السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الولاء والبراء -1

أتوا بتوحيد الربوبية لكنهم أشركوا في توحيد الألوهية بمعنى أنهم عبدوا الله وعبدوا معه غيره ولهذا استثنى إبراهيم ـ عليه السلام ـ

الولاء والبراء -1
عبد المنعم الشحات
الاثنين ٠٧ سبتمبر ٢٠١٥ - ١٥:٣٢ م
2102

الولاء والبراء (1)

عبد المنعم الشحات

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهديه  الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم أما بعد:

فما زلنا في الكلام على باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وذكرنا أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : قد أشار في هذا الباب إلى أشهر أنواع الشرك وقوعًا على ظهر الأرض وأشار بالآية الأولى إلى شرك الغلو في الصالحين وقد انتهينا من الكلام عليها وذكرنا بشيء من التفصيل الكلام على التوسل: المشروع منه وغير المشروع.

وأما الآية الثانية التي أوردها المصنف في هذا الباب فهي قوله  ـ عز وجل ـ  ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف:26-28]  يقول في «فتح المجيد»: «قال ابن كثير: «يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: هذه الكلمة».

الكلمة التي قالها إبراهيم  ـ عليه السلام ـ  وهي معنى قول: «لا إله إلا الله» أي: أنه إما قال: «لا إله إلا الله » أو ما يقوم مقامها.

فقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ نفس القضية في «لا إله إلا الله» براءة من كل الآلهة التي يعبدونها إلا الله لأنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره ولذا قال: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ أي: من كل الذي تعبدون.

ولما كان هذا يشمل كل آلهتهم وهم يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة استثنى فقال: ﴿ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وهذا استثناء لله  ـ سبحانه وتعالى ـ  بفعل من أفعاله وصفة من صفاته وهي الخلق بناء على القاعدة المعروفة وهي أن الأنبياء كانوا يحتجون على أقوامهم بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية.

ولذا قال هؤلاء الآلهة أنتم تعبدونهم جميعًا ومنهم واحد فقط تنسبون إليه الخلق والإيجاد والتدبير ولذا فهو الذي يستحق أن يعبد.

فلذا قال: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ من كل هذه الآلهة إلا من يستحق العبادة وهو الذي فطرني.

قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً﴾

الكلمة في لغة العرب تعني الجملة بخلاف اصطلاح النحويين المتأخرين حينما اصطلحوا على أن الكلمة هي الكلمة المفردة وهذا لا يعرف في كلام المتقدمين من العرب، وإنما العرب يسمون الجملة المفيدة – كما هو الاصطلاح عند النحويين- كلمة، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم». فقوله: «سبحان الله وبحمده» كلمة وقوله: «سبحان الله العظيم» كلمة أي: جملة مفيدة [على اصطلاح النحويين] 

فجعل إبراهيم  ـ عليه السلام ـ  هذه الكلمة التي قالها – وهي قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾- [باقية في عقبه لعلهم يرجعون].

يقول: «وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي: «لا إله إلا الله» جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم  ـ عليه السلام ـ ».

جعل الله  ـ عز وجل ـ   في ذرية إبراهيم  ـ عليه السلام ـ  من يقوم بهذه الكلمة.

يقول: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: إليها.

قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها»

وهذه هي الكلمة التي قالها قبلُ لأن الضمير عائد على الكلمة وهي ¬﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ وهي بعينها: «لا إله إلا الله».

يقول:«وروى ابن جرير عن قتادة ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ كانوا يقولون: «الله ربنا» ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ فلم يبرأ من ربه».

فهؤلاء كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق وكانوا يعبدونه ويعبدون معه غيره كما هو حال مشركي قريش وغيرهم من المشركين، أتوا بتوحيد الربوبية لكنهم أشركوا في توحيد الألوهية بمعنى أنهم عبدوا الله وعبدوا معه غيره ولهذا استثنى [إبراهيم  ـ عليه السلام ـ .]

قال:  ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ فهؤلاء كانوا أيضًا من جملة هؤلاء الذين إذا سئلوا عن الخالق قالوا: «الله ».

«فلم يبرأ من ربه»

لأنه لو قال ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ وسكت وهم يعبدون الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  فكان لا بد أن يستثني حتى لا تكون الكلمة شاملة للبراءة من الله  ـ سبحانه وتعالى ـ .

يقول: «رواه عبد بن حميد، وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال: «الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده».

قلت: [أي: الشارح] «فتبين أن معنى «لا إله إلا الله» توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه.

قال المصنف :: «وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله»

وفي هذا يقول العلامة الحافظ ابن القيم : في «الكافية الشافية»:

وإذا تولاه امرؤ دون الورى *** طرًا تولاه العظيم الشان

فهذا ما ذكره في «فتح المجيد» فيما يتعلق بشرح هذه الآية وهذه من المواطن التي لم تستوفى في «فتح المجيد» بذكر فروعها مما يحتاجه الناس لا سيما وقد كثرت الشبهات في هذه القضية وتداخلت الأمور بعضها في بعض ولذا ناسب أن يفصل هذه القضية هنا في «فضل الغني الحميد» ومن ثم فقد يطول عهدنا حتى نعود إلى الآية الثالثة في الباب لأن التعقيب الموجود في «فضل الغني الحميد» طويل بحيث أنه يستوفي القضية من جميع وجوهها فمن الآن فصاعدًا سيكون الكلام في تناول هذه القضية من التعليق الموجود في «فضل الغني الحميد» أو من التفصيل الموجود لهذه القضية في هذا الكتاب.

والواقع أن هذا الجزء الموجود في «فضل الغني الحميد» قد يغني عن كثير من المؤلفات الأخرى المتخصصة في هذه القضية لما فيه من الجمع لهذه القضية ويبقى كما أشرت في أول كلامي هنا أن قضية الولاء والبراء شأنها شأن سائر قضايا التوحيد حيث كثرت أدلتها في الكتاب والسنة ومن ثم فإن هذا الإطار الذي سنتكلم فيه إن شاء الله من كتاب «فضل الغني الحميد» إطار جامع للمسائل التي يمكن أن نحتاجها وإن كان يمكن لكل جزئية منها أن تسرد لها أدلة أكثر من الأدلة المذكورة بعشرات المرات لكثرة الأدلة المذكورة لهذه القضية في الكتاب والسنة، ولكن تكفي الإشارات إلى بعض هذه الأدلة.

يقول:

قال في «الفضل»: «إن قضية الولاء والبراء ركن من أركان التوحيد ومقتضى كلمة لا إله إلا الله وقد كثر بيانها في القرآن والسنة شأنها شأن كل قضايا العقيدة وكثر بيان أحكامها ولوازمها وما يترتب عليها في الدنيا والآخرة.

ونعني بالولاء: الموالاة الواجبة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولازمها حرمة الموالاة للكافرين.

ونعني بالبراء: التبرؤ من الشرك وأهله وعداوتهم وبغضهم، قال تعالى مبينًا حرمة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وأن من والاهم يكون منهم».

أي أنه يسرد بعض الأدلة في بيان أهمية هذه القضية بصفة عامة وعلاقتها بتفسير لا إله إلا الله ثم بعد ذلك يهمنا تفصيل وداخل كل تفصيل تفصيل آخر – يهمنا تفصيل صور الموالاة  لأن هذه الكلمة من الكلمات التي يندرج تحتها كثير من الصور الجزئية والذي يهمنا هنا هو التفصيل والتفصيل موجود أيضًا داخل كل صورة من الصور كأن نقول: الحب والنصرة ونحو ذلك نتكلم أيضًا عن أربع صور داخل كل صورة فمثلًا الحب فعندنا الحب وعكسه البعض ونتكلم عن صرف كل واحد منها للمؤمنين أو للكافرين فنقول:

-        حب المؤمنين من الإيمان

-        بغض المؤمنين ليس من الإيمان أو مما يقدح في الإيمان

-        حب الكفار مما يقدح في الإيمان

-        بغض الكفار من الإيمان.

فنتكلم عن كل قضية وما يضادها وصرفها للمؤمنين وصرفها للكافرين، فبذلك يوجد أربع صور في كل صورة جزئية من صور الموالاة: صورة الموالاة وما يضادها من المعاداة وصرفها للمؤمنين وصرفها للكافرين وبهذا التفصيل يمكن أن تتداخل بعض الصور في بعضها إذ يكون بينها جزءًا من بيان الأخرى ولكن هذا هو الأتم حتى تستحضر هذه الصورة في الذهن فيعرف حكم كل صورة من هذه الصور الأربع.

والأهم من ذلك أن الذي نذكره ربما كان مناسبًا في الوعظ وتكوين المعاني الإيمانية لكن هناك مسائل مهمة جدًا ما دمنا نتكلم في العقيدة أو نتكلم في أمر يمس «لا إله إلا الله» أننا ذكرنا فيما يتعلق بأبواب شرك الإلهية وقلنا أن الموضوع لا يتعلق بشرك الإلهية بل الصورة العامة أننا نقول أن الإيمان بعض وسبعون شعبة وأن الأصل وأن له أصل وله كمال وأن الذي ينافي الأصل هو  الكفر الأكبر وأن الذي ينافي كماله الواجب هو الكفر الأصغر.

فمهم جدًا أنني حينما أتكلم عن معنى من معاني الإيمان أن أبين ما الذي يدخل منه في أصل الإيمان؟ وما الذي يدخل منه في كمال الإيمان الواجب؟ وبالتبع ما يضاده وهو بيان ما يدخل في الكفر الأكبر وما يدخل في الكفر الأصغر لأن هذه القضايا كما ذكرنا بين الإفراط والتفريط فتجد البعض يغفل معرفة هذه القضايا فيخلط ويأتي بالباطل ويسوغ موالاة الكافرين، وفي المقابل تجد أن بعض الناس يعتبر أي مخالفة لما ذكر في كتب العقيدة أنها كفر أكبر مخرج من الملة ويرتب على ذلك أحكامًا مع أن القضية ليست كذلك وقد بينا بصفة عامة أن الإيمان له أصل وله كمال وأن هناك بعض الأمور تنافي أصل الإيمان وبعضها ينافي كماله، فالصور الكثيرة التي يصدق عليها اسم الموالاة بعها يدخل في أصل الإيمان وبعضها يدخل في كماله فكل صورة من صور الموالاة كالحب فإن بعضه يدخل في أصل الإيمان وبعضها يدخل في كماله وكذلك النصرة بعض صورها يدخل في أصل الإيمان وبعضها يدخل في كماله وكذلك قضية التشبه بالكافرين فبع صوره كفر أكبر وبع كفر أصغر وهكذا...

فعند دراسة هذه القضية كان لا بد من العناية بهذا التفصيل ولذا فإن كثيرًا من المؤلفات المعاصرة انتقد عاليها بالرغم من أنها مؤلفات متخصصة إلا أنها سلكت المسلك الخطابي في تقرير القضية وهذا لا يصلح في بحث متخصص في مسألة، فمثل هذه القضايا لا يصح  للباحث أن يسلك فيها مسلكًا خطابيًا كقضية التوسل فلا يصح أن يؤتى في كل أنواع التوسل المشروع في بوتقة واحدة بالذات مع ما نشاهده ونراه من وجود الغلو والتسرع في التكفير، فمن المهم حينما نتكلم عن مخالفة أن نقرر عظم المخالفة في كل درجاتها وأنها كلها مخالفة لكن لا بد - على الأقل فيما يتعلق بطلبة العلم- من تقرير درجة كل مخالفة وما يعتبر منها مخرجًا من الملة وما لا يعتبر كذلك إلى غير ذلك من الصور.

فهذا هو الإطار الذي نتكلم فيه: [بيان]  أهمية هذه القضية بصفة عامة كتقرير عام للقضية ثم نخصص تخصيصًا داخل تخصيص بمعنى أن نتكلم عن صور الموالاة وفي داخل كل صورة توجد أدلة خاصة بهذه الصورة مدحًا وذمًا، مدحًا في صرف هذه الصورة للمؤمنين وذم منع المؤمنين من هذه الصورة وذم إعطاء هذه الصورة من صور الموالاة للكافرين إلى غير ذلك ثم تفصيل ما يتعلق بأصل الإيمان وما لا يتعلق في كل صورة من هذه الصور.

وقد ألحق هنا الكلام على قضية الموالاة ببحث في الإكراه وشروطه لأن هذه القضية من أكثر القضايا التي يدعى فيها الإكراه ومن المعتاد أننا نجد بحث الإكراه في كتب الأصول وافيًا بصفة أصلية وفي كتب الفقه أيضًا ومن النادر أن نجد الكلام على الإكراه في كتب العقيدة مع أنها مسألة نتيجة أن هناك مسائل كثيرة يدعى فيها الإكراه فلا بد من بيان.

ونتيجة لأن الإحالة غير مناسبة لهمم طلاب العلم في زماننا بأن تحيله على مراجعة  بحث الإكراه وشروطه المعتبرة في كتب الأصول لذلك أدرج هنا خلاصة بحث الإكراه وما يعتبر منه وما لا يعتبر  وألحقه بقضية الموالاة لأنه قد جاء الاستثناء في الآية ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: 28] فكان لا بد من تبين حدودها، ولأن هذه القضية بالفعل من أكثر القضايا التي يدعى فيها الإكراه.

بل إن كثيرًا من قضايا العقيدة يدعى فيها الإكراه فكان لا بد هنا من بيان ما يصلح إكراهًا وما لا يصلح مع الأخذ في الاعتبار وهذه مسألة سنزيدها بيانًا إن شاء الله أن أمرًا معينًا لا يصلح أن يكون إكراهًا ولكن لو توهم البعض أنه إكراه احتمل أن يكون هذا عذرًا مانعًا من التكفير فهو ليس بمكره لكنه فعل هذا الفعل متوهمًا أنه مكره فيراعى هذا العذر حتى تقام عليه الحجة، ولذلك ربما يحدث أحيانًا نوع من اللبس لدى السامع أو القارئ حينما ينقل كلام في نقد شبهة فلا بد أن تبين هذه الشبهة مع بيان حدود الإكراه المعتبر شرعًا لكن لو كانت لديه شبهة في كونه يظن نفسه مكرهًا وقام الدليل بالفعل على أنه يمكن أن يكون كذلك فهذه قد تكون شبهة مانعة من التكفير كما سيأتي.

إذن هو يبدأ بذكر بعض الأدلة المجملة في بيان أهمية هذه العقيدة يقول:

«قال تعالى مبينًا حرمة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وأن من والاهم يكون منهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51]

إن قضايا الوعظ تجد فيها هذه العبارات التي تحوي نوعًا من أنواع الترهيب الشديد ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ ثم تأتي الأدلة بعد ذلك لتبين هذا التفصيل كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من تشبه بقوم فهو منهم» يقول شيخ الإسلام أن ظاهر هذه الآية وهذا الحديث أن من تشبه بهم في أي شيء يكون منهم وأقل أحواله أنه يدل على تحريم التشبه بهم.

ثم يقول ما ملخصه أن المسألة أنه إذا تشبه بهم بما كفر أو شعار للكفر وإلا كان معصية.

كذلك قوله هنا ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ يحتمل أن يكون منهم بالكلية ويحتمل أنه يكون منهم في القدر الذي والاهم به على ما يأتي من تفصيله  من الأدلة.

يقول: «ويخبر سبحانه أن موالاتهم من علامات النفاق ومرض القلب وأنها سبب لحبوط العمل وتستوجب الخسران قال تعالى ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة:52].

هذه هي السبب الرئيسي الذي يجعل بعض المنتسبين إلى الإيمان والإسلام يسارعون في الذين كفروا ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ ويعبر البعض عن ذلك بأنه يتحدث عن نفسه تأمينًا لمستقبله، ويزعم البعض تشدقًا أن مصلحة الأمة فيما يفعله وأن ذلك ليس على أساس البحث عن مصلحة شخصية وإنما بحثًا عن مصلحة الأمة!!.

فهذه هي الآفة الخطيرة عند كل من يسارع في هؤلاء، ولذا ناسب هنا أن نتكلم عن شروط الإكراه المعتبر شرعًا أما مجرد أن يكون الإنسان محبًا لدين الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  حبًا فيه ضعف لدرجة أنه لا يقوى على حبه للدنيا فيسارع في الذين كفروا ويفعل ما يفعل وهو كاره  فهذا حال معظم الخلق، فهذا النوع يتمنى أن لا يحصل تعارض بين دينه ودنياه كابتلاء كل الناس على قلب أتقى رجل واحد، لكن المشكلة الرئيسية توجد عند وجود أو مشكلة بل ربما عند توهم وجودها حين لا يكون هناك تعار حقيقي [فيحيى على ] مجرد وعود وأمانٍ من الشيطان، فيبيع الناس دينهم بسرعة كبيرة لأنه يخشى أن تصيبه دائرة وستأتي قصة الذين خرجوا مع قومهم في غزوة بدر وهم له كارهون وهذه حال معظم الخلق يحارب الدين وهو كاره وفرق كبير بين الكاره والمكروه وإلا فمعظم الناس كارهون لحرب ما يرونه حقًا وهم يعلمون أن هذا حق ولكنه يتمنى أن لا يكون هناك تعار بين دينه ودنياه.

يقول ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ فيخسرون الدين والدنيا لأنهم سارعوا في الذين كفروا طلبًا لدنياهم فيفاجئون بخلاف ذلك.

﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:53-54] فهذا تهديد لهؤلاء الذين وجد في قلوبهم هذا المرض عساهم أن يرجعوا إلى دينهم وأن يطردوا هذه الوساوس الشيطانية من قلوبهم ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة:55]

فهذه الآية دليل على أن المسلم إنما يتولى [المؤمنين] وهذا التولي كما ذكرنا يشمل صورًا منها: الحب والنصرة والتشبه، فالحب لله ورسوله والنصح لله ورسوله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ لا سيما المطيعين منهم وهذا يدل على أن الرجل يجتمع في حقه ولاء وبراء كما يجتمع فيه إيمان وكفر فيجتمع فيه حب وبغض فيحب لأصل إيمانه ويكره لأجل معصيته إن كان عنده معصية، وأما الموالاة التامة فتكون للذين آمنوا ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ من الذين يقيمون دين الله تبارك وتعالى فهؤلاء الذين يجب على العبد أن يحبهم من كل قلبه وأن يتشبه به بهم وأن يكون معاونًا لهم على أمرهم الذي هم فيه من إقامة دين الله تبارك وتعالى.

«وقال سبحانه مبينًا أن موالاة الكافرين لا تكون بحال من الأحوال من صفات المؤمنين وأن من فعلها فقد برئ من الله وبرئ الله منه قال تعالى ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران:28]

لما كان باب التقاة – التقية- باب يمكن أن يكون فيه خيانة للنفس وأن يظن الإنسان أنه معذور وهو ليس بمعذور أو أنه يرى أنه مكرهًا وليس كذلك ناسب هنا أن يكون هناك تحذيرًا شديدًا بعدما استثنى حالة المكره وأنه يمكن له أن يتقي منهم تقاة ناسب هنا أن يحذر حتى لا يختان الإنسان نفسه ويقدم على ما حرمه ربه عليه بدعوى أنه مكره كما ذكرنا.

يقول: «وقد بين  ـ سبحانه وتعالى ـ  أن الإيمان بالله واليوم الآخر ومودة الكافرين - ولو كانوا من أقرب الأقربين- لا يجتمعان في قلب واحد فقال  ـ سبحانه وتعالى ـ  ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:22]

ففي ذكر أقرب القرابات دليل على أن هذه القرابات لها أعظم الحقوق كعلاقة الأبوة والبنوة والأخوة بل هذه الحقوق لا تهدر مع الكفر فيبقى للوالد الكافر حق ويبقى للرحم الكافرة حق ولكن ليس منها المحبة فمن باب الأولى العلاقات التي أقل من ذلك كعلاقة الجيرة والمواطنة وغير ذلك من العلاقات، [ فالله  ـ سبحانه وتعالى ـ ] ضرب مثلًا بعلاقة وثيقة أكد الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  حقها الذي بقي مع وجود الكفر لكن ليس منه المودة والمحبة وإنما الصلة فقط، وهذه قضية سوف تتكرر مع أصناف كثيرة من الكفار - أعظمها الآباء والأبناء- لأن هناك فرق بين الموالاة وبين الصلة وهذا من أصرح الأدلة على أن آكد من له حق الصلة هما أبواه وكذا أبناءه ومع ذلك لا تكون محبة مستقرة في قلب عبد مؤمن [أبدًا] فمتى كان حب الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  تامًا في قلبه فإنه يطرد حب كل من يبغضه الله تبارك وتعالى فلا يجتمع حب أحد مع حب هذا الشخص الذي يبغضه، وكلما عظم حب طرف ما كلما أحببت من يحبه وأبغضت من يبغضه، وهذا في الواقع كما يقول الإمام ابن القيم : أن كثيرًا مما كتبه أهل الدنيا في محبوبيهم من أهل الدنيا لا يليق إلا بالله  ـ سبحانه وتعالى ـ  ولكن صار  ما كتبه أهل الدنيا حتى المحبة الدنيوية وعلاماتها مما يستدل به على شواهد المحبة ، فعلم من كلام المحبين من أهل الدنيا أنه ربما يحب كل شيء يتعلق بمحبوبه، فتجد بكاء الأطلال كما هو الحال عند شعراء العرب وما ذلك إلا لأنه مكان يحل فيه قوم محبوبته ثم رحلوا عنه فلم تتبقى إلا رمال وربما أثر يسير من وتد مهجور أو غير ذلك فيقف يبكى ويسترجع ذكرى الحبيب وهكذا...

فهذا معلوم بالفطر أنه كلما قويت المحبة صار الإنسان محبًا لكل محاب محبوبه.

يقول: «وجعل سبحانه الإسرار بالمودة للكافرين ولو كان لحماية أهل أو ولد أو مال دون موافقة القلب على الكفر أو الرضا به علامة على الضلال فقال  ـ سبحانه وتعالى ـ  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِالهَِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [الممتحنة:1]

عن علي  ـ رضي الله عنه  ـ  قال: «بعثني النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا: «أخرجي الكتاب» قالت: «ما معي من كتاب» قلنا: «لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب» قال: «فأجرجت الكتاب من عقاصها فأتينا به رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  فإذا فيه: «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ » فقال رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ : «يا حاطب ما هذا؟» قال: «يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام» فقال رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ : «لقد صدقكم» قال عمر: «دعني أضرب عنق هذا المنافق» فقال رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ : «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» رواه البخاري وأبو داود والترمذي، زاد البخاري في كتاب «المغازي» في «صحيحه»: «فأنزل الله سورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...﴾ في هذه القصة وما نزل فيها من الآيات كثير من الفوائد حول هذه القضية كما أنها ترد على بعض جوانب الإفراط والتفريط في هذه القضية،  فالقصة كما هو واضح من السياق أن حاطبًا  ـ رضي الله عنه  ـ  كان ملصقًا في قريش ولم يكن قرشيًا، هاجر مع النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  واعتراه ما يعتري البشر من النقص والضعف والشيطان كما قال الله  ـ سبحانه وتعالى ـ  ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268] ولا يزال بالإنسان يخوفه حتى يجبن ويبخل بماله فإن لم يكن باب الأهل والولد باب من أكثر الأبواب التي يستثمرها الشيطان في الإيقاع بالخلق بل ربما أوقع من هو من أفاضل الناس، فحاطب  ـ رضي الله عنه  ـ  ممن شهد بدرًا ومع ذلك لم يزل به الشيطان مهيجًا له على ذكر أهله وقرابته حتى اتخذ هذا القرار بأن يكون منه هذا الفعل الذي ما كان يليق بمثله  ـ رضي الله عنه  ـ  ولكن هكذا يمكن أن يظفر الشيطان من الإنسان بمثل هذه الأمور، وهذا مما يمكن أن يستفاد به في أن الإنسان لا يغلق على نفسه أفكارًا مهما رآها مخجلة، فإذا رأى أن له عذرًا في فعل شيء فلا بد له أن يسأل لكن لا يفتي نفسه، فالشيطان يستحوذ على الإنسان حينما يعزله عن إخوانه فلا يستشيرهم، ولذا اتخذ حاطب  ـ رضي الله عنه  ـ  هذا القرار دون أن يراجع أحدًا ولو راجع فيه أحدًا لكان عونًا له بفضل الله على الرجوع ولكن قدر الله وما شاء فعل.

فأرسل كتابًا إلى قريش مع امرأة وأخبر الوحي النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  بشأنه فأرسل النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  في إثرها من أرسل من الصحابة ليأخذوا هذا الكتاب قبل أن يصل إلى قريش وأخبرهم  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  أنهم سوف يلتقون بها في المكان الفلاني فذهبوا حتى رأوا هذا المكان وكان يسمى روضة خاخ فوجدوا هذه المرأة وطلبوا منها الكتاب الذي أرسله حاطب  ـ رضي الله عنه  ـ  معها إلى قريش فأنكرت أول الأمر فهددوها أن يفتشوا ثيابها فأخرجت الكتاب من عقاصها.

وللأسف بعض العقلانيين الجدد يحاول التخلص من القواعد الأصولية المحكمة التي وضعها أهل العلم قديمًا والتي منها أن الضرورة تقدر بقدرها لا يجوز لأحد من الناس أن يتوسع، لكن للأسف كاتب عقلاني له قبول عند بعض شباب الصحوة ويقرؤون له يدعى جمال سلطان يريد أن يعفي العاملين في الحركة الإسلامية من ضوابط مراعاة أن الضرورة تقدر بقدر ويرى أن الباب مفتوح على مصراعيه ويستدل بهذه الواقعة وهذا استدلال ما أبعده!!.

ويقول أن كشف العورات وكذا... وكذا... أمر كان يقدم عليه الصحابة بل ويقدم عليه النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  بدون أدنى غضاضة ما دام الأمر متعلقًا بالمصلحة الدعوية العامة واستدل بهذه القصة وبقصة كشف النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ   عن مؤتزر بني قريظة لما حكم فيهم سعد  ـ رضي الله عنه  ـ  بأن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذرية فأرادوا أن يتبينوا البالغ من غيره وعلامة البلوغ التي يمكن أن تعرفها من العدو أن تسأله هل احتلمت أم لا؟ لكن كانوا ينظرون هل أنبت أم لا؟

فكان النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  يأمر أن يكشف عن المؤتزر وهو مكان عقد الإزار فهو يرى أن هاتين الحادثتين فيهما دلالة على عدم حرمة العورات إذا كان الأمر يتعلق بالمصالح الدعوية العليا!!.

وهذا في الواقع كلام بعيد جدًا بل لو استدل بهما على خلاف مقصوده لكان أولى لأن الصحابة  ـ رضي الله عنهم  ـ  مع أنهم يعرفون أن معها كتاب خطير أرسلهم النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  في طلبه لم يبادروا إلى تفتشيها بل طلبوه منها وأمدوا عليها هذا الأمر وهي امرأة كافرة وتحمل كتابًا إلى قريش فرعوا حرمة هذه الكافرة فما بال المسلمات أو أعراض ودماء المسلمين، لأنه يحتج بهذه القصص من باب التهوين على من يستهين بدماء المسلمين من أنه مادام هناك مصلحة دعوية عليا فأمر  الدماء والأعراض أمر هين بجوار هذا الأمر!!

وهذا الكلام غير صحيح، وكذلك الحال في بني قريظة فالكشف عن مؤتزرهم جزء يسير ليرى الإنبات، والإنبات يرى بدون رؤية العورة المغلظة ومع ذلك كان هذا أمرًا لمصلحتهم ومع هذا يبقى أن هذا قدر من الضرورة قدر بقدره فتبقى المسألة أنه مهما أتى بمسألة فيها كشف العورات فإنه يقال له: من الذي يضبط هذا القدر الذي جاء في الشرع ولا يتعدى إلى ما لم يأت الشرع بمثله من الذي يضبط أن هذا ضرورة تقدر بقدرها، وهذه المسألة – أن الضرورة تقدر بقدرها- كما يقول العلامة الألباني : أن الناس قد نشر فيهم أن الضرورات تبيح المحظورات دون أن ينشر معها القاعدة التي لا تتم إلا بها وإلا أدت إلى المفاسد وهي أن الضرورة تقدر بقدرها، ولذلك تجد كل الناس ينصبون أنفسهم في مرتبة الاجتهاد فمن الأمثلة المشهورة أن من كان سيهلك وأمامه ميتة فليأكل فهذا نموذج موجود بالنص عليها فهذا فعلًا تنطبق عليه القاعدة لكن أن تطبق على مسألة غير منصوص عليها في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام العلماء فهذا أمر  لا يستطيعه إلا مجتهد، وبالتالي تجد كل الناس يرشحون أنفسهم للاجتهاد ويضعون حدودًا له من عند أنفسهم، والبعض يتذرع في ذلك أنه من باب الدعوة لدرجة أن البعض قد يفعل شيئًا أحسن أوصافه أنه مختلف في مشروعيته والراجح لو تأملت عدم المشروعية مثل المظاهرات ونحوها فتجد أحدهم يترك الصلاة حتى يخرج وقتها ثم يقول: الضرورات تبيح المحظورات!!.

وأين الضرورة في فعل أقصى ما يمكن أن يوصف به أن مختلف في مشروعية والراجح عدمها؟!! وإذا كان مشروعًا لم يصلح أن يكون ضرورة لأنه لا يتضيق وقته، وهذا يفعله أناس يظن بهم الخير والحرص عليه ولكنه يتصدر لما لا يحسن، أو أن يكون تنظيرًا لآراء تتبناها اتجاهات كاملة تتساهل بشأن الدماء لا سيما دماء المسلمين وبشأن الأعراض بدعوى أننا إذا كنا بشأن الكلام عن الدعوة والجهاد فلا مجال للكلام على هذه التفاصيل وهذا من أبطل الباطل، ومهما يأتي من صور ورد بها استثناء فإنه يقال له: هذا دليل على هذه الصورة فمن الذي أنها تتعدى إلى غيرها ومن قال أن هناك إذنًا عامًا من علماء المسلمين مع كون هذه الحالات الاستثنائية تصنف على أنها حالات تحقق فيها شرط الضرورة المقدرة بقدرها وبناء عليها على كل الصور التي وردت في إباحة المحرم عند الضرورة استخرج العلماء القواعد والأصول التي تعين من جاء بعدهم على بحث القضية بشرط أن يرجع إلى الكتاب والسنة وفهم العلماء الأثبات وليس أن يرجع لمجرد رأيه وهواه، وهذا أمر موجود حتى في عوام الناس فيقولون: الضرورات تبيح المحظورات فتبحث عن ضرورة فتجدها أمورًا لا ترقى لأن تكون حاجة، فكلمة الضرورات تبيح المحظورات كلمة اصطلاحية لها معنى عند واضعها، فأهل العلم يقسمون المطالب التي يحتاجها الإنسان إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، فالمتبادر حينما يقال: الضرورات تبيح المحظورات أن الكلام عن الضرورات وليس على ما دونها لكنك قد تجد الناس يطبقون هذا الكلام على التحسينيات التي لا يمكن أبدًا أن تبيح محظورًا فهذا مما ينبغي أن يعتنى به سواء كنا نتكلم في الحلال والحرام أو من باب أولى ثم أولى فيما يتعلق بالدعوة إلى الله  ـ عز وجل ـ  فهذا استطراد فيما يتعلق بهذا الحديث لوجود الاستدلال الخاطئ بشأنه.

فهذا الحديث لو استدل به لاستدل به على تعظيم الحرمات كما يستدل به على أن حرمة النظر تشمل عورة المؤمن وعورة الكافر فهم لم يبادروا إلى كشف عورتها بل في بعض الروايات أنها لما أرادت أن تخرج الكتاب من شعرها قالت لهما: «تنحيا» وأخرجت الكتاب فكان عندها شيء من الحياء مع كونها امرأة كافرة، فلما أخرجت الكتاب عادوا به إلى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  فسأل حاطبًا عن فعله فذكر أنه لم يفعل ذلك كفرًا ولا ردة عن الدين ولا رضًى بالكفر بعد الإسلام فقال النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ : «إنه صدقكم» فقال عمر: «دعني أضرب عنق هذا المنافق» فقال رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ : «إنه شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

ففي هذا الحديث دليل على أن الجاسوس يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل فأما الدليل على جواز قتله فقول عمر  ـ رضي الله عنه  ـ : «دعني أضرب عنق هذا المنافق» ولو كان لا يستحق القتل لبين له النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  عدم جواز قتله وإنما اكتفى بذكر المانع فقال: ««إنه شهد بدرًا» فلو لم يكن الأمر مشروعًا أصلًا لما ذكر مانعًا ولبين عدم مشروعيته، فقول عمر مع إقرار النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  على ذلك دليل على جواز قتله وأما كونه يجوز أيضًا أن لا يقتل وأن هذا ليس حدًا تجب إقامته لأنه لكون كان حدًا لما منع من شهوده بدرًا، إذن فقتله إلى الإمام، يخير فيه إما أن يقتله وإما  أن لا يقتله، وهذا على يدل على أن ليس بكافر لأنه لما ذكر أنه لم يفعل ذلك كفرًا ولا ردة قال النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ : «إنه صدقكم» فهذا يدل على أن الجاسوس ليس بكافر ومع نزول هذه الآيات في ذلك فإنها تدل على أن هذا فعل شائن وأن لا يليق بالمؤمن وأنه من الموالاة المحرمة جزمًا للكافرين وهو أن يعطيهم أسرار المسلمين كما ذكرنا، إذن فهذا يدل على أن من تجسس لصالح الكفار فإن هذا الفعل بمجرد ليس كفرًا إن يظهر منه فعل آخر يدل على الرضا بالكفر أو إرادة الكفر، فهذا الفعل بمجرده ليس كفرًا لكنه من الموالاة المخرمة جزمًا والإمام مخير فيه بين أن يقتله وبين أن لا يقتله بحسب ما يتراءى له من المصلحة فقد يرى أنه رجل صالح خانته نفسه ويأمل أن تحسن توبته ويمكن أن يرى غير ذلك فيريد أن يجعله نكالًا لأمثاله أو لكونه لا يأمن شره إن تركه أو لغير ذلك من الصور.

وهذا دليل قاطع على أن بعض صور الموالاة لا تكون كفرًا لأن هذه صورة من صور  الموالاة ونزل فيها قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ فهذه صورة من صور الموالاة وليست كفرًا لأن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  قبل منه ما دافع به عن نفسه، ولذلك فإن من العجب العجاب ما يراه صاحب كتاب «حد الإسلام» فيما عنده من الانحرافات الكثيرة التي توصل بها إلى التوقف بإسلام كثير من علماء المسلمين وخلاصة الطرح الذي يطرحه وسط حشد هائل من النقول التي ليس فيها ما يدل على ما أراده ولكنه نوع من الإرهاب للقارئ والإيحاء بأن هذا بحث متين مبني على أصول وقواعد أهل السنة ومليء بالنقول إلى غير ذلك.

وخلاصة ما يقول أن لا إله إلا لا تقبل من الإنسان إلا إذا أتى بتفصيلها فلا بد أن يفهم تفاصيل معنى الشهادتين قبل أن يسلم ولعلنا أجبنا عن الكلام عن هذه الشبهة أثناء كلامنا عن شروط لا إله إلا الله، ومن الخذلان أن تجد أنه يحاول جاهدًا أن يستدل على لزوم التفصيل من باب أن هذه هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن هذا هو معناها ثم يعود فيقول ولكن ليست كل التفاصيل وإنما هو جزء منها ولكن من أين له هذا الكلام؟

لأنه إما أن يقول الإجمال كما قال أهل السنة، وإما إن قال بالتفصيل وليس له دليل على التفصيل إلا أن هذا هو معنى هذه الكلمة إذن فهو يعني معناها بتمامه، أما أن يشترط تفصيل دون تفصيل  فهذا تحكم واضح وتشهي بلا دليل فتجده بعدما يقرر تقريرات قوية جدًا في أنه لا بد من التفصيل يعود فيقول: ولا ، ولكن... وإلا فالتفصيل الذي هو التفصيل يغلق باب الدخول في الإسلام لأن الدخول في الإسلام إنما يكون بـ«لا إله إلا الله محمد رسول الله» فلو قلنا الإجمال فليس هناك إشكال وذلك بأن يعرف أن معنى هذا الدين أن لا يعبد إلا الله وأنه يجب عليه أن يصدق كل ما يأتيه من خبر النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  وبعدما يدخل في الدين يشرع في تعلمه شيئًا فشيئًا فإذا بلغه خبر عن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  وعلم أنه خبر عنه ثم كذبه فإنه يكون ناقضًا لإقراره الأول لكن لو بلغه خبر منسوب إلى النبي  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ  فتشكك في نسبته إليه فكذبه فإنه لا ينق إقراره الأول وإن كان ينظر فلو كان هذا الخبر ثابتًا فإنه يعتبر مقصرًا في تعلم العلم فيعاقب بمقدار هذا التقصير، فهو يشترط التفصيل في شهادة لا إله إلا الله فلماذا لم يشترط التفصيل في شهادة أن محمدًا رسول الله؟ لأنه لو اشترط التفصيل فيها فإن هذا يغلق باب الدخول في الإسلام!! ولكن ليته حينما التفصيل في لا إله الله اشترط التفصيل في كل ما يتعلق بها ولكنه اشترط التفصيل في الولاية والحكم والنسك؟ لماذا هذه بالذات؟ تحكم بغير دليل، فهو يقول أن هذه أنواع الشرك مع أن هناك أنواعًا أخرى كشرك المحبة ونقص العبادات القلبية من الخوف والرجاء والتوكل وزوال هذه الأمور شرك أكبر لكنه يجعل هذه الأمور الثلاثة (الولاية، والحكم والنسك) التي يجب على أن الإنسان أن يتعلمها حتى يحكم له بالدخول في الإسلام وبناء على ذلك إذا قال العبد لا إله إلا الله وتعلم هذه التفاصيل والتزم بمقتضاها فهذا عنده مسلم أما إذا ناقض آخر هذه التفاصيل سواء قال لا إله إلا الله أو لم يقل فهذا عنده كافر بلا خلاف، وآخر قال لا إله إلا الله وهو لا يعلم هل تعلم هذه التفاصيل أم لا؟ فهذا يتوقف فيه فهو يقول أنه لم يستوف الشروط ولكن إعمالًا لفضل لا إله إلا الله فلن يسوي بينه وبين الكافر ولكن لو مات وهو على هذه الحال فهو عنده كافر ولو تيقن في حقيقة الأمر أنه لم يتعلم هذه التفصيلات فهو كافر لأن يرى أن من قال لا إله إلا الله يمهل حتى يتعلم هذه الأمور فلا يقتل مثلًا ونحو هذا، فهذه خلاصة كلامه.

المهم أن من أمثلة غلوه في قضية الولاية والحكم والنسك أن يرى أن كل صور المخالفة في كل قضايا الحكم والولاية والنسك شرك أكبر.

فحينما يأتي لقصة كقصة حاطب وهي قصة في غاية الوضوح فيقول: «وحاطب  ـ رضي الله عنه  ـ  لم تقع منه موالاة للكفار وإنما هي لحظة ضعف بشرية خانته فيه نفسه» إلى آخره في كلام مرسل لا قيمة له ألبتة ولذلك يقول بع من رد على كتابه هذا: «وإن كان قول من قال بقصر الآية على سبب نزولها قول فاحش فأفحش منه من يخرج سبب النزول من الآية».

فالآية نزلت في موقف من حاطب  ـ رضي الله عنه  ـ  ولم تقل أن حاطبًا  ـ رضي الله عنه  ـ  والى المشركين وإنما قالت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ فاللفظ عام ونقول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لكن الآية كلها تنطبق على سبب نزولها وهي قطيعة الانطباق على سبب نزولها فالسبب وقع ونزلت الآية فيه فلم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة أنه يمكن أن لا تنطبق الآية على سبب نزولها وهذا يقول: «أن قصة حاطب ليست من الموالاة» مع أن القصة نزلت فيها آيات تتحدث عن الموالاة كل ذلك حتى ينتصر لأصله الذي أصله وهو أن كل صور الموالاة شرك أكبر وقصة حاطب  ـ رضي الله عنه  ـ  دليل على أن صورة من أشد صور الموالاة وهو صورة التجسس ومع ذلك ليست من الشرك الأكبر وإن كانت الصورة التي أفحش منها شيئًا يسيرًا وهي أن يخرج في صفوف الكفار محاربًا من وليه من المسلمين فهذه الصورة شرك أكبر كما سيأتي ففرق بين الجاسوس وبين أن يحارب بنفسه لأن هذا ينصر الكفر صراحة بخلاف الجاسوس الذي يمكن أن يعطيهم المعلومات ولا يغلب على ظنه أنه يترتب عليه استئصال شأفة المسلمين ولذا فرق الشرع بين حكم كل من الصورتين ولكن بلا شك صورة التجسس صورة فاحشة لأن الصورة التي فوقها مباشرة شرك أكبر  فهذه صورة فاحشة جدًا ولكنها دون الشرك الأكبر فدل على أن بع صور الموالاة للمشركين بل من الصور التي يكون فيها معنى الموالاة واضحًا جليًا بل نزل القرآن بشأنها قد لا تكون شركًا أكبر.

فهذه الآيات وهذا الحديث تفسيرًا لها ومازال يذكر الآيات الواردة في بيان أهمية هذه العقيدة وخطورة مخالفتها فيقول: «وقال سبحانه مبينًا الأسوة الحسنة للمؤمنين في هذا الباب ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ إذن هذه أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ تبرؤوا من أقوامهم ووضعوا حدًا واحدًا وغاية واحدة لزوال هذه البراءة والعداوة وهي أن يؤمنوا بالله وحده ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: ليس لكم أسوة في قول إبراهيم ﴿لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ وإنما الأسوة في براءته من أبيه.

قال ابن كثير :: «أي: لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فإنه إنما كان ﴿عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾

إذن لم يَصِرِ استغفار إبراهيم لأبيه أسوة للمؤمنين لأنه وعده أن يستغفر له واستغفر له حال حياته ويمكن للمؤمن أن يستغفر للكافر بنية أن يدعوا له أن يتوب الله عليه فيسلم فلما مات على الكفر وصار لا محل لهذا الدعاء تبرأ منه براءة نهاية فلم يعد يستغفر فلذلك لا يجوز للإنسان أن يستغفر لمشرك ميت ولا لمشرك حي بنية أن يغفر الله له مع بقائه على كفره ولكن يدعوا له بأن يتوب فهذا الذي يشرع.

يقول: «وبين سبحانه أن من أسباب لعن بني إسرائيل على ألسنة أنبيائه ورسله توليهم للكافرين، وبين أن ذلك سبب سخط الله عليهم وخلودهم في النار فقال سبحانه ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)﴾ [المائدة: 78-80]

ثم بين  ـ سبحانه وتعالى ـ  أن عدم الإيمان بالله والنبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن هو السبب في هذه الموالاة؛ فقال ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 81].

وبين سبحانه أن عدم القيام بهذا الركن من أركان الإيمان يؤدي إلى الفتنة والفساد الكبير في الأرض، فقال سبحانه ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾  أي: المهاجرين والأنصار مع أنهم طائفتين لكنهم طائفتين متعاونتين على الحق مشتركتين فهم أولياء بعض.

﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ فترك الهجرة للقادر عليها ذنب عظيم جدًا يقتضي التبرؤ من صاحبه وإن كان يوالى على أصل إيمانه.

﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)﴾ [الأنفال: 72-73]

قال ابن كثير :: «أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر(1)، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض».

وأما الأحاديث فمنها:

1-      ما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بايعه على... وتنصح المسلم وتبرأ من المشرك». جرير بن عبد الله البجلي  ـ رضي الله عنه  ـ  اسلم في السنة التاسعة للهجرة أو العاشرة وبايعه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا الأمر العظيم من نصيحته للمسلمين ويدخل في هذا الأمر جميع أنواع النصيحة حتى أنه  ـ رضي الله عنه  ـ  من نوادره أنه أرسله رجلًا يشتري له فرسًا فساوم حتى اشتراها بثلاثمائة فأتى بها جريرًا فركبها فأعجبته فعاد إلى البائع فقال له يا أخي: «أرأيت فرسك هذه إنها تساوي أربعمائة» مع أنه كان قد أشتراها بثلاثمائة فقال الرجل: «كما تحب يا أبا عمرو» فنقده مائة الزائدة، ثم مشى بها فركبها فأعجبته فرأى أنها تساوي أكثر من ذلك فعاد إليه فقال: «أرأيت فرسك هذه إنها تساوي خمسمائة درهم» فقال: «كما تحب يا أبا عمرو» فنقده ثم عاد إليه حتى بلغ بها ثمانمائة درهم، فنظر الرجل إليه نظر المدهش وكأنه ظن أن في عقله خلل إذ لا أحد يساوم على زيادة ثمن السلعة فقال: «والله ما بعقلي من بأس ولكني بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن أنصح لكل مسلم وأن أبرأ من كل كافر»(2) فليست عقيدة الولاء والبراء متعلقة بجزئية واحدة من الجزئيات بل لها أثر عظيم في المعاملات كلها بين المسلم وأخيه فتقوم على المحبة والمودة والنصح حتى في البيع فلو رآه جاهلًا بقيمة السلعة في يده فلينصحه بأنها تساوي كذا وليس العكس أن يغشه ويخدعه ويغرر به ونحو ذلك.

2-      وعن البراء بن عازب  ـ رضي الله عنه  ـ  أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله».

3-      وعن ابن عباس م مرفوعًا: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله».

4-      وعن جرير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين» قالوا: «يا رسول الله لم؟» قال: «لتراءى نارهما».

فالعرب قديمًا كانوا يستدلون على كثرة أو قلة من يرونهم من بعيد بمقدار ما يشعلون من نيران فقال: لا تكون نار المسلم [في] واد مشهور ينزل به الكفار فينزل فيهم المسلم فيكثر سوادهم فهذا هو المقصود أن المسلم لا يقيم بين أظهر المشركين مكثرًا لسوادهم وهذا محله إذا كان في مكان خاص بالمشركين فلا ينزل فيه ولا شك أن من أعظمه أعيادهم لأن الناس يرون من يظهر عليه أثر العيد من بهجة أو سرور أو توسعة في المأكل أو الملابس أو في ارتياد أماكن التنزهات، فمن يذهب إلى هذه الأماكن في العيد فهو يكثر سواهم لذلك فهم كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يفرحون بذلك يودون لو دفعوا أموالًا طائلة نظير أن يشاركهم المسلمون في أعيادهم فيشعرون بأن هذا تكثير لسوادهم، ومعلوم أن المشركين الذين يقيمون في ديار المسلمين ربما ينفقون أموالًا طائلة جدًا على بع المراكز البحثية حتى تقول أن التعداد أعلى مما هو عليه لأن هذه مسألة نفسية لها أثرها مع أن المسألة لا تختلف كثيرًا إذا كانت النسبة 7% فرفعت إلى 10% مثلًا في الظاهر لكنها تختلف نفسيًا ويظهر الفرق بذلك.

وهناك أمور أسهل من هذا التعداد وهي الانعكاسات التي تتم في أعيادهم فيعطي انطباعًا يراه الناس بأعينهم ويشعرونه بحواسهم ولذلك يتمنون أن لو وجد من المسلمين من يكثر سوادهم لاسيما في أعيادهم.

أيضًا مما يسرون به وهذا يعطي انطباعًا بالكثرة لو أنهم يحرمون على أنفسهم أنواعًا معينة من الأطعمة ثم يجدون من يتخصص في بيع هذه الأطعمة وهذا معناه أن هذا البائع يرى أنه سيربح حينما يفعل ذلك وهذا من الناحية التجارية يعني أن لهم ثقلًا ولذلك لما استعلى اليهود على أوربا وغيرها من البلاد ألزموهم أن يقدموا وجبات في الطائرات وغيرها أن يقدموا وجبة تسمى وجبة يهودية ويطر المسلمون للأسف حينما يركبون الطائرات ويتناولون الطعام فإنهم يطلبون وجبات يهودية لأن اليهود يرسلون من يشرف على الذبح وذبحهم شبيه بذبح المسلمين وفق الشريعة الإسلامية.

كذلك تجد بعض المحلات يعلن عن بيع بعض الأطعمة الخالية من الروح كما يزعمون في صيامهم فتجدهم يقبلون على الشراء منه تشجيعًا لغيره ففي هذا مظهر من مظاهر التواجد والكثرة وهذا أمر يفرحون به كثيرًا لاسيما إذا كانوا مقيمين في بلاد المسلمين مع كونهم ربما لا يحرصون كل هذا الحرص لو كانوا موجودين في غيرها من البلاد فيحرصون على أن يوجد من المسلمين من يكثر سوادهم بأي صورة من صور تكثير سوادهم وهذا قد برئ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

5-      وعن نوفل الأشجعي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «اقرأ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك».

6-      وعن أنس مرفوعًا: «من قرأ... ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ عدلت له بربع القرآن».

قال ابن القيم :: «إن هذه السورة تشتمل على النفي المحض فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها أنها براءة من الشرك فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقا للبراءة المطلوبة هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا فقوله ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾[الكافرون: 2] براءة محضة، ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون:3] إثبات أن له معبودا يعبده وأنتم بريئون من عبادته فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قول إمام الحنفاء ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26-27]

ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرنها بسورة قل هو الله أحد في سنة الفجر وسنة المغرب فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص».

وكذا كان يقرن بينهما في ركعتي الطواف فهما سورتا الإخلاص وإن كانت سورة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن بينما ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ تعدل الربع لأن ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ تضمنت من معاني الإثبات أكثر مما تضمنت ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ فالنفي واضح جدًا في ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ وإن كان فيها إشارة إلى الإثبات والنفي واقع ومستقبلي أي أنه نفي في قوله ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ أي لا أعبد الآن ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾ ولن أعبده مستقبلًا ففي هذا الإصرار على التوحيد والبقاء عليه، ومن العجيب أن هذه السورة مع كونها سورة براءة ومن أسمائها براءة وقال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تكن لك براءة من الشرك» إلا أن الناس يضعونها في غير موضعها لأن آخرها ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ وهذه الكلمة براءة تعني أن دينهم غير ديننا وليست إقرارًا للدين وإذا جاز لنا أن نتغاضى عن هذه من باب التجوز في المناقشة فهل يصح أن نقولها من أولها إلى آخرها أم لا؟

فهم يقولون: لا لأنهم لا يريدون أن تقول ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾  قل أي: يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فحينما تقرأها في القرآن تقول﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ وحينما تطبق ما قيل لك فإنك تطبق الأمر فتقول لهم ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فليس لدينا مانع أن نقولها لهم من أولها إلى آخرها لكن كونه يريد أن تقول قل لكم دينكم ولي دين فهذا دليل واضح على التلاعب بآيات الله وإنما تقال لهم السورة كما أمرنا الله ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ ويتضح في نهاية الأمر أن ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ إنما يريدون لها أن تقال من غير مخاطب فلو أردت أن تقول يا أيها المؤمنون من أتباع الأديان الثلاثة فلا بأس وإذا كنت متطرفًا بعض الشيء فلتقل يا أيها الغير مسلمين ولكن لو قلت يا أيها الكافرون فقد بالغت في التطرف، فإذا كانوا يريدون أن نقول هذه الكلمة على أنها من القرآن فسنقول السورة كاملة أما إذا كان المطلوب أن تقال من الهوى فلا يلزمنا أما إذا كان المطلوب أن نقولها لهم على وفق ما جاء به القرآن فقد قال القرآن ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾  ولا مانع من أن نمر حتى آخرها هذا في ألفاظها، ناهيك عن لو أضفت إلى ذلك سبب نزولها وأنها نزلت ردًا على المشركين الذين قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة لعلم يقينًا أنها نزلت براءة من الشرك وأهله هذا فيما يتعلق ببعض النصوص المتعلقة ببعض هذه القضية بصفة عامة ويشرع بعد ذلك في بيان معاني الموالاة تفصيليًا وصورها نتناولها في المرة القادمة إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1567 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1708 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2035 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2038 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1670 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1431 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥