مع القرآن .. هكذا ينبغي أن نكون (2)
كتبه/ رضا الخطيب
الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ .
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ
شَكُورٌ﴾ (فاطر).
فالله تبارك وتعالى يشيد في هاتين الآيتين بالتالِينَ لكتابه، تلاوة مصحوبة
بالتدبُّر الذي ينشأ عنه الإدراك والتأثر، ومما لا شك فيه أن التأثر يفضي بالقارئ
-لا محالة- إلى العمل بمقتضى قراءته.
لا سيما وأن الله لفت نظر المسلم إلى التدبُّر لكلامه والتعقُّل لبيانه، وألا يتخذ
المسلم قراءته عملًا ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء)،
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص).
ولقد ضرب الصحابة المثل
في استجابتهم لكلام ربهم -بعد تدبرهم لكلامه وتفهمهم لمراده-، ولما كان القرآن هو
الكتاب الوحيد الذي كان بين أيديهم، فقد أولوه اهتمامًا عظيمًا، وعقل الصحابة عن
الله قوله، ولم يكن همُّ أحدهم «متى أختم السورة؟»، أو «ختمت القرآن ختمتين أو
ثلاث» دون أن يتدبَّر معانيه.
- يقول عبد الرحمن السلمي: «كان الذين يُقرِؤُننا القرآن كعثمان وعبد الله بن
مسعود أنهم كانوا إذا قرءوا عشر آيات لا يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها، ويعملوا
بما فيها»، فيقول: «فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا».
ويقول ابن مسعود: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فارعها
سمعك؛ فإن بعدها أمر يأمرك الله به، أو نهي ينهاك الله عنه.
حرص الصحابة على تلقي القرآن الكريم مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه
وفهمه، وكان ذلك شرفًا لهم.
عن أنس رضي الله عنه قال: «كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا»؛
أي: عَظُم.
وحرصوا كذلك على العمل به والوقوف عند أحكامه.
أضرب لكم أمثلة عملية
مِن حياتهم، وكيف كانوا يقرءون كلامه ويعقلون مراده، ثم يمتثلون أوامره ويجتنبون
نواهيه:
- لما أنزل الله قوله:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ أي: أن
الله سيحاسبكم على ما بدر منكم وما يجول في خواطركم -فلما تدبروا الآية وعلموا
مراد الله منها شقَّ ذلك عليهم- مع أنهم رضوان الله عليهم لا يجول في خواطرهم إلا
الخير، فالمنضبط منا والملتزم فينا ما يبدر منه مِن الذنوب والمعاصي لا يصل أبدًا
إلى عُشر معشار ما يجول في خواطره مِن الذنوب والمعاصي، ورغم ذلك جثوا على الركب؛
روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب،
وقالوا: يا رسول الله؛ كلفنا مِن الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد
والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-مُعلِّمًا
ومؤدِّبًا ومربيًا-: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين مِن قبلكم: سمعنا
وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير». فلما أقَر بها القوم
وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ
مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾، فلما فعلوا ذلك نسخها
الله فأنزل: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا﴾. (رواه مسلم).
- لمَّا أنزل الله قوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؛ أي: لن
تنالوا مراضيه حتى تنفقوا أحب أموالكم إليكم –نظر كل رجل منهم إلى أحب ماله إليه
فجعله لله-، لم ينظر إلى الرديء مِن ماله؛ روى الإمام أحمد، عن أنس بن مالك قال:
كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالًا، وكانَ أحبَّ أمواله إليه بيْرَحاءُ،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب مِن ماء فيها طيِّب، قال أنس: فلما
نزلت ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قال أبو
طلحة: يا رسول الله؛ إن الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن أحبَّ أموالي إلَيَّ بيْرَحاءُ، وإنها صدقة لله أرجو
بِرَّها وذُخْرَها عند الله تعالى، فَضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «بَخٍ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَاكَ مَالٌ رَابِح».
عن عبد الله بن عُمر قال: حضرتني هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ فذكرتُ ما أعطاني الله، فلم أجد شيئًا أحبَّ إليَّ
مِن جارية رُوميَّة، فقلتُ: هي حُرَّة لوجه الله. فلو أنِّي أعود في شيء جعلته
لله لنكَحْتُها، يعني تَزوَّجتُها.
وللحديث بقية إن شاء
الله .. وأستغفر الله لي ولكم.
موقع
أنا السلفي
www.anasalafy.com