الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

حوار مفتوح مع دعاة الصدام

حوار مفتوح مع دعاة الصدام
رضا ثابت
السبت ٢٢ أغسطس ٢٠١٥ - ١٢:٥٢ م
2302

حوار مفتوح مع دعاة الصدام

كتبه/ رضا ثابت

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد؛

بالرغم مِن أن الشريعة شددت في أمر الدماء أيما تشديد، وحذرت مِن الولوج في هذا الباب الخطير أعظم التحذير، وتضافرت النصوص على تأكيد خطر ذلك الباب خاصة في المحافل العامة، فنرى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يؤكد ذلك فيقول: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا"، وانظر إلى الحديث الآتي الذي تقشعر منه الجلود: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ"، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "يَجِيءُ الْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْهُ فِيمَ قَتَلَنِي"، فبرغم كل هذه النصوص وأضعافها، إلا أننا نجد في هذه الأوقات تجاسرًا مخيفًا وجرأة مفزعة على ولوج هذا الباب، ويكون الأمر أخطر وأفظع إذا كان التهييج والإثارة على ذلك تتم باسم الدين، ولما كانت النفوس السوية تستقبح القتل أشد الاستقباح، كان البحث عن مسوغ أمرًا لابد منه، وربما كان البحث عن مسوغ يحدث لا شعوريًّا للتخلص من لوم النفس وتأنيب الضمير، ويأتي في مقدمات المسوغات لهذه الفعلة الشنيعة رمي المخالف بالكفر والردة؛ فيسهل على النفس قبول ذلك بل الفرح بذلك والعياذ بالله، ولما كان مِن كمال هذه الشريعة أنها تسدُّ الذرائع المفضية إلى الجرائم، نجدها قد حذرت من التكفير، بل وجعلتها جريمة من الجرائم ولكن ورغم ذلك إلا أننا نعيش الآن حالة محمومة من الجرأة على التكفير واستباحة الدماء، ومما يزيد الأمر فتنة وتعقيدًا أن يكون الأمر باسم الدين.

 ونحن في هذه الأسطر بإذن الله نجري حوارًا مفتوحًا مع دعاة الصدام، نتناول فيه دوافعهم ومسوغاتهم ونناقشها بالدليل من الكتاب والسنة إن شاء الله تعالى:

فأول مسوغ تسمعه: نحن مظلومون والمظلوم من حقه أن يثأر لنفسه.

والجواب على ذلك من وجوه:

أولًا: إذا وقع الظلم على إنسان -لنفترض أنك مظلوم- فقد جعل الشرع شروطًا للمظلوم كي ينتصر حتى لا تزداد مظلوميته وحتى لا يتحول الأمر إلى فتنة تأكل الجميع، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وذلك أن المظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾ (الشورى: 41)، فذلك مشروط بشرطين:

أحدهما: القدرة على ذلك.

والآخر: ألا يعتدي.

فإذا كان عاجزًا أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد، لم يجز، وهذا هو أصل النهي عن الفتنة.

ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة، فإما أن يأمر بهما جميعًا أو ينهى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يأمر وينهى ويصبر عن الفتنة كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ (لقمان: 17)، فانظر كيف وضح الأمر وأن هذا هو أصل النهي عن الفتنة.

ثانيًا: إن شعورك بأنك مظلوم أحرى بأن يدفعك لأن تترك الظلم وقد جربت مرارته وتضبط نفسك في أفعالها حتى لا تصيب أحدًا ظلمًا، بدلًا من أن تفقد صوابك وتنادي بالقصاص والقتل لفئات بأكملها، إن وجود المظالم من أفراد ينتمون لطائفة لا يبيح لك عقاب الطائفة كلها، فضلًا عن استباحة دمائها جملة فإن ذلك لا يكون إلا بالكفر الذي لا عهد معه؛ (أي: الكافر المحارب الذي ليس بينه وبين المسلمين عهد ولا ذمة ولا أمان)، يقول شيح الإسلام: "وبخلاف الكفر الذي لا عهد معه، فإنه يجوز الاستيناء بقتل أصحابه بالجملة"، إن وجود بعض المظالم من أناس ينتمون لكيان ما، لا يبيح لك دماءها جملة ولا أموالها، فضلًا عن أن نراك تريد أن تعاقب شعبًا بأكمله كما سنبين ونرد إن شاء الله، لكن وللأسف يبدو أن الكثيرين صار شعارهم شعار ذلك الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم إذ يقول:

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ثالثًا: إن المسلم مهما بلغ فساده وانحرافه لا يكون هذا مسوغًا لقتله ولا لتدمير أمواله، فالإسلام يحفظ له ذلك.

رابعًا: إن العبد ليتعجب أشد العجب، ودعني أعرض ذلك العجب في صورة سؤال وهو: ألم تتعرضوا، بل والشعب كله، للظلم في عهد مبارك؟! ألم يسجن الآلاف بغير حق؟! ألم تكن هناك محاكمات عسكرية؟! ألم تقتل أعداد بغير حق؟! لماذا كان حينها الصوت العالي هو صوت الإنكار على من اختار الصدام طريقًا، واشتد الإنكار حينها على الجماعة الإسلامية؟! وغيرها ممن اختار ذلك وانتهى الأمر بالمراجعات، ولكن بعد أن دفعت أبهظ الأثمان، لماذا تصرون أن تلدغوا ويلدغ الجميع معكم من نفس الجحر مرات و مرات؟!

عود على بدء

ومن مسوغات القوم أيضًا لاختيار الصدام، وهذا من الشُبَه التي انتشرت مؤخرًا، قولهم أن هذا الجيش جيش مرتد والعياذ بالله، وتتنوع مسالكهم في ادعاء ذلك تبعًا لمدى انحرافهم ودرجة غلوهم في التكفير؛ فمنهم من يقول: هم كفار؛ لأنهم ينصرون ويتجندون لنظام كافر فإذا ما سألته لماذا تكفره قال لك نظام قاتلنا وقتل إخواننا ودمر وحرق، فيقال لهم: وهل نسيتم التاريخ؟ ماذا فعل الصراع على السلطة بأهله؟ ألم يُبِد العباسيون الأمويين فما رأينا السلف قالوا جيش كافر؟! ألم تقذف مكة بالمنجنيق فأين فتاوى السلف بتكفير الجيش الذي فعل ذلك؟! ألم يقتل الحسين حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ابن الزبير بل ويصلب ابن الزبير وغيرهم من أفضل الصالحين عبر التاريخ، فما رأينا من يقول بتكفير الجيوش التي فعلت ذلك! سبحان الله! هل صرتم كالأنبياء؛ من قاتلهم كفر؟! لماذا تجعلون من يقاتلكم أو يخالفكم كافر؟ أليس من الممكن أن يكون الصراع صراعًا دنيويًا محضًا من أجل منصب أو غيره لا علاقة له بالدين، فضلًا عن أن يكون هناك تأويل يراك بسببه ستجر البلاد إلى الانشقاق والانهيار؟ يا أخي إذا كان العلماء لم يكفروا من تجند للدولة الفاطمية التي يقول فيها الغزالي: "ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض"، ويعلق شيخ الإسلام على ذلك فيقول: "وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم متفق عليه بين علماء المسلمين"، انظر رغم فظاعة شأن الفاطميين لكن لم يكفر العلماء من تجند لهم، يقول ابن حزم رحمه الله مبينًا ذلك: "وليس كذلك؛ (أي: ليس كافرًا) من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية؛ ومن جرى مجراهم؛ لأن أرض مصر والقيروان، وغيرهما، فالإسلام هو الظاهر، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام، بل إلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا".

ومنهم من يقول هم مرتدون؛ لأنهم لا يطبقون شرع الله، وقبل الرد أذكرك كذلك بحال الدولة الفاطمية التي كان من حكامها من ادعى الألوهية أو ادُّعيت له فهل كفر العلماء أهل مصر حينها؟

أما الجواب عن تلك النقطة تحديدًا، وهي أنهم لا يطبقون الشرع  فدعنا نسأل سؤالين:

الأول: هل دستور مصر كدستور تركيا مثلًا؟ وإذا كانت الإجابة بلا؛ فأيهما أفضل؟ وإذا كانت الإجابة بأن دستور مصر هو الأفضل، بل في الحقيقة لا وجه للمقارنة أصلًا، فلِمَ هذا التناقض البيِّن؟! ففي الوقت الذي تصف فيه تركيا بأعلى النعوت تصف مصر بأسوأ الأوصاف فهل هذا هو العدل؟! أليس من العجب العجاب أن ترى أناسًا لا يرون أكثر مما هو أسفل أرجلهم؟! فلو قلَّب أحدهم بصره حوله لوجد تركيا لا تبيح البغاء فحسب؛ بل تحميه شُرطتها ويقف جنودها حماة لا للدين ولكن لتلك البيوت القذرة التي للأسف حصلت على ترخيص بالبغاء.

أما السؤال الآخر فهو: ما الجديد بالنسبة للدستور ما بين عهد مرسي والآن في قضية الشريعة؟ أليست المادة هي هي؟! إن من المؤلم حقًّا عندما واجهت إحدى المذيعات أحد رموز الإخوان على إحدى القنوات فكانت إجابته أن هذا الدستور الجديد لو كان فيه القرآن أو صحيح البخاري فلن يقبله؛ لأن الشعب لم يختاره .. فهل ما قاله ذلك الرجل هو الشرع؟! بل هل هذا من الدين في شيء؟! أم أنها الصورة المطابقة للمفهوم الغربي للحياة والعياذ بالله؟!

سبحان الله .. كيف تتجرءون على الحكم بذلك في حين ينص دستور البلاد على مرجعية الشريعة ويلزم بتعديل كل قانون يخالفها؟!

ومنهم من يكفره ويقول: إنه والى أعداء الله، وتلك شبهة يتوصل بها كل من أراد أن يكفر أحدًا، حتى إنهم يستخدمونها لتكفير الدعاة!

بداية .. لابد من التنبيه على أمور

أولًا: ليس كل تعامل مع الكفار يكون موالاة؛ بل من يطالع كلام أهل العلم يجد أن هؤلاء المتهورين لو طالعوا ذلك لكفروا العلماء السابقين، بل الأئمة، يقول ابن قدامة رحمه الله وهو يذكر الخلاف بين العلماء إذا خلَّى الكفار سبيل الأسير المسلم واشترطوا عليه أن يبعث إليهم مالًا أو يعود إليهم فهل يعطيهم المال إذا أطلقوه؟ وإن عجز، فهل يرجع إليهم إن كان رجلًا، شريطة أن يكون هذا الاتفاق بدون إكراه للمسلم؟ فيقول مبتدءًا بذكر كلام الخرقي ثم يعلق عليه ويشرحه: مسألة، قال: "وإذا خلي الأسير منا، وحلف أن يبعث إليهم بشيء يعينه أو يعود إليهم، فلم يقدر عليه، لم يرجع إليهم".

وجملته: أن الأسير إذا خلَّاه الكفار، واستحلفوه على أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم، نظرت، فإن أكرهوه بالعذاب، لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء؛ لأنه مكره فلم يلزمه ما أكره عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وإن لم يكره عليه، وقدر على الفداء الذي التزمه، لزمه أداؤه، وبهذا قال عطاء والحسن والزهري والنخعي والثوري والأوزاعي.

وقال الشافعي، أيضًا: لا يلزمه؛ لأنه حر لا يستحقون بدله، ولنا قول الله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾، ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على رد من جاءه مسلمًا؛ وفَّى لهم بذلك، وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر"؛ ولأن في الوفاء مصلحة للأسرى، وفي الغدر مفسدة في حقهم، لأنهم لا يؤمَنون بعده، والحاجة داعية إليه، فلزمه الوفاء به، كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة، ولأنه عاهدهم على أداء مال؛ فلزمه الوفاء به، كثمن المبيع، والمشروط في عقد الهدنة في موضع يجوز شرطه، وما ذكروه باطل بما إذا شرط رد من جاءه مسلمًا، أو شرط لهم مالًا في عقد الهدنة، فأما إن عجز عن الفداء، نظرنا، فإن كان المفادى امرأة، لم ترجع إليهم، ولم يحل لها ذلك لقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾، ولأن في رجوعها تسليطًا لهم على وطئها حرامًا، وقد منع الله تعالى رسوله رد النساء إلى الكفار بعد صلحه على ردهن في قصة الحديبية، وفيها: فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن، رواه أبو داود وغيره، وإن كان رجلًا، ففيه روايتان: إحداهن: لا يرجع أيضًا، وهو قول الحسن والنخعي والثوري والشافعي؛ لأن الرجوع إليهم معصية، فلم يلزم بالشرط، كما لو كان امرأة، وكما لو شرط قتل مسلم، أو شرب الخمر.

والأخرى: يلزمه، وهو قول عثمان والزهري والأوزاعي ومحمد بن سوقة لما ذكرنا في بعث الفداء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد قريشًا على رد من جاءه مسلمًا، ورد أبو بصير وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر"، وفارق رد المرأة، فإن الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم، حين صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا على رد من جاءه منهم مسلمًا، فأمضى الله ذلك في الرجال، ونسخه في النساء، وقد ذكرنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه تقدمت".

وبغض النظر الآن عن تحقيق الراجح في المسألة، ولكن انظر إلى أي حدٍّ وصل الكلامُ، وهذه كتب مدونة أيام وجود خلافة للمسلمين .. لا أستريب أن هؤلاء لو سمعوا شيئًا من ذلك لكفروا قائله، ويقول في موطن آخر: "والشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين: صحيح؛ مثل: أن يشترط عليهم مالًا أو معونة المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلمًا أو بأمان، فهذا يصح، وقال أصحاب الشافعي: لا يصح شرط رد المسلم، إلا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في صلح الحديبية، ووفَّى لهم به، فرد أبا جندل وأبا بصير، ولم يُخص بالشرط ذا العشيرة، ولأن ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه؛ فهو كمن لا عشيرة له، لكن لا يجوز هذا الشرط إلا عند شدة الحاجة إليه، وتعين المصلحة فيه، ومتى شرط لهم ذلك، لزم الوفاء به؛ بمعنى أنهم إذا جاءوا في طلبه، لم يمنعهم أخذه، ولا يجبره الإمام على المضي معهم، وله أن يأمره سرًا بالهرب منهم، ومقاتلتهم، فإن "أبا بصير" لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الكفار في طلبه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا يصلح في ديننا الغدر، وقد علمت ما عاهدناهم عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجًا ومخرجًا؛ فلما رجع مع الرجلين، قتل أحدهما في طريقه، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ قد أوفى الله ذمتك؛ قد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلمه، بل قال: ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال، فلما سمع ذلك أبو بصير، لحق بساحل البحر، وانحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة، فجعلوا لا تمر عليهم عير لقريش إلا عرضوا لها، فأخذوها، وقتلوا من معها، فأرسلت قريش، إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، أن يضمهم إليه، ولا يرد إليهم أحدًا جاءه، ففعل؛ فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار ويأخذوا أموالهم، ولا يدخلوا في الصلح، وإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار، دخلوا في الصلح، وحرم عليهم قتل الكفار وأموالهم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي هاربًا من الكفار، يرسف في قيوده، قام إليه أبوه فلطمه، وجعل يرده، قال عمر: فقمت إلى جانب أبي جندل، فقلت: إنهم الكفار، وإنما دم أحدهم دم كلب، وجعلت أدني منه قائم السيف لعله أن يأخذه فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه.

الآخر: شرط فاسد، مثل: أن يشترط رد النساء، أو مهورهن، أو رد سلاحهم، أو إعطاءهم شيئًا مِن سلاحنا، أو مِن آلات الحرب، أو يشترط لهم مالًا في موضع لا يجوز بذله، أو يشترط نقضها متى شاءوا، أو أن لكل طائفة منهم نقضًا، أو يشترط رد الصبيان، أو رد الرجال، مع عدم الحاجة إليه.

فهذه كلها شروط فاسدة، لا يجوز الوفاء بها.

بل قصة استقبال النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لوفد نصارى نجران في المسجد وتركه لهم ليصلوا صلاتهم في المسجد معروفة فعلم، فكان دليلًا واضحًا على أن تركهم يؤدون شعائرهم ليس معناه الرضا بما هم عليه.

ثانيًا: ليست كل صور الموالاة تكون كفرًا وهذا خط فارق بين السلفيين وأهل الغلو الذين عندهم كل الموالاة كفر.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة التي كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عن عدوه, وكتمها عن أصحابه, وهذا من الذنوب الشديدة جدًّا, وكان يسيء إلى مماليكه.

وفي الحديث المرفوع: "لن يدخل الجنة سيء الملكة".

ثم مع هذا لما شهد بدرًا والحديبية غفر الله له ورضي عنه, فإن الحسنات يذهبن السيئات".

ويقول كذلك: "إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾، وقال: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾، وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرًا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾، وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك. فقال: لسعد بن معاذ: كذبت والله؛ لا تقتله ولا تقدر على قتله؛ قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية. ولهذه الشبهة "سمى عمر حاطبًا منافقًا، فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه شهد بدرا" فكان عمر متأولًا في تسميته منافقًا للشبهة التي فعلها، وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة؛ كذبت لعمر الله لنقتلنه؛ إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين؛ هو من هذا الباب، وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم: منافق وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين، ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعًا واحدًا، بل فيهم المنافق المحض؛ وفيهم مَن فيه إيمان ونفاق؛ وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق".

ومنهم مَن يستبيح الدماء لا للكفر ولكن بفتاوى لا تمت للعلم الشرعي بصلة فمن أعجب تلك الفتاوى أنهم يقاتلون الجيش والشرطة من باب دفع الصائل ويستبيحون في ذلك حرق عربات الشرطة وغيرها مما هي بالأساس أموال الشعب في الحقيقة ولا أدري بماذا أصف هذا الجنوح الفظيع عن صحيح هذا الدين العظيم، فإن المعلوم لمن له أدنى قراءة في تلك الأبواب أن دفع الصائل إنما يكون لمن أتى يعتدي عليك ولم تجد بدًّا مِن دفعه إلا بذلك، لا أنك أنت الذي تسعى إلى مواجهته، ثم إنه بعد تقرير أنه صائل إنما يدفع فلابد وأن يدفع بالأسهل لا أن يكون ابتداءً كتأصيل الدفع بالقتل والحرق هذا أصلًا إذا كان هناك صائل مع اعتبار أن يكون هناك إمكانية للدفع إذ القدرة من شروط التكليف كما هو معلوم للجميع.

أما آن الوقت لأصحاب تلك الفتاوى أن يتقوا الله في الشباب، من المستفيد من إلقاء الشباب في هذه المحرقة؟ ما الذي سنجنيه عندما يتقاتل المسلمون على هذا النحو؟

دعونا نقولها صريحة: إن البعض قد يكون لبنة في خطة الأعداء وهو لا يشعر، إن البعض يُستخدَم لإسقاط بلاده وإفقارها وانقسامها وهو لا يدري وربما يدري، ودعني أقول كما قال الشاعر:

إذا كنت ما تدري فتلك مصيبة *** وإنْ كُنتَ تدرِي فالمصيبةُ أعظَمُ

ومن أبشع شبهات القوم أيضًا في التفجير أنهم يقولون: الشعب الذي اختار فلانًا يستحق أن يفعل به كذا وكذا، وهذا انحراف فاق كل انحراف، هب أن الناس أخطئوا، بل هب أنهم كانوا فسقة، أيبيح ذلك أموالهم ودماءهم، إن المسلم مهما ارتكب من آثام وأوزار لا يعني ذلك حل دمه أو ماله، وهكذا يظهر بجلاء تام كيف أدى إهمال العلم الشرعي، بل معاداته والتسفيه من شأن التعلم إلى انحراف فاق انحراف الخوارج؛ فالخوارج ما استباحوا دم ولا مال إلا من رأوه كافرًا، أما الآن فأنت ترى البعض ربما لا يكفر ولكنه في الوقت ذاته لا يحجزه ذلك عن استهداف دماء أو أموال مَن يراهم مسلمين، وكأنه لم يخطر بباله أنه مسئول عن ذلك بين يدي من لا تخفى عليه خافية، ولا أدل على ذلك من استهداف أماكن عامة؛ كمركز مدينة مثلًا أو قطارات أو أبراج كهرباء، ثم ترى أحدهم عندما يسأل عن ذلك يقول: "الشعب الذي اختار فلانًا يستحق كذا وكذا" في مناقضة صارخة لبدهيات هذا الدين.

أين أنت من الرسول صلى الله عليه وسلم حين يأتيه ملك الجبال ويقول: لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين فيقول: عسى الله أن يخرج مِن أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا.

عن من يرفض الرسول إنهم كفار مكة الذين آذوه وساموا أصحابه سوء العذاب ومرة أخرى في قصة ثمامة رضي لله عنه، والمفجع حقًّا أن ترى من يصفون كل ذلك بأنه جهاد شرعي وأن من قتل أثناء محاولة تفجير أبراج الكهرباء شهيد قضى نحبه في سبيل الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أيكون تدمير أموال العامة وانتهاك حرماتهم جهادًا؟ أيكون المحرم الممنوع في فقه هؤلاء مثوبة ومرضاة لرب العالمين؟ كفاكم إساءة لتلك المصطلحات الشريفة .. كم جنيتم أنتم وغيركم على ذلك المصطلح الشريف مصطلح الجهاد؟

إن أقل طلاب العلم تحصيلًا يعلم أن الجهاد الشرعي له صراطه وسبيله وله كذلك شروطه:

فمن شروط الجهاد التي يعلمها الجميع أن يكون الطرف الآخر مستحقا للقتال وليس كل من أراد قتال آخر زعم أن ما يقوم به جهاد في سبيل الله تعالى.

والشرط الثاني: القدرة على ذلك، وإلا فعلى سبيل المثال لو أنك سألت أهل فلسطين لماذا لا تميلون على الإسرائيليين ميلة واحدة فتحرروا بلادكم؟ لكان الجواب منهم: إننا عاجزون، بل أوضح من ذلك، أيتصور أحد أن يفتي عالم الآن بوجوب تحرير بلاد الأندلس مثلًا؟! فالكل يعلم أنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا.

 

ضيق الأفق مأساة التيارات الصدامية

منذ سنوات طويلة ونحن نسمع من التيارات الصدامية ما يدل على ضيق أفق شديد، ما زلت أذكر عندما كانوا يقومون بعملياتهم تلك أيام حكم مبارك فكان ينكر عليهم إراقة الدماء بغير حق، ويبين لهم أنهم إنما يسيرون في طريق الهلاك لأنفسهم لا غير، كانت نظرية الكلب والبراغيث هي الجواب المتفق عليه بينهم، تلك النظرية التي مفادها أن البراغيث رغم صغرها وضعفها فهي تؤلم الكلب، انظر إلى الأدلة لا كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا غيره، المهم انظر إلى ضيق الأفق؛ ألا يدري هؤلاء أن أقصى ما تفعله البراغيث هو فقط إغاظة الكلب وإيلامه؟ ولكن هل يتصور أن يلتهم البراغيث الكلب أو يموت الكلب من قرص البراغيث؟ أما فكروا ماذا ستكون النتيجة لو نزل الكلب إلى النهر ما مصير تلك البراغيث؟ وقد كان، لما استعمل شيء من القوة المفرطة كان ما كان قتل من قتل ووصل عدد المعتقلين في نهاية الأمر إلى آلاف.

أما آن لهؤلاء أن يفيقوا، انظر إلى ما قاموا به في سيناء مؤخرًا في 30 يونيو الماضي عندما نسوا أنفسهم وهاجموا عدة كمائن وخرجوا من مخابئهم، انظر كيف كان قتلهم أشبه ما يكون بعملية صيد يسيرة حتى أن أحد الجنود قتل وحده اثني عشر واحدًا منهم وفر مَن لم يمت  بعد أن عاين الموت وسجلت الأجهزة صوت استغاثتهم لكثرة جراحاتهم، ألم يدر هؤلاء أن الأعداء يريدونهم هكذا يقومون ببعض الأحداث التي يستغلونها وقتما يشاءون تكئة لهم للتدخل في البلاد حينما يكون التوقيت مناسبًا .. نسأل الله أن يرد كيدهم.

كفاكم عواطف وحماسات متهورة متطرفة أهلكت الكثير مِن الشباب وكلفت البلاد الكثير مِن الأموال و الذي يعود ضرره بالأساس على العامة.

تناقض صارخ يجب أن ينتهي

مَن يتأمل ما يجري بدقة يفجعه ذلك التناقض الصارخ فبينما ترى حماس (الإخوانية) في غزة أن الشرع والعقل يحتمان عدم مواجهة إسرائيل الآن؛ لأنها مواجهة غير متكافئة ستكون سببًا لهلاكهم، ولعلهم مُحِقُّون في ذلك، رغم أن إسرائيل دولة كافرة محتلة غاصبة تنتهك الأعراض والأعراف والعهود والمواثيق ...إلخ، رغم كل هذا فحماس ترى أن الحكمة هي عدم مواجهتها الآن، في الوقت ذاته وبمجرد أن تعبر الحدود وتصير في مصر تسمع منهم (الإخوان) أن مواجهة الجيش االمصري فرض عين، وأن من لا يفعل ذلك خائن عميل منافق جبان، ولابد للجميع وأن يواجهوا ولو بصدور عارية كما يقولون، فلا أدري إن لم يكن هذا مثالًا صارخًا على التناقض بل واتباع الهوى؛ فأين اتباع الهوى إذن؟

يا قوم عودوا إلى رشدكم .. لا تنفخوا نارًا ستحرقكم قبل غيركم .. راجعوا دينكم .. تأسوا بنبيكم .. أدركوا ما تبقى منكم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة