الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تعليق على بحث «مستقبل السلفية السياسية في مصر وتونس»

ورغم أن الورقة البحثية تتحدث عن مصر وتونس فقد اقتصرت في التعليق على ما يخص التجربة المصرية.

تعليق على بحث «مستقبل السلفية السياسية في مصر وتونس»
عبد المنعم الشحات
الجمعة ٢٠ نوفمبر ٢٠١٥ - ١٩:٥٥ م
2350

تعليق على بحث "مستقبل السلفية السياسية في مصر وتونس"

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد نشر مركز "كارنيجي للشرق الأوسط" ورقة بحثية بعنوان: "مستقبل السلفية السياسية في مصر وتونس" للباحث "جورج فهمي"، ونظرًا للقبول الذي يتمتع به هذا المركز في دوائر الأبحاث السياسية؛ فقد رأيتُ أن أعلـِّق على تلك الورقة البحثية بصورة تجلي بعض الأمور على قارئها، ورغم أن الورقة البحثية تتحدث عن مصر، وتونس؛ فقد اقتصرتُ في التعليق على ما يخص التجربة المصرية، فإلى نص الورقة البحثية:

مستقبل السلفية السياسية في مصر وتونس

"أحجمتِ الحركات السلفية في العالم العربي في معظمها عن المشاركة في العملية السياسية، وركَّزت عوضًا عن ذلك على الأنشطة الدعوية لنشر أفكارها الدينية المحافظة، وانخرطت في العمل الخيري والاجتماعي الرامي إلى تغيير المجتمع مِن أسفل، لكن الانتفاضات العربية التي اندلعت في العام 2011م غيَّرت ذلك؛ إذ أنشأ سلفيّو مصر أحزابًا عدّة بعد سقوط حسني مبارك، وكذلك فعل نظراؤهم التونسيون، وأنشأوا أحزابًا سلفية في تونس بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي.

يُضفي حضور الأحزاب السلفية في المشهد السياسي في مصر وتونس قيمةً على عملية الانتقال الديمقراطي في البلدَين، وعلى الرغم مِن أن هذه الأحزاب مُحافظة؛ إلا أنها توافق على العمل السياسي السلمي باعتباره وسيلة للتغيير، كما ترفض استخدام العنف؛ ما يسمح بدمج شريحة كبيرة مِن المجتمع في العملية السياسية.

يضفي وجود الأحزاب السلفية أيضًا قدرًا مِن التنوّع على المشهد السياسي الإسلامي، فيصبح مِن الصعب على أي حزب إسلامي واحد أن يدّعي أنه يمثّل جميع المسلمين، لكن سلفيّي مصر وتونس واجهوا الكثير مِن التحديات السياسية في العامَين الماضيَين، فقد تراجعت أهمية الأحزاب السلفية على المستوى السياسي بالتزامن مع تزايد شعبية الحركات السلفية الجهادية التي ترفض الاعتراف بالآليات الديمقراطية كوسيلة ممكنة لتحقيق التغيير السياسي، وتسعى بدل ذلك إلى بناء دولة إسلامية مِن خلال الجهاد المسلح.

إذا ما أرادت الأحزاب السلفية أن تؤدي دورًا سياسيًّا فاعلاً، وأن تحافظ على مستوى معين مِن التأثير على العملية السياسية، تحتاج إلى استعادة ثقة الشباب الإسلامي، وإيجاد توازن صحيّ بين هياكلها السياسية والدينية، وتقديم رؤية سياسية أكثر شمولاً لدور الشريعة الإسلامية في الحكم.

الأحزاب السلفية الكبرى:

خلافًا لسائر الدول العربية التي شهدت انتفاضات الربيع العربي، كانت مصر وتونس الوحيدتَين اللتَين لم تنزلقا إلى لجج العنف على نطاق واسع، على الرغم مِن اختلاف مسارَيهما السياسيَّين، وتُظهِر مقارنة مسارَي السلفية السياسية في تونس ومصر أوجه شبه عدّة، لكن أيضًا نقاط اختلاف ملحوظة.

يُعتبر حزب النور وحزب الوطن مِن بيْن الأحزاب السلفية الأكثر نشاطًا في الساحة السياسية المصرية، في حين يُعدّ حزب جبهة الإصلاح في طليعة الحركات السلفية التونسية، لكن حزب النور نجح في بداية المرحلة الانتقالية في تحقيق مكاسب سياسية كبيرة قبل تراجع شعبيته، فيما فشل حزب جبهة الإصلاح في حصد نجاح مماثل في تونس.

تم تأسيس حزب النور بمبادرةٍ مِن شخصية سلفية بارزة هي عماد عبد الغفور في الأشهر الأولى بعد سقوط نظام مبارك في كانون الثاني / يناير 2011، وقد رأى عبد الغفور أن المناخ السياسي الجديد بعد سقوط مبارك يفتح آفاقًا جديدة لإحداث تغيير مِن خلال العمل السياسي، وليس فقط مِن خلال الأنشطة الدينية والاجتماعية التي تمارسها الدعوة السلفية، وهي حركة دينية سلفية تأسّست في السبعينيات وكان عبد الغفور أحد أعضائها، وقد تمكّنت الدعوة السلفية في عهد مبارك مِن بناء شبكة مِن المناصرين بفضل أنشطتها الاجتماعية والدينية، لكنها مع ذلك امتنعت عن المشاركة السياسية.

حقّق حزب النور نجاحًا باهرًا في أول انتخابات أُجريَت في مصر في أعقاب إطاحة مبارك، وذلك بعد أقل مِن ستة أشهر على تأسيسه؛ إذ فاز بـ121 مقعدًا، أو بنسبة 24 في المئة مِن مقاعد مجلس الشعب، وحاز على المرتبة الثانية بعد حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين.

وقع خلافٌ حادّ في صفوف حزب النور في أيلول / سبتمبر 2012 بين الرؤيتين السياسيتين لعمل الحزب، فضّلت المجموعة الأولى، الممثَّلة بعماد عبد الغفور أن يركّز الحزب على التمدّد الأفقي وعلى توسيع قاعدته ليشمل تمثيله القوى الإسلامية السلفية بشكلٍ عام، في المقابل ترى المجموعة الثانية التي يمثّلها جلال المرة وأشرف ثابت أن على حزب النور أن يحظى بقاعدة شعبية متمايزة ومرجعية دينية واحدة متمثّلة في الدعوة السلفية في الإسكندرية.

ثم تحوّلت الأزمة إلى حملة مِن الطرد المتبادل للأعضاء بين الطرفَين قبل أن يدخل مشايخ الدعوة السلفية على خطّ الوساطة بينهما، وقد انتهى الصراع حين استقال عبد الغفور وأعضاء آخرين مِن حزب النور ليؤسّسوا حزب الوطن في كانون الثاني / يناير 2013.

ذهب كلٌّ مِن الحزبين في حال سبيله، وساءت العلاقة بين حزب النور وجماعة الإخوان المسلمين إلى درجة أن حزب النور أيّد في تموز / يوليو 2013 التدخل العسكري ضد الرئيس السابق محمد مرسي المدعوم مِن الإخوان، في غضون ذلك واصل حزب الوطن وقوفه إلى جانب الإخوان وتأييده لمرسي من خلال الانضمام إلى التحالف الوطني لدعم الشرعية، وبعد أن تبيَّن أن هذا التحالف يفتقر إلى إستراتيجية سياسية أو مستقبل سياسي، انسحب حزب الوطن منه، لكنه بقي خارج العملية السياسية الجديدة التي أفرزها تدخّل القوات المسلحة.

في المقابل، شارك حزب النور في المسار السياسي الجديد، وانضم إلى اللجنة التي تولّت تعديل الدستور الذي اعتُمد في ظل حكم الإخوان، ودعمَ ترشيح عبد الفتاح السيسي للرئاسة، ومع أن شعبية حزب النور تراجعت؛ إلا أنه يخوض المنافسة في الانتخابات التشريعية الراهنة التي تنتهي جولتها الثانية في أوائل كانون الأول / ديسمبر 2015.

في تونس، تُعتبر جبهة الإصلاح الحزب السلفي الأكثر نشاطًا على الأرض، وقد نالت الجبهة الترخيص القانوني لممارسة نشاطها كحزب سياسي في آذار / مارس 2012 في ظل حكومة حزب النهضة الإسلامي الذي أسّسه في العام 1981 مفكّرون إسلاميون تأثّروا بفكر الإخوان المسلمين في مصر، وكانت الحكومة الانتقالية التي تشكّلت في تونس في أعقاب إطاحة بن علي قد رفضت منح حزب جبهة الإصلاح الترخيص القانوني؛ لأن بعض مؤسّسيه أُحيلوا إلى المحاكمة بسبب أنشطتهم الدينية في عهد بن علي.

على مستوى الأداء السياسي، وخلافًا لما حقّقه حزب النور في العام 2011، لم يفُز حزب جبهة الإصلاح بأي مقعدٍ في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (الذي أُوكلت إليه مهمة وضع الدستور الجديد لمرحلة ما بعد الثورة) التي أُجريت في تشرين الأول / أكتوبر 2011 حين ترشّح أعضاء جبهة الإصلاح كمرشّحين مستقلّين، أو في الانتخابات التشريعية التي عُقدت في تشرين الأول / أكتوبر 2014. وكان السبب في ذلك افتقار حزب جبهة الإصلاح إلى قاعدة شعبية يمكن التعويل على دعمها في الانتخابات؛ إذ ليس في تونس حركة سلفية قوية على غرار الدعوة السلفية في مصر، ومع أن نظام بن علي سمح للسلفيين بممارسة بعض الأنشطة المحدودة، إلا أن نطاقها لم يكن كافيًا لبناء شبكات دينية واجتماعية، إذن، في حين أن حزب النور حظي بالدعم مِن شبكة العلاقات التي نسجها قبل العام 2011، بدأ حزب جبهة الإصلاح في أعقاب كانون الثاني / يناير 2011 في بناء شبكة داعميه مِن الصفر.

يعطي كلٌّ مِن حزب النور وجبهة الإصلاح الأولوية إلى مسألتَي الهوية والشريعة، فوفقًا لحزب النور الهوية المصرية هي الهوية الإسلامية العربية بحكم عقيدة ودين الغالبية العظمى مِن أهلها، وعلى الشريعة الإسلامية أن تكون المصدر الوحيد للتشريع، كذلك يدعو حزب جبهة الإصلاح إلى ضرورة إنشاء دولة إسلامية تطبِّق الشريعة في مختلف جوانب الحياة، ويشدّد على ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية المرجعية الأساسية في صياغة الدستور التونسي.

التحدّيات التي تواجه السلفية السياسية في مصر وتونس:

ثمة أسباب عديدة للتراجع الذي مُني به حزب النور على مدى العامَين الماضيَين، ولفشل حزب جبهة الإصلاح في تحقيق مكاسب سياسية؛ إذ يواجِه السلفيون في مصر وتونس عددًا مِن التحديات، مثل: انحسار مشروع الإسلام السياسي السلمي، وصعود السلفية الجهادية، والعلاقة الملتبسة بيْن النشاط الديني والنشاط السياسي، وأخيرًا غياب الرؤية السياسية حول شكل الدولة ودور الشريعة.

مِن الضروري تخطّي هذه العقبات لاستعادة ثقة الناخبين الإسلاميين في الأحزاب السياسية السلفية ومشاريعها السياسية، وهي خطوةٌ ستتيح لهذه الأحزاب أيضًا فرصًا جديدة للتنسيق مع القوى غير الإسلامية حول عددٍ مِن القضايا المشتركة.

الأهمية المتزايدة للسلفية الجهادية:

مع أن الأحزاب السلفية تتبنّى أيديولوجيا دينية محافظة، إلا أنها سلمية عمومًا، وتوافق على الآليات الديمقراطية باعتبارها وسيلة لتحقيق أهدافها، في كلٍّ مِن مصر وتونس أثّر تراجع هذا النهج على قُدرة الأحزاب السلفية على البقاء والاستمرار.

في مصر، تُعزى بعض المشاكل التي تواجِه الأحزاب السلفية إلى الإخفاقات السياسية التي تكبّدتها جماعة الإخوان المسلمين، فجماعة الإخوان التي تسنّمت السلطة في العام 2012، اتبعت نهجًا سلميًّا وتدريجيًّا في العمل السياسي، وشكَّل فوز مرسي مرشّح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية في حزيران / يونيو 2012 انتصارًا لمنهجها على السلفية الجهادية، إلا أن عزل مرسي على يد الجيش في تموز / يوليو 2013 كان بمثابة ضربة لهذا النهج.

ظنَّ البعض أن فشل جماعة الإخوان في إدارة مؤسسات الدولة المصرية بشكلٍ فعّال، ثم استبعادها مِن الحياة السياسية، يمكن أن يصبّا في صالح حزب النور المنافس الرئيس للإخوان على الساحة السياسية الإسلامية، لكن فشل الإخوان هو أكثر مِن مجرّد فشلٍ لَحِقَ بمنظمةٍ سياسية، بل ترى فئات واسعة في صفوف القاعدة الشعبية الإسلامية أن فشل المشروع السياسي لجماعة الإخوان أدّى إلى فقدان الثقة في العمل السياسي السلمي كوسيلةٍ للتغيير، وفيما ترك بعضُ السلفيين العمل السياسي وعادوا إلى العمل الدعوي، اختار آخرون الانضمام إلى المجموعات السلفية الجهادية لبناء دولة إسلامية بالقوة، فالإنجازات التي حقّقتها مجموعات، مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة في سورية بشكلٍ خاص، صوَّرت استخدامَ القوة على أنه خيارٌ فعّال.

بدأ حزب النور يواجه تحديات كبيرة مِن حركة السلفية الجهادية خلال السنتين الأخيرتين، وبعد أن دعم هذا الحزب التدخّل العسكري ضدّ جماعة الإخوان المسلمين في تموز / يوليو 2013، واجه انتقادات مِن قِبَل بعض مؤيّديه الذين اعتبروا أنه قد تخلّى عن المشروع الإسلامي، وتصاعدت هذه التوترات في تشرين الأول / أكتوبر 2015 مع اغتيال المرشّح البرلماني عن حزب النور في شمال سيناء من قِبَل مقاتلين سلفيين جهاديين.

ويواجه حزب جبهة الإصلاح التونسي تحديات مماثلة، فحزب النهضة الإسلامي الذي فاز في أول انتخابات عُقدَت بعد انتفاضة تونس في تشرين الأول / أكتوبر2011، ترأس الحكومة التونسية، لكن الحزب ترك الحكم بعد أن تبوّأ المرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول / أكتوبر 2014، وعلى الرغم مِن أنّه لم يتمّ إقصاؤه عن الحكم بالقوة، كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين في مصر، إلا أن هناك شرائح مِن الشباب المنتمين إلى الحركة الإسلامية الذين يعتبرون أن حزب النهضة فشل هو الآخر في بناء دولة إسلامية.

لقد خاب أمل الشباب القريبين من السلفية الجهادية، فهم يتّهمون النهضة بخيانة المشروع الإسلامي بعد فشله في الإشارة إلى الشريعة الإسلامية كمصدرٍ للتشريع في الدستور، إضافةً إلى ذلك ما يثير غضب الشباب القريبين من السلفية الجهادية هو أن النهضة سعى إلى المصالحة مع رموز النظام السابق مِن خلال قبول المشاركة في حكومة ائتلافية مع حزب نداء تونس الذي يضمّ عددًا من العلمانيين وأعضاءً يُعرف عنهم أنهم قريبون مِن النظام السابق، واتهمت بعض الأصوات السلفية الجهادية علنًا حزب النهضة بأنه جُرم يدور في فلك الولايات المتحدة، وانحرف عن مسار المشروع الإسلامي ويسعى إلى إرضاء بلدان الغرب حتى على حساب الإسلام وأحكامه. 

بدأت السلفية الجهادية في تونس تشكّل تحديًّا بارزًا للأحزاب السلفية مع تأسيس حركة أنصار الشريعة في العام 2011 التي أعلنتها الحكومة منظمة إرهابية في آب / أغسطس 2013، حتى ذلك الحين حققت حركة أنصار الشريعة شعبية كبيرة في صفوف الشباب السلفيين مِن خلال عملها الذي يتضمّن المطالبة بالتغيير السياسي والنشاط الدعوي والاجتماعي، وبحسب بلال الشواشي وهو شخصية بارزة في الحركة السلفية الجهادية، إن أنصار الشريعة هو حركة رائدة في جذب الشباب الإسلاميين مقارنةً مع الحركات والأحزاب الإسلامية الأخرى، وهذا الأمر يعود إلى أن الحركة لا تنخرط في العمل السياسي الذي يرتبط عادةً بالمساومة مع قوى النظام السابق التي يرفضها الشباب الثوري، إضافةً إلى خطاب التغيير الراديكالي الذي تتبنّاه الحركة، ويجد صدى لدى هؤلاء الشباب.

إذا ما أرادت تجاوز هذا التحدّي، يتعيّن على الأحزاب السلفية العمل مع التيارات المتطرّفة بغية إعادتها إلى العمل السياسي السلمي، هذا الأمر يتطلّب خطوتين أوليتين: مِن ناحية: عليها العمل على إعادة هيكلة صورتها لاستعادة مصداقيتها في المحيط الديني. ومِن ناحية أخرى: عليها طرح مشروع سياسي يوفّر مداخل جديدة تمكّن الشباب مِن المحافظة على قيم الشريعة الإسلامية من خلال العمل السياسي السلمي.

وترتبط هذه القضيّة أيضًا بحاجة الأحزاب السلفية إلى توسيع نطاق تعاملها مع الدوائر الإسلامية الأخرى أو حتى غير الإسلامية، بدل التقيّد بالسلفية وحسب، وعلى الرغم أنه مِن المنطق أن تبقى الكتلة السلفية المرتكز الرئيس للأحزاب السلفية، إلا أنه يجب على هذه الأخيرة التواصل مع قطاعات أخرى من المجتمع تستطيع أن تجد في منهجها سببًا لدعمها.

إشكالية العلاقات بين النشاط الدعوي والنشاط السياسي:

تحتاج الأحزاب السلفية الأبرز في مصر وتونس إلى أن تجد توازنًا ملائمًا بيْن دورها السياسي وبين نشاطاتها الدينية؛ إذ أن غياب الحدود الواضحة بيْن الدين والسياسة يُلحق الضرر بهذه الأحزاب.

فحزب النور في مصر يواجه أزمة ترتبط بالعلاقة بيْن الحركة الدينية والحزب السياسي؛ إذ تحاول الحركة الدينية فرض رؤيتها على الحزب السياسي مِن خلال التدخل في شئونه الداخلية.

بدأت الأزمة بيْن السياسة والدين عندما أشاد الناطق باسم حزب النور، محمّد يُسري سلامة، بالروائي المصري نجيب محفوظ، الذي ترى بعض الشخصيات السلفية أنه أهان الدين، وحاول سلامة العمل مع قوى غير سلفية وثورية ما أدى إلى استياء الدعوة السلفية، فأحالته إلى هيئة تحقيق تابعة لها بدل تلك التابعة إلى حزب النور، لم يوافق سلامة على هذه الخطوة، واستقال مِن منصبه كناطقٍ رسمي باسم الحزب علاوةً على ذلك حاول بعض أعضاء الحزب ومِن بينهم رئيس الحزب نفسه وضع قواعد واضحة لإدارة العلاقة بيْن الحركة الدينية والحزب غير أن محاولتهم باءت بالفشل فقرّروا الخروج مِن حزب النور.

تواجه الأحزاب السلفية في تونس التحدّي نفسه، لكن في سياق مختلف، فعلى عكس حالة حزب النور حيث تتدخل الحركة الدينية في أعمال الحزب السياسي، لا يزال أعضاء حزب جبهة الإصلاح يحاولون تحديد طبيعة علاقتهم مع المحيط الديني، وإلى أي مدى يمكن أن يكون للحزب أو أعضائه دورٌ ديني.

لعلّه من الصعب تحقيق فصل تام بين الدين والسياسة، لكن غياب الحدود الواضحة تؤثّر سلبًا على كليهما؛ إذ أنّ تدخّل شخصيات سياسية في المجال الديني يحدّ مِن مصداقية خطابها وأنشطتها الدينية، هذا في حين أن تدخّل الشخصيات الدينية في الشأن السياسي يجعل العمل السياسي يبدو عرضةً إلى التلاعب.

مِن الضروري خلق نوع من التمييز بين المجالين الديني والسياسي فيما يتمّ التسليم بأنه من غير الممكن الفصل التام بينهما، أمّا النقطة المحورية في هذا الشأن فيجب أن تكون التمييز المؤسسي بين المجالين وأنشطتهما، وفي خاتمة المطاف، يساعد هذا الأمر لاحقًا الحزبين على تعزيز صورتهما كفاعلين سياسيين مستقلّين لا تتلاعب بقراراتهما حركات أو شخصيات دينية، ولا تتدخّلا بالمجال الديني في الوقت نفسه بغية إحراز مكاسب سياسية.

غياب الرؤية السياسية للدولة:

أتى قرار الأحزاب السلفية بالخوض في أنشطة سياسية نتيجةً للفرص التي وفّرها المناخ السياسي الجديد بعد الربيع العربي غير أن أنشطتها السياسية بقيت على مستوى القبول بالآليات، كذلك لم تنتقل هذه الأحزاب إلى مستوى وضع تصور سياسي شامل يتضمّن رؤية السلفية لشكل الدولة وعلاقتها بالشريعة.

ويعود السبب جزئيًّا إلى الانخراط المتسرع للأحزاب السلفية في العمل السياسي مِن دون أخذ الوقت الكافي للتفكير بصياغة مشروع سياسي، هذا إضافةً إلى أن مشاركتها المباشرة في الانتخابات المتتالية لم تُتِح لها الفرصة للتفكير بهذا المشروع، علاوةً على ذلك، للأحزاب السلفية رؤية ضيّقة لمفهوم الدولة، وهي غالبًا ما تخلط بينه وبين مفهوم النظام السياسي، في حين أن الدولة الحديثة تتجاوز مثل هذه الرؤية.

أتى الأستاذ في العلوم السياسة (ألفريد ستيبان) بنظرية قد تساعد الأحزاب السلفية على حلّ العلاقة الإشكالية بين الدين والدولة، فاستخدم مصطلح "كيان الحكم" (polity) التي تتضمّن بحسب قوله، ثلاثة مجالات: (الدولة، المجتمع السياسي، والمجتمع المدني)، ستتطلّب المحاولات لوضع رؤية سياسية مِن جانب كلٍّ مِن حزب النور وحزب جبهة الإصلاح تجاوز برامجهما السياسية العامة، والقيام بجهدٍ فكري لبلورة رؤية تبيِّن شكل وطبيعة دور الشريعة على كل هذه المستويات؛ إذ أن تقليص الدولة إلى شكل مِن السلطة السياسية وحسب، حفّز الأحزاب السلفية وغيرها مِن الأحزاب الإسلامية على صبّ جهودها على تطبيق الشريعة مِن أعلى، أمّا "كيان الحكم" (polity) فهو على عكس ما سبق يفتح آفاقًا جديدة للتبصّر بالعلاقة بين الشريعة وبين كلٍّ مِن هذه المستويات.

وفي هذا الإطار ينتقل السؤال مِن مسألة ما إذا كان يجب تطبيق الشريعة إلى أي أحكام مِن الشريعة ينبغي تطبيقها؟ وعلى أي مستوى؟ ويتعيّن على حزب النور وحزب جبهة الإصلاح أن يقرّرا أي أحكام يجب على الدولة اتّباعها، وأي أحكام يمكن تبنّيها في خططهما داخل المجتمع السياسي، وأي بنود يمكن إبقاؤها في عهدة مؤسسات المجتمع المدني كي تعمل على نشرها مِن خلال أنشطتها الدينية والاجتماعية.   

خاتمة:

في ضوء فَشل الطبقة السياسية العربية في تأمين نموذجٍ بديل للتغيير السياسي السلمي غداة الانتفاضات العربية، فإن العديد مِن الشباب الغاضبين الذين نزلوا إلى الشوارع بشكلٍ سلمي للمطالبة بالتغيير، لا يجدون خيارات عدة لانتهاج التغيير الذي يرغبون فيه، فيبرز الجهاد كخطّة بديلة لتغيير أشكال السلطة في الدول العربية.

في هذا السياق يجدر بالطبقة السياسية العربية -وبالأخصّ الحركات السياسية الإسلامية- أن تعيد النظر في مواقفها السياسية؛ هذا إذا ما أرادت أن تصيغ خططًا سياسيةً قادرة على أن تستعيد ثقة شرائح مِن المجتمع  تميل إلى الجهاد، وأن تعيدها إلى النشاط السياسي السلمي.

وإذا كانت الأحزاب السلفية في تونس ومصر تأمل في البقاء كحركات سياسية فاعلة فعليها أن تراجع بشكلٍ جذري التحديات التي واجهتها في غضون السنوات الخمس المنصرمة، وإيجاد حلول لهذه التحديات تحديدًا، عليها أن تركّز على تأمين آليات تواصل أكثر فعاليّة مع قواعدها الشعبية داخل الحركة الإسلامية وخارجها، والتمييز بين العمل السياسي وبين النشاطات الدينية، وأخيرًا أن تصيغ برنامجًا سياسيًّا شاملاً يعيد النظر في العلاقة بين الدولة والشريعة".

تعليقات على البحث:

(1) لا شك أن حزب النور قد فقد بعد موقفه في "30-6" طائفة مِن المتعاطفين مع التيار السلفي بصفة عامة؛ إذ تأثر كثير منهم بما حدث للإخوان مما دفع بعضهم في اتجاه الخروج للمظاهرات مع الإخوان، إلا أنه وبعد أن اتجه الإخوان إلى انتهاج قدرٍ مِن العنف مرفوض سلفيًّا تراجع معظم هؤلاء عن دعم الإخوان، ولم يبقَ داعم للإخوان إلا مِن الإخوان أو مِن أنصار تيارات العنف التي تشتكي التيارات السلفية مِن ذيع تسميتها بـ"السلفية الجهادية"، رغم أن هؤلاء يعادون السلفيين الإصلاحيين عداءً وصل إلى حد اغتيال د."مصطفى عبد الرحمن" -رحمه الله وأنزله منازل الشهداء- أمين حزب النور بمحافظة شمال سيناء ومرشح الحزب هناك.

ولكن هؤلاء الذين عادوا عن دعم الإخوان: هل عادوا إلى دعم النور؟ المشاهد أن بعضهم قد عاد فعلاً إلى دعم النور، بينما يعيش كثير منهم حالة مِن الصمت والكمون وفقدان البوصلة بصورة أو بأخرى، وهي فترة طبيعية متوقعة لمن يعود مِن طريق إلى آخر.

وأما نتيجة الانتخابات فمن ناحية قياس الشعبية؛ فقد حقق حزب النور نحوًا مِن 30% مِن أصوات قائمة غرب، وهي ذات النسبة التي حققها في أوج رواجه، وإنما المشكلة في نظام الانتخابات كما فصَّلتُ ذلك في مقالة: (تحليل نتائج حزب النور في المرحلة الأولى من انتخابات 2015).

(2) رواية الكاتب لنشأة حزب النور ثم لانفصال الوطن عنه اعتراها كثير مِن عدم الدقة، ولعل هذا ما وصله، والخلاصة -ودون الخوض في تفاصيل-: فيمكن القول بأن الممارسة السياسية أفرزت كتلتين في الحزب اختلفتا في الرؤى، انفصلت الكتلة الأصغر بطبيعة الحال في كيان جديد، وهو حزب الوطن، بينما بقيت القواعد كلها تقريبًا مع حزب النور؛ مما دفع حزب الوطن بعد الانفصال لتقديم نفسه كممثل للتيار السلفي العام إلا أنه نازعه في هذا حزب الأصالة، وحزب الفضيلة، ومشروع حزب الراية، كما أن الأحداث ووقوف كل هذه الأحزاب مع الإخوان -والذين جنحوا فيما بعد إلى العمل الثوري- جعل كل هذه الأحزاب أحزابًا سياسية بلا عمل سياسي، وبلا قواعد، حيث أصبحت القواعد الفاعلة في هذا التيار ما بين شخص إخواني محافظ على انتمائه وما بين عضو في التيار الثوري العام.

(3) وافق حزب النور على صيغة المادة الثانية في الدستور المصري وفيها أن الشريعة المصدر "الرئيسي" وليس الوحيد، وفي الواقع أنه لا يوجد فرق بيْن الأمرين إذا علمنا أن الشريعة الإسلامية في باب المعاملات تضع ضوابط، وتمنع بعض صور المعاملات التي تعود بالضرر على الجانب الإنساني في المعاملات المادية مثل: "الربا والقمار"، ويبقى أن الأصل في أي صورة معاملة الإباحة طالما لم يوجد فيها شيء مِن المنهيات، كما تفتح الشريعة باب إلزام الناس في المعاملات بإلزامات يقتضيها الواقع طالما كانت محققة لمقاصد الشريعة، بما يعرف بالمصالح المرسلة.

(4) لقد حاول حزب النور المحافظة على التجربة الديمقراطية والخروج مِن الدوامة التي وضع الإخوان فيها أنفسهم بأقل الخسائر؛ فاقترحوا على د."مرسي" بعض الإجراءات كتغيير رئيس الوزراء، والحوار مع المعارضة، ثم لما خرج الناس ضده؛ نصحوه بالاستجابة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة "وهو ما ادعى الإخوان لاحقًا أنهم كانوا مستعدين له، ولو فعلوه لانتهت المشكلة"؛ فتدخل الجيش بناءً على إنذارين وجههما قبل عزل د."مرسي" والذي فسَّره حينئذٍ بأنه إنذار للمعارضة رغم أن الظاهر كان خلاف ذلك، وبالتالي تدخل الجيش بعد الإنذارين.

وشارك حزب النور في مرحلة ما بعد د."مرسي" كأي حزب سياسي يريد أن يبقي لرؤيته مَن يدافع عنها سياسيًّا.

(5) تبنى الإعلام الإخواني خطابا مؤقتًا يزهِّد في العملية السياسية واعتبارها عبثًا؛ لأنهم اختاروا النهج الثوري الذي يتبع أساليب كثيرة هي مِن وجهة نظر السلفيين أساليب صدامية، وبالتالي أوجد هذا مناخًا عامًّا رافضًا للمشاركة السياسية.

وتغلب حزب النور على هذا المناخ بصورة أو بأخرى حتى جاءت الحملات الإعلامية المنظمة التي شنتها وسائل الإعلام الممولة مِن رجال أعمال يتعاملون مع السوق السياسي بنفس منطق السوق التجاري في محاولة استنساخ تجربة "أحمد عز" القاسية، ووجَّه هؤلاء تهمًا لحزب النور بأنه الوجه الآخر للإخوان، والوجه الآخر لداعش! فأوجد هذا نوعًا مِن الإحباط العام لا يشغل بال حزب النور فقط، ولكن يشغل بال الدعوة السلفية، وكل أصحاب المنهج الإصلاحي خوفًا مِن أن يؤدي المناخ العام إلى انتشار الفكر الصدامي كما رصد الكاتب.

(6) يحاول حزب النور دائمًا أن يفتح باب عضويته، بل الترشح على قوائمه لكل مَن يحترم مرجعية الشريعة الإسلامية، وأما باب التعاون فأظن أنه أشمل مِن هذا، ويكفي أن يكون الموضوع المطروح متفقًا على أهميته بيْن الطرفين، ومِن ثَمَّ يقف الحزب وراء الحفاظ على الدولة، ويقف الحزب أمام أي عدوان على أقباط مصر أو أي عدوان على زائري مصر، وله بياناتٍ واضحة في واقعة مقتل الأقباط في ليبيا، وفي استنكار الحوادث الإرهابية في العالم أجمع، ومِن آخرها حادث فرنسا.

(7) لم أكن أفضِّل أن يخوض الباحث في واقعة محمد يسري -رحمه الله تعالى-؛ فالرجل رحل عن عالمنا، وهو للعلم لم يترك النور إلى الوطن، وإنما تركه لحزب الدستور، وفي فراش مرضه أبدى ندمًا على هذا الأمر أيضًا، وهذا ما يؤكد أن محمد يسري -رحمه الله- كان مترددًا بيْن أن ينخرط في حزب سياسي يدافع عن مرجعية الشريعة التي يؤمن بها وبين أن يكتفي بالانخراط في حزب يدافع عن الحريات ولا يهتم بوضع ضوابط هذه الحرية، وبالتالي فقصة محمد يسري مِن أولها إلى آخرها واقعة شديدة الخصوصية.

(8) حزب النور يتبنى مرجعية الشريعة، بمعنى أنه يرى أن الدين حاضر دائمًا بالشريعة "والتي بطبيعتها تمثـِّل ضوابط عامة للاجتهاد البشري في تنظيم الحياة".

وأما العلاقة بين الدعوة السلفية وحزب النور فيمكن هنا أن نسلك طريقة التعريف بالمثال، فنقول: إنه أشبه ما تكون بعلاقة حزب العمال في بريطانيا بالنقابات العمالية هناك، وهو أمر ليس ببدع مِن الأحزاب السياسية في العالم كله "حزب وحاضنة اجتماعية له".

وحزب النور يسعى دائمًا لتوسيع حاضنته الاجتماعية، ولكنه لا يستطيع أن ينفصل عن مشروعها، وفي ظل هذه العلاقة يكون هناك نوع مِن التأثير المتبادل بين الحزب والدعوة في المشروع الفكري لها دون تداخل في هيكلة كل منهما.

ومِن هذا المنطلق أكتب أنا مثلاً كواحد ممن يرى أن مشروع حزب النور يمثـِّل توجهه السياسي، وإذا جاز للباحث مشكورًا أن يقدِّم أطروحته لحزب النور مِن موقعه كباحث في العلوم السياسية؛ أفلا يجوز لمن يرون في الحزب أنه يمثِّل ذات التوجه الفكري لهم أن يؤيدوه في مؤتمراته الانتخابية أو يكتبوا مقالاتٍ توجيهية في شأنه أو يناقشوا بعض الأطروحات المعروضة عليه؟!

ومِن العجيب أن عالم الأحزاب في مصر يشهد وجود أحزاب مَلكية خاصة ينشئها رجل أعمال، ولا يكون عضوًا فيها، ولا يشغل فيها منصبًا تنفيذيًّا وإنما يتعامل معها ماليًّا وإعلاميًّا كإحدى شركاته تمامًا، ومع هذا لا ينشغل به الإعلام "لأنه واحد مِن أباطرته"، وهذا بدوره يؤثر على كثير مِن الأوراق البحثية المقدَّمة في هذا الشأن.

(9) تبدو تلك المقاربة قريبة جدَّا مما يطرحه السلفيون الإصلاحيون، والدعوة السلفية تتحدث دائمًا عن "إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع وإصلاح الدولة"، وترى أنها مراحل متوازية ومتعاقبة في منظمة عمل متوازية، بمعنى أنها جميعًا يجب أن تعمل جنبًا إلى جنب، ومتعاقبة مِن حيث الأثر بحيث إن ناتج كل منها هو مؤثر في الأخرى، وبالتالي ترى الدعوة السلفية إن إصلاح المجتمع أوسع بكثير مِن إصلاح الدولة، وترى أن إصلاح الدولة يخضع لاعتبارات المصالح والمفاسد "وهو ما يقابل فن الممكن في عالم السياسة، ولكن مع الحفاظ على الثوابت الأخلاقية وإجراء هذه الموازنة بين المصالح والمفاسد وفق قواعد شرعية وواقعية واضحة وشفافة"، ومع هذا يبقى أن هذا الجانب يحتاج إلى مزيدٍ مِن البسط لم تسمح بها الظروف التي أشار إليها الباحث.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

الكلمات الدلالية