الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

عجيبٌ أمْر من يرى القذاة ولا يرى الجِذع

معرفة الإنسان بعيوب نفسه والعمل على تلافيها وعلاجها؛ قد يكون سببًا في عودة الحياة مرة أخرى إلى قلبه

عجيبٌ أمْر من يرى القذاة ولا يرى الجِذع
شحاتة صقر
الاثنين ٢٣ نوفمبر ٢٠١٥ - ١١:٢٣ ص
31938

عجيبٌ أمْر من يرى القذاة ولا يرى الجِذع

كتبه/ شحاتة صقر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُبْصِرُ أحَدُكُمُ الْقَذَاةَ في عَيْنِ أخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنهِ». (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

الْقَذَاةَ: هي ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ، والمقصود بها الأشياء الهيِّنة الصغيرة التي لا تكاد تُدرَك، يُبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه، لكنه في نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والْجِذع هو سَاق النَّخْلَة وَنَحْوهَا، فكأن عيبه كجذع النخلة موجودٌ في عينه، ثم هو يتجاهله ولا ينشغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها.

إن تلك الشخصية المريضة الظالمة غير المنصفة ترى الصغير من عيوب الناس وتعيِّرهم بها مع أن فيها من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة، وقد قال العلماء: إن ذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح، فرحم الله مَن حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه وكَفَّ عن عِرض أخيه وأعرض عما لا يعنيه، فمن حفظ هذه الوصية دامت سلامته وقلت ندامته.

 ولله در القائل:

أرى كل إِنْسَان يرى عيبَ غَيره *** ويعمى عَن الْعَيْب الَّذِي هُوَ فِيهِ

وما خيرُ مَن تَخْفَى عليه عيوبُه *** ويبدو له العيبُ الذِي لِأخيهِ

يكفى الْفَتى مَا كَانَ مِن شأنِه *** وَتَرْكه مَا لَيْسَ يعْنيه

إن أمر الانتباه والتدقيق في أخطاء الغير والغفلة عن أخطاء النفس، تجده في تعامل الجار مع جاره، والمسئول مع مرؤسيه، والعكس، وتجده في تعامل الرجل مع زوجته فيرى أخطاءها الصغيرة كجبل أحد، بينما جبال عيوبه لا يراها إطلاقًا، وكذلك تفعل المرأة مع زوجها ترى حبَّته قُبَّة ولا ترى قباب عيوبها الكثيرة.

وهذا الخلق الذميم تجده أيضًا في واقع بعض المؤسسات الدعوية فتجدها ترى عيوب غيرها ولا ترى أو حتى تفكر في البحث عن أخطائها عن طريق عملية التقويم الذاتي، بل إنها أحيانًا تستنكف عن قبول النصيحة حتى من أبنائها، وتُعامِل مَن يقدم لها النصيحة -حتى بضوابطها الشرعية- كأنه عدو لها يسعى في هدمها، فأمثال تلك المؤسسات شعارها: «أنت إما معنا وإما علينا، فعليك أن تختار» ، «إما أن تكون معنا على طول الخط وإما أنت ممن يسعى لهدمنا»، وأمثال هؤلاء يتَّبعون في إدارتهم مسلك الصوفية: «من اعترض انطرد».

وقد نبهنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أهمية خلق الإنصاف بين الزوجين فقال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).  (لَا يَفْرَكْ): لَا يُبْغِضُ.

مَن الذي ما سَاءَ قَطْ؟ *** ومَن له الحُسنَى فَقَطْ؟

وما أحوجنا أن نعيش في ظلال هذا الخلق والأدب النبوي الرائع، وإن كان المفهوم من هذا الحديث في حق الزوجين, فينبغي أن نعممه على جميع تعاملاتنا، فإن العبد التقي الخفي لا ينشغل بذنوب العباد وينسى نفسه، لا يتتبعَ عثراتِ غيرِه، وينسَى نفسَه، بل يهتم بتصويب أخطائه ولا يقع فيما حذرنا منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث. فطوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وكان حاله كحال الربيع بن هيثم عندما قيل له: «ما نراك تَعِيبُ أحدًا؟!»، فقال: «لست عن نفسى راضيًا حتى أتفرغ لذَمّ الناس»، وأنشد:

لِنَفْسِي أَبْكِي لَسْتُ أَبْكِي لِغَيْرِهَا *** لِنَفْسِي فِي نَفْسِي عَنِ النَّاسِ شَاغِلُ

وقال أبو حاتم بن حبان: «الواجب على العاقل لزوم السلامة؛ بتَرْك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراحَ بدنَه، ولم يُتعِب قلبَه، فكلما اطَّلع على عيبٍ لنفسه هَان عليه ما يَرى مثلَه مِن عيبِ أخيه، وإنّ مَن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسِه عمِيَ قلبُه، وتعب بدنُه، وتعذر عليه تَرْكُ عيوب نفسه، وإن مِن أعجز الناس مَن عاب الناس بما فيهم، وأعجزُ منه مَن عابهم بما فيه، ومَن عاب الناس عابوه، ومَن ذمَّهم ذمُّوه».

وقال عون بن عبد الله : «لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه». وقال محمد بن سيرين: «كنا نُحدَّث أنّ أكثر الناس خطايا أفرغُهم لذكر خطايا الناس». 

عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ *** دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ *** عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى

إن الكثيرين منا يفتقدون المحاورة الصريحة مع الذات، فعلينا ألا نخادع أنفسنا، ولا نغالطها، وعلينا أن نقوم بعملية التقويم الذاتي لأنفسنا، فمعرفة الإنسان بعيوب نفسه والعمل على تلافيها وعلاجها؛ قد يكون سببًا في عودة الحياة مرة أخرى إلى قلبه الذي ربما يكون قد أوشك على الموت. وكُل منا أدرَى بعيوب نفسه إن أحسن التنقيب عنها واجتهد في إصلاحها، لا سيما إن كانت لا تزال في حجم القذاة، فيمكنه تداركها قبل أن تصبح كالجِذع أو كجبل أحد.

فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس، ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر:

عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ *** دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ *** عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى

وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه. يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلًا ورعًا أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر: أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله: "ما به به وما بي بي" يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه. وعن مجاهد قال: ذكروا رجلًا -يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك". وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولًا وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء "إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك"، فإذا فتشت سوف تجد كثيرًا جدًّا يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك. وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة في غيره وأحكمها. وعن بكر قال: تساب رجلان، فقال أحدهما: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. يعني: تشاتما وسب أحدهما الآخر، فرد الشخص المسبوب فقال له: محلمي عنك -يعني: الذي يجعلني أتحلم وأصبر عن أن أرد عليك بالمثل- ما أعرف من نفسي. يعني: أنا أعرف أن في نفسي من العيوب الكثير، فهذا يجعلني عونًا لك عليها، ولست أتخذ موقف الدفاع عنها؛ لأن فيها من العيوب ما تستحق به أن تُذم، ولذلك قال له: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحدًا؟ فقال: لست عن حالي راضيًا حتى أتفرغ لذم الناس ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقي زاهد زاهدًا فقال له: يا أخي؛ إني لأحبك في الله. فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله -يعني: بدل أن تحبني في الله- فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي فيما أعلم من نفسي شغل عن بغضك. يقول الشاعر: قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيبًا في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. يعني: هذا يدل على أنه إنسان غافل؛ حيث يشتغل بتراب وقع على ثوب غيره أو نملة تمشي على ثوبه، في حين أن داخل ثيابه هو العقارب والحيات والآفات تنهش فيه، فيشتغل بهذا الذي لا يعنيه -وهو أمر يسير مهما كان- عن هذا الأمر الخطير الذي يحدث به. وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: "كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس" أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com