأشياء، ولكن مع ذلك كانوا إذا أتى وقت الصلاة فإنها لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة. ثم يقول: (وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله). وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (إن ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم وقاموا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]). وعن إبراهيم قال: هم قوم من القبائل في الأسواق إذا حانت الصلاة لم يشغلهم شيء. وقال سفيان الثوري رحمه الله: كانوا يشترون ويبيعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في جماعة. وتأمل كيف ربط الله سبحانه وتعالى بين تركهم الارتزاق لأجل الصلاة في قوله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] وبين قوله بعدها لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38] فهؤلاء التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل أو غيره من الطاعات، يكافئون بالرزق؛ لأنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فهم إذا جاء وقت الصلاة أغلقوا محلاتهم وخرجوا إلى الصلاة ثم عادوا، فما جزاؤهم؟ يقول الله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38]، فالله سبحانه وتعالى يبارك لهم في الرزق، حتى لو كان الرزق قليلاً فتحصل فيه البركة، والبركة شيء لا يوصف، لكن نستطيع أن نشعر بهذه البركة، وذلك لو أن إنساناً رزق مالاً كثيراً لكن نزعت منه البركة، فتراه ينفق هذه الأموال على الأدوية والأمراض، وينفق هذا المال في اللهو والمعاصي ويكون وبالاً عليه، أو ينفق هذا المال فيما لا فائدة منه، بخلاف المال القليل الذي يكون فيه البركة من الله سبحانه وتعالى.

 

الرزق بيد الله

الأرزاق بيد الله عز وجل يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، فمن شؤم المعاصي حرمان الرزق، فالرزق يقدر عن الإنسان ويضيق عليه؛ بسبب المعصية، فإذا استهان الإنسان بأعظم حق من حقوق الله تبارك وتعالى -وهو الصلاة- فأي ذنب أعظم من ذلك؟! فلا شك أن ترك الصلاة سبب لمحق البركة من الرزق، وليس الاشتغال باللهو والتجارة عن الصلاة هو الذي سيجلب لك المال ويجلب لك الرزق. كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً، رجع إلى أهله فدخل الدار وقرأ قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132]، ثم يقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله. فانظر إلى هذا الفقه منه لهذه الآية: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى). قوله: (زهرة) يعني: سريعة الذبول. قوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي: لنختبرهم فيه. قوله: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: ما عند الله من الثواب، خير وأبقى. وقوله تعالى: (( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ))[طه:132] أي: اصبر على ذلك. وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا َنحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]. وقوله تعالى هنا بعدما أمر بالصلاة: لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132] فيه دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش، فقد يوسوس الشيطان لبعض الناس بهذه الفكرة، وأن الصلاة ستعطله عن طلب الرزق وعن المعاش، فكأنه قال: داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها، إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم فنحن نرزقكم، فلا تقلقوا على الرزق، ولا تتركوا الصلاة ولا تؤجلوها اشتغالاً بالرزق، فلا تظن أن الاشتغال بالصلاة ينقص رزقك؛ لأن الرزق ليس عليك أنت، فالرزاق هو الله سبحانه وتعالى. وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى: لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132]، ولم يقل: نرزقك نحن، وإنما قال: نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132]، للدلالة على الاختصاص. وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات:56-57]، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، لا يطلب منك العبادة لأنه محتاج إليها، فالله عز وجل هو الغني القوي المتين، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. ويستفاد من الآية الكريمة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] أن الصلاة سبب لإدرار الرزق، وسبب لكشف الهم. يروى عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم الصلاة، وتلا: (( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ))[طه:132]). وأخرج الإمام أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة - حاجة أو شدة - نادى أهله بالصلاة: صلوا صلوا، قال ثابت : وكان الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة). ......

 

ضمان الله سبحانه لعباده الرزق حتى الممات

عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة). قوله: (ثلاثة كلهم) أي: كل واحد منهم ضامن على الله، وضامن هنا بمعنى مضمون، مثل قوله: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:21] فصيغتها صيغة الفعل، لكن معناها: في عيشة مرضية. أو أنه ذو ضمان، والضمان الرعاية للشيء كما يقال: تامر ذو تمر، أو لابن ذو لبن، أي: صاحب تمر ولبن، ومعنى ضامن على الله: أنه في رعاية الله، وما أجزل هذه العطية؟! وعدي بعلى: (كلهم ضامن على الله) لأن الضمان هنا ضمن معنى الوجود والمحافظة على سبيل الوعد؛ ولأن هذا عهد على الله أخذه على نفسه، أنه يرعى هؤلاء الثلاثة ويحفظهم من مضار الدين والدنيا. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله - يعني: الإنسان إذا دخل بيته يسلم على أهله، تكون بركة عليه وعليهم- ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، -يعني: خرج لصلاة الجماعة- ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله).

 

طلب الرزق وسيلة لا غاية

لقد بين جل وعلا أن المال خادم وأن الدين مخدوم، وهذا معنى في غاية الأهمية؛ لأن الرزق والمعاش يكون بالمال، فلا بد أن نعرف مراتب الأعمال: من السيد ومن الخادم؟ من الخادم ومن المخدوم؟ فهل المال خادم أم مخدوم؟ أو بتعبير آخر: هل المال وسيلة أم غاية؟ هل يراد المال لذاته أم يراد لغيره؟ لا شك أنه يراد لغيره، فالمال خادم والدين هو المخدوم، فالمال هو الذي يخدم العبادة، فلا يضحى بالعبادة من أجل المال. إذاً: من يقول: إن العمل عبادة ويضيع الصلاة فإنه يخدع نفسه، فهنا صير الخادم مخدوماً، فبدل ما كان الدين هو المخدوم صار هو الخادم للدنيا وللمال، مثل الذي يريد أن ينظف أسفل نعله، فيمسحه في خده، فالخد عضو شريف، والنعل خادم لهذا الجسم، فأنت لما تحول الخادم إلى مخدوم والمخدوم إلى خادم قلبت الأمور. وهذا مما يوضح لنا إبطال هذا المعنى، وهو الذي يتذرع به بعض الناس حين يضيعون الصلاة ويقولون: العمل عبادة. يوجد حديث صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب) يعني: أن الإنسان سيظل ملازماً وحريصاً على المال والازدياد من المال والطمع في الدنيا إلى أن يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره. ومعنى قوله عز وجل: (إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) أي: أن المال إنما أنزل ليستعان به على إقامة حقوق الله تعالى، لا للتلذذ والتمتع به كما تأكل الأنعام، فالأنعام تعيش لتتلذذ وتتمتع بالطعام ونحو ذلك، أما بالنسبة للإنسان فإنما أنزل له المال ليستعين به على أداء حقوق الله تبارك وتعالى، فإذا خرج المال عن هذا المقصود فات الغرض والحكمة التي أنزل لأجلها، وكان التراب أولى به، فرجع المال والجوف الذي امتلأ بمحبته وجمعه إلى التراب الذي هو أصله، فلم ينتفع به صاحبه، ولا انتفع به الجوف الذي امتلأ به.

 

حتمية حصول الرزق والأسباب الشرعية للحصول عليه

لقد ضمن الله تبارك وتعالى لعباده أرزاقهم فقال سبحانه وتعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت) يعني: أن الإنسان يرزق رغم أنفه؛ لأن الرزق مكتوب لك حتى ولو قلت: أنا لا أريده وفررت منه، فسوف يجري خلفك إلى أن يلحقك حتماً إذا كان الله قد كتبه لك. وقال صلى الله عليه وسلم: (الرزق أشد طلباً للعبد من أجله) الإنسان إذا طلبه ملك الموت وحضره أجله هل يستطيع أن يهرب منه؟ حتماً لا بد أن يموت في الأجل الذي كتبه الله، فكذلك الرزق مكتوب، وسوف ينالك ما كتب لك من هذا الرزق. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي -هذا إلهام وهو نوع من أنواع الوحي- : أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته) وهذا حديث صحيح. قوله: (إن روح القدس نفث في روعي) أي: جبريل عليه السلام. قوله: (أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: اطلبوا الرزق لكن بنوع من الحكمة. قوله: (ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته). يعني: ما دام أن الرزق عند الله، فالوسيلة التي يطلب بها الرزق هي طاعة الله، وليس عن طريق معصية الله تبارك وتعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فرزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره. فمن كانت همه الآخرة يكافأ على ذلك بأن يجمع الله له شمله، ويجعل غناه في قلبه، وهذه أعلى درجات الغنى غنى النفس، وتأتيه الدنيا راغمة. إذاً: يرزق العبد رغم أنفه؛ لأن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره؛ ولأنه سبق به قلم القضاء: (رفعت الأقلام وجفت الصحف).

 

حال من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة

إن من اشتغل بالدنيا عن الصلاة المفروضة فهو داخل فيمن آثر الدنيا على الآخر، يقول عز وجل: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17]. وقال تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك)، فبعض الناس ينهمكون في خدمة الدنيا على حساب الدين، وعلى حساب إقامة الصلاة، فإذا ما نصحوا وذكروا بأن الرزق مضمون، وأن عليهم أن يجملوا في طلب الدنيا، انطلق الواحد منهم محتجاً بأن ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب، فتقول له: الرزق مضمون ولن يفوتك شيء من الرزق، قدم حق الله على غيره، قدم الآخرة على الأولى، فينطلق كالصاروخ قائلاً: أليس كل شيء بالأسباب؟! وإن ضيعت الأسباب سيضيع مني الرزق! فيجادل ويقول لك: ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب، وعندما تأتي وتذكره بالأوامر والنواهي والأمور الشرعية يقول لك: ربنا كريم، ربنا غفور رحيم، وبعضهم يقول لك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، ونحن نقول: لا إله إلا الله، ويتعلق بهذه النصوص. فهل نقول: إن ربنا كريم في الآخرة وفي الدنيا، فاترك السعي وراء الرزق، وربنا كريم سيرزقك وأنت جالس؟! هذا غير صحيح، صحيح أن كل شيء يأتي بالأسباب، وكذلك الجنة لا تأتي إلا بالأسباب، يقول عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، فالجنة نفيسة جداً، فهل تريد أن تنالها بالأماني والأوهام والأحلام؟! لماذا لا تأتي بالأسباب التي توصلك إلى الجنة؟! قال بعض الصالحين: اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة. إذاً: هذا أحد الأدلة على أن البصيرة غائبة منطمسة؛ لأن الله سبحانه ضمن للإنسان الرزق، لكن هل الجنة مضمونة؟ الرزق كتبه الله سبحانه وتعالى كما هو معلوم في الآيات: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ [الأنعام:151] لكن الجنة قال عنها عز وجل: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:39-41]، وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. إذاً: اطلب الرزق لكن بحكمة، ولا تضيع الصلاة من أجل الرزق، أما الجنة فأهم أسباب دخولها المحافظة على الصلاة. قال الله سبحانه وتعالى:وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. فمن اتقى الله بتقديم حقه في أداء الصلاة على ما عداه عوضه عما فاته من الدنيا، ورزقه من حيث لا يحتسب. وقال سبحانه تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ [الأعراف:96]. وقال عز وجل: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]. وقد روي في بعض الآثار: (وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) فمن شؤم تضييع الصلاة نقصان الرزق ومحق البركة، ومن عجيب أمر بعض الناس أنك إذا دعوتهم لترك شواغلهم لإجابة الداعي إلى الصلاة تعرف في وجوههم المنكر، كيف يتركون العمل لأجل الصلاة مع أن العمل عبادة؟! وهذه العبارة شاعت وذاعت، وشب عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، مع أنها ليست آية قرآنية ولا حديثاً نبوياً، بل هي بهذا السياق عبارة منكرة؛ لأن صاحبها إذا أمر بالصلاة في وقتها يعارض بهذه المقولة المنكرة، ومفهوم هذه المقولة إن الصلاة ليست عبادة، وأصبحت عبادة الدنيا هي العبادة! إن العمل الذي يلهيك عن فريضة الله عبادة، لكن عبادة للشيطان وللدنيا؛ بدليل الحديث: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار).. إلى آخر الحديث. وهذا المسلك من أربابه الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، ومن المغالطات العلمانية التي يطلقها من لا يرجون لله وقاراً، ولو كان يجوز لأحد أن يترك الصلاة لانشغاله بما عداها، لكان أولى الناس بذلك المجاهد الذي يكافح العدو ويلتحم معه في الجهاد، ومع ذلك لم يعذر المجاهد بترك الصلاة حتى صلاة الجماعة، ففي الجهاد لم يعذر المجاهد في ترك الصلاة، وشرع الله سبحانه وتعالى له صلاة الخوف، كذلك المريض الذي أنهكه المرض كان أولى أنه يجوز له أن ينشغل بالمرض عن الصلاة، لكن مع ذلك لم يعذر لمرضه مهما اشتد به المرض، ما دام عاقلاً ومستطيعاً، فالمريض الذي أنهكه المرض تبقى الصلاة فريضة عينية في حقه، ويصلي على حسب استطاعته، فلا يتصور في الوجود أن يكون هناك مسلم لا يصلي، إلا امرأة حائضاً أو نفساء، فهما اللتان يعذران في ترك الصلاة، بل لا تصح منهما الصلاة.

 

الصلاة أول ما يسأل عنه الناس من حقوق الله عز وجل يوم القيامة

إن من خصائص الصلاة وفضائلها: أن الصلاة أول الإسلام وآخره، فهي أول فروض الإسلام بعد الشهادتين، وهي أول ما نسأل عنه من حقوق الله عز وجل يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك). ونفس هذا المعنى يشير إليه حديث ضعيف يروى عن أبي أمامة رضي الله عنه: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله ومعها صبيان لها، فأعطاها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحد منهما تمرة، قال: ثم إن أحد الصبيين بكى فشقة التمرة الثالثة فأعطت كل واحد نصفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حاملات والدات رحيمات لأولادهن، لولا ما يصنعن بأزواجهن لدخل مصلياتهن الجنة)، فتأمل كيف أنه اشترط الصلاة في الانتفاع بما عداها من الأعمال الصالحات. والنبي عليه الصلاة والسلام تأثر بموقف المرأة الرحيمة بأولادها، فقال: (حاملات والدات) يعني: يتعبن في الحمل، وفي الولادة. قوله: (رحيمات لأولادهن، لولا ما يصنعن بأزواجهن دخل مصلياتهن الجنة) أي: أن اللاتي لا يصلين لا يدخلنها، وهو وارد على سبيل الزجر والتخويف والردع. ......

 

الصلاة آخر ما يرفع من الدين

إذا كانت الصلاة هي أول ما نحاسب عليه في القبر، وهي أول ما طلب في الإسلام بعد الشهادتين، وأول ما يسأل عنه من حقوق الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؛ فهي أيضاً آخر ما يسقط من الدين، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا صلاة له عند الله تعالى) أي: لا نصيب له ولا ثواب. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة) أي: أن الحكم من عرى الإسلام مثل الصلاة، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين)؛ لأن الصلاة أول الإسلام وآخره، وما ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه. ......

 

الصلاة سبب النصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة

إن الصلاة سبب النصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة، فقد قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].. إلى قوله جل وعلا: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9]، فقوله عز وجل: (قَدْ أَفْلَحَ) أي: المفلحون أول صفاتهم الصلاة، وانتهى بوصفهم بالصلاة، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2].. وانتهى بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9] تماماً كما في سورة المعارج. وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، والفلاح: هو الفوز بالبقاء الدائم في النعيم، فالله سبحانه سمى الصلاة فلاحاً، وجعل النداء إليها نداءً إلى الفلاح، حي على الفلاح. بعض الناس ينطق كلمة (حي) بالكسر، وهي بالفتح؛ لأن حيّ اسم فعل أمر، والفلاح هو الفوز بالمراد والبقاء في الخير. إذاً: هذه أدلة على أن الصلاة هي الفلاح. وبالصلاة يستمنح نصر الله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] ولعل في تشريع صلاة الخوف حال الالتحام المسلح ما يشير إلى أثر الصلاة في استجلاب نصر الله تبارك وتعالى. وعن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم). هذا الحديث مهم جداً، وهو في صحيح البخاري بدون ذكر الإخلاص، فصلاة الضعفاء ودعاء الضعفاء وإخلاصهم هو أحد أسباب نصر هذه الأمة، والضعفاء: هم الأطفال واليتامى والنساء والشيوخ الطاعنون في السن، هؤلاء هم الضعفاء، فالإنسان إذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى بشيء من ذلك، سواء كان ابناً مريضاً مزمناً، أو أولاداً صغاراً ضعافاً أو يتامى، أو أباً أو أماً كبيرين في السن، فحذار أن ينظر إلى أن هذا عبء عليه، بالعكس فرزقه ربما يأتيه بسببه، وقد تمنع الرزق بسبب المعاصي، لكن قد يأتيك الرزق ليس لك أنت؛ لأن معاصيك تمنع أن يتكاثر لك الرزق وتحجبه، لكن يأتي الرزق لهؤلاء الذين تعولهم من الأطفال أو النساء أو كبار السن، فهؤلاء رحمة من رحمة الله سبحانه وتعالى. روي عن سليمان عليه السلام أنه خرج مع قومه للاستسقاء، فلما أراد أن يستسقي رأى نملة قائمة بقوائمها -يعني: رافعة قوائمها- وتقول: اللهم اسقنا ولا تؤاخذنا بذنوب بني آدم، كان هناك قحط وجدب فسمع النملة تدعو بهذا، وقد كان يفهم لغة النمل، فقال لمن معه: ارجعوا فقد سقيتم بدعاء غيركم. وفي الحديث: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) فهم يستحقون أن يمنع عنهم الماء من السماء، لكن الله سبحانه وتعالى من عدله لا يؤاخذ البهائم بذنوب الآدميين، فنحن نسقى من أجلها. كذلك بالنسبة لهؤلاء الضعفاء من الأطفال أو النساء أو المرضى أو الشيوخ، فهؤلاء هم البركة، وهؤلاء ترزق وتنصر بسببهم، فلا تنظر إليهم على أنهم عبء، لكن انظر إليهم أنهم مصدر خير وبركة واستدرار للرزق، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها)، وكلمة النصر تطلق أحياناً على الرزق، والشاهد في سورة الحج يقول عز وجل: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] إن أحد المعاني الذي فسر بها النصر هنا هو الرزق، والسائل قد يأتي ويقول: انصروني نصركم الله، أو يقول: ارزقني حسنة، فأحياناً يطلق النصر على الرزق. قال رجل للحسن : أوصني، قال: أعز أمر الله يعزك الله، قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. أي: انصر أمر الله بإقامة الصلاة ينصرك الله تبارك وتعالى، وقال الله عز وجل: وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [المائدة:12] يعني: إني معكم بالنصر والتأييد إن أنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، ومن كان الله معه فقد تولاه، والله عز وجل لا يعز من عاداه ولا يذل من والاه، بل الذل حليف من حاربه وعصاه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) وعباد الله هم الذين يعاقب بهم أعداءه ويعذبهم بأيديهم ويستمدون منه زاداً ووقوداً في جهادهم، كما في قوله في سورة الإسراء: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5]، فهؤلاء هم المؤهلون لأن يكونوا أداة لتعذيب أعداء الله تبارك وتعالى، ولا شك أنهم يقيمون الصلاة، وهذا إذا فسرنا (عباداً لنا) على أنه مدح لهم، وهناك تفسير آخر: وهو أنهم مسخرون لتعذيبهم وإن لم يكونوا مؤمنين. وبهذه العبودية الحقة يتعرف عليهم الحجر آخر الزمان ويناديهم: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله) كما في صحيح مسلم . فهل يمكن أن يكون عبداً لله ولا يقيم الصلاة؟! لا. يتعجب الإنسان كيف يعيش الذي لا يصلي بدون صلاة! لماذا يتنفس من هواء الله؟! لماذا يأكل من رزق الله؟! لماذا يمشي في أرض الله؟! لماذا يتمتع بالعافية التي رزقه الله سبحانه وتعالى والعقل الذي كرمه به؟! لكن المفلحون الصالحون إذا فتح الله سبحانه وتعالى عليهم بالنصر والتمكين كان أعظم ما يقدمونه للناس إقامة الصلاة يقول عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]. نكتفي الليلة بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

رسالة من غريق
1904 ١٢ يناير ٢٠١٧
آداب التخلي -3
2385 ٠٨ ديسمبر ٢٠١٦
آداب التخلي -2
1859 ٠١ ديسمبر ٢٠١٦
البيع بالتقسيط
2833 ١٧ نوفمبر ٢٠١٦
السيرة البازية
1467 ١٠ نوفمبر ٢٠١٦