الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأويل رؤيا الملك

ما أروع هذه الأخلاق!! يتعجب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم

تأويل رؤيا الملك
ياسر برهامي
الجمعة ٣١ يوليو ٢٠١٥ - ٢٠:٣٢ م
1740

تأويل رؤيا الملك

كتبه/  ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال تعالى: {قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}.

 

لم يعاتبه يوسف عليه السلام على ما قصر في حقه، ونسي من مظلمته، لم يقل له من رأى هذه الرؤيا، وقد علم -بلا شك- من لهفة الرجل وشدة حرصه على معرفة التأويل، ليرجع به {إِلَى النَّاسِ} أن هؤلاء الناس لهم شأن كبير، لم يشارطه الخروج، ولا حتى على الشفاعة عند الملك وذِكر حاجته، كرم يليق بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، غِنَىً عن الخلق يليق بمن أغناه الله عمن سواه، رفعة تليق بمن رفعه الله عز وجل درجات، حلم يليق بحفيد - أو قل: ابن- الخليل الحليم الأواه المنيب- عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

 

ما أروع هذه الأخلاق!! يتعجب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:

 

" وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ عليه السلام، وَصَبْرِهِ، وَكَرَمِهِ، فَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَاتِ الْعِجَافِ السِّمَانِ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ مَا أَجَبْتُهُمْ، حَتَّى أَشْتَرِطَ أَنْ يُخْرِجُونِي، وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ، وَصَبْرِهِ، وَكَرَمِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَبَادَرْتُهُمُ الْبَابَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ"، ولنصفه الأخير شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ؛ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ"، وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم تواضعا، وإلا فهو سيد الناس ولا فخر، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

 

أجاب يوسف الفتى مباشرة: {قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً}، أي: فهذا تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر، ثم زاده النصيحة لما يلزم عمله، وهذا كرم زائد على مجرد التعبير، فقال: {فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}، أي: ليكون أبقى له وأبعد عن الفساد، {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}، أي: إلا المقدار الذي تأكلونه خلال هذه السنوات، ولكن ليكن أكلكم منه قليلا، ولا تغتروا بكثرة الخصب، فتسرفوا، فلا يقوم لكم الأمر في السنوات الآتية، وقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}، وهذه هي البقرات العجاف والسنبلات اليابسات، {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ}، أي: تدخرون، أي: أن سنين الجدب سوف يؤكل فيها كل ما جمعتموه في سنين الخصب، إلا قليلا مما تدخرون فإنه سوف يبقى، فلن يصل الأمر إلى المجاعة، فأرشدهم إلى الادخار، وهذا أمر زائد على مجرد التعبير، فهو كرم جديد، ثم زادهم أمرا ليس له في الرؤيا ما يدل عليه، والظاهر أن يوسف عليه السلام عرفه بالوحي، فقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}، فبشرهم بوجود الغيث.

 

قال ابن كثير -رحمه الله-: (هو المطر بعد السبع الشداد)، ولا مانع من صحة هذا التفسير، وإن كان المشهور أن النيل هو الذي قل إيراده حتى أصابهم الجدب، ثم زاد بعد السنين السبع الشداد، فحصل به الغوث، فإنه لا تعارض بين فيضان النيل، وبين أن الغوث هو المطر، فإن النيل إنما يفيض بنزول المطر على منابعه، كما أنه لا مانع أن يكون مع الفيضان مطر، فتزداد غلة البلاد، ويعصر الناس ما تعودوا على عصره من زيت، أي: زيتون وبذور غير الزيتون تعصر، وكذا عصر العنب لاتخاذ السكر، وروي عن ابن عباس (يعصرون، أي: يحلبون)، فأدخل فيه حلب اللبن، ولا شك أن كثرة اللبن من لوازم كثرة الخصب، وكثرة الماء في الأنهار والأمطار، والله أعلم.

 

ظهر كرم يوسف عليه السلام المضاعف فيما أول به الرؤيا مجانا، وما نصح به الخلق، رغم أن أكثرهم ليسوا مؤمنين، ولكن الأنبياء والأولياء تملأ قلوبهم الشفقة على خلق الله والرحمة لهم، وإرادة الخير بهم، وهذه من أعظم أسباب حب الناس لهم، وقبول دعوتهم، وليست الدعوة بإبلاغ مجرد عن مشاعر الرحمة، وإرادة الخير للناس، بل المؤمنون خير الناس للناس في دينهم ودنياهم.

 

رجع الفتى فرحا بالكنز الذي حصل عليه، ويحدث نفسه أن يكون الجزاء له وحده، ولكن الله المنان الكريم لا يضيع نبيه ووليه، بل هو الذي أرى الملك الرؤيا، وأهمه بها من أجل يوسف عليه السلام، وهو سبحانه الذي يقدر سنين الرخاء والجدب، ليعلم الناس فضل يوسف عليه السلام، الملك أذكى من أن يقبل أن الفتى الخمَّار هو الذي ينبئ بتأويل الرؤيا مثل هذا التأويل، ليس هذا من عقله ولا خلقه، ولا يناسبه هذا الجود والكرم، وهو الشخصية الانتهازية الوصولية، سأل الملك من أوَّل هذه الرؤيا، أجيب بأنه يوسف عليه السلام فطلب الإتيان به.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

تصنيفات المادة