الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الولاء والبراء -9

صور ليست من الموالاة

الولاء والبراء -9
عبد المنعم الشحات
الاثنين ٠٤ يناير ٢٠١٦ - ١٤:١٤ م
2028

الولاء والبراء (9)

عبد المنعم الشحات

صور ليست من الموالاة

هذا الباب من الأهمية بمكان لضبط هذه المسألة بحيث لا إفراط ولا تفريط في الجانبين، فحينما نقول: صور ليست من الموالاة ربما كان للكافر في بعضها حق فنحن نعطي كل ذي حق حقه لكن هذا الحق يعرف من كتاب الله -عز وجل- وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن لأحد حقًا ولو كان كافرًا فيجب أن يعطى هذا الحق له، فالمسألة قد يتعلق بها حق للكافر وقد يتعلق بها حق للمسلم  لأن الله تبارك وتعالى قد وسع عليه كما في باب البيع والشراء مع الكفار في باب نكاح الكتابيات، في باب أكل طعام أهل الكتاب فلا يجوز لك أن تدعي درجة أعلى من درجات الولاء للدين فتحرم على الناس ما أباحه الله لهم إذن فهذا الباب مهم لمنع الإفراط والتفريط وكما أشرنا من عجيب الأمر أن تجد ناسًا يجمعون بين قمة الإفراط وقمة التفريط في نفس الباب الواحد فيفرط في المداهنة والمصارعة في الذين كفروا والثناء عليهم ولدعاء أن من حقهم أن يدعوا إلى دينهم الباطل  وفي نفس الوقت قد تجده يحرم على الناس أنواعًا من التعامل مع الكفار أباحها الله -عز وجل- وأباحها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول: «هناك صور يظن أنها من الموالاة  وما هي منها فمن ذلك الاستعانة بغير المسلم لغرض حماية الداعي من أدلة  حماية أبي طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد حر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك حتى قال: «ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب» ونصرة أبي طالب للنبي -صلى الله عليه وسلم- مشهورة في كتب السير إلى درجة يبلغ الأمر معها إلى القطع بها وهي ثابتة في أحاديث صحيحة كثيرة، وقد قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-  حماية أبي طالب له ولعلنا أشرنا في غير هذه المناسبة أنه مع كل هذه النصرة التي نصرها أبو طالب للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما مات أبو طالب قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فنهاه الله -عز وجل- فلم يستغفر [ونزل] ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113] فلم يستغفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب وإنما جاء -رضي الله عنه- فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن عمك الشيخ الضال قد مات» ذكره ابن حجر في فتح الباري ساكتًا عليه فهو حسن وحسنه الألباني :، وقارن بين كلام علي -رضي الله عنه-  على أبيه وهو الذي نصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين ألفاظ التمجيد والثناء التي تقال على أئمة الكفر ممن آذوا الله ورسوله وقاموا بنشر الباطل بين المسلمين، بمجرد ألفاظ معسولة تقال لا رصيد لها من الواقع فيصار المنافقون والعلمانيون وهذا متوقع منهم ولكن الطامة الكبرى  أن يخرج هذا ممن ينسب إلى الدعوة وإلى الإسلام ماذا يريدون من هذه المداهنة الحماية وهذا مما لا يجوز للمسلم أن يطلبه على حساب دينه ولذلك لم يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي في حياته أي نوع من أنواع التنازل عن دين الله تبارك وتعالى فهو يريد أن ينصره فهذا قدر الله الذي جعل مثل هذا الرجل يعظم شأن عشيرته تعظيمًا شديدًا ويحب ابن أخيه حبًا طبعيًا شديدًا ولذلك جعل بني هاشم كلهم دون النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قال علي -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن عمك الشيخ الضال قد مات» قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اذهب فواره» وليست جنازة مهيبة، فقال علي -رضي الله عنه-: «إنك قد مات مشركًا» فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اذهب فواره» ثم إن الله -عز وجل- إكرامًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا أمر على خلاف القاعدة جعله يشفع في أبي طالب ليس في الخروج من النار لأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة وإنما شفع له بدلًا من أن يكون في الطبقات السفلى من النار التي فيها المشركون صار ينتعل نعلين من نار يغلي منهما دماغه وفي هذا عبرة لمن يعتبر، والشاهد هنا الاستدلال بما ثبت في السنة وكتب السير من قبول النبي  -صلى الله عليه وسلم- حماية عمه أبي طالب فالمسلم لا يرد الحماية إذا وجدها فإنها قدر ساقها الله إليه ولكن [ذلك بشرط] أن لا يكون هناك مداهنة على حساب دين الله تبارك وتعالى.

يقول: «وأيضًا قبول أبي بكر -رضي الله عنه- الدخول في جوار ابن الدغنة»

وفي هذه القصة بتمامها فوائد عظيمة للمسلم، من أنه لا ينبغي للمسلم أن يقبل على هذه الحماية بحيث يداهن على دينه بل والله أقل من ذلك فإن أبا بكر قد رد جوار ابن الدغنة بعد ذلك فإنه قد هم بالهجرة إلى الحبشة وخرج من مكة مهاجرًا إلى الحبشة بعدما استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  فصار مسيرة يومين أو ثلاثة حتى لقيه ابن الدغنة فقال: «إلى أين يا ابن أبي قحافة؟!» فقال: «إني مهاجر إلى ربي» فقال: «أو مثلك يخرج عد إلى مكة فافعل ما كنت تفعل من مواساة اليتيم والقيام على الأرملة والمسكين وأنا أحميك» فعاد أبو بكر في جوار ابن الدغنة فدخل ابن الدغنة [مكة] وصرخ في قريش: «إني قد أجرت ابن أبي قحافة» فلم يرفض أبو بكر -رضي الله عنه- هذا الجوار من هذا الرجل المشرك، فالعرب لا سيما قريش قبل بعثت النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ما كانوا فيه من الشرك والانحطاط إلا أنهم كانوا أمثل الأمم فكان عندهم الجوار وصدق العهد لا تجد عندهم الخيانة والغدر وفيهم تعظيم صلة الرحم فلم يكونوا ككفار اليوم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة وديدنهم السياسة الميكافيلية فأنت تتعامل مع مشركين هم أحط أنواع المشركين على مر العصور حيث يعلنون أن مبادئهم أنه لا مبدأ لهم فهذا هو الذي يقومون عليهم، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتعاملون مع قوم متى أعلن الواحد منهم أمرًا فإنه لا يكذب فيه ومتى قال أنه يحمي فلانًا لقرابته فهو يحميه ويموت دونه ولذلك خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى الطائف بعد وفاة عمه أبي طالب وكان ما كان من صدود أهلها عنه وخشي إذا دخل مكة مرة ثانية بعدما بلغهم محاولته الدخول إلى الطائف أن يضاعفوا في أذاه لأنه حاول نقل الدعوة إلى بلد آخر فدخل -صلى الله عليه وسلم- في جوار المطعم بن عدي فأمر المطعم أبناءه أن يلبسوا السلاح ثم نادى في الكعبة إني قد أجرت محمدًا فلا يمسه أحدكم بسوء ولذلك رد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيادي التي كانت للكفار عنده لأن منهم من نصره ومنهم من آواه وكان من أعظم ما فعله مع أبي طالب أنه كان خيرًا معين وظهير لذريته فكان يكفل عليًا بعد مماته بل وفي حياته، وزوجه ابنته رغم أنه خطبها قبله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وكذلك رعايته لجعفر وأبناء جعفر، فرد -صلى الله عليه وسلم- كل يد كانت لأبي طالب عليه وقال يوم بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لوهبتهم إليه»  فإن الكفار إذا أسدى إلى بعض المسلمين خدمة يمكن أن يرد إليه شيء لا مداهنة فيه، فالأسرى سيدفعون الفداء فلو كان المطعم حيًا وطلبهم من دون فداء لأخذهم لأن أمر الأموال أمر يسير طالما أنه كافر كان له في يوم من الأيام يد على المسلمين، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يكون رد الجميل لو كان هناك كافر [أسدى معروفًا إلى المسلمين] ولكن هذا الكلام عن كافر عنده مبادئه، فهذا كافر لبس السلاح وأعلن أنه قد أجار النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا له يد على المسلمين ولكن لن يكون رد جميله إليه بأن يقال له: لست كافرًا، أو أن دينك دين حق، أو أدع لدينك كيف شئت أو غير ذلك بل رده أنه يأخذ مالًا فليأخذ مالًا، فالله -عز وجل- أباح قتل الأسرى وأباح المن عليهم فإذا كان أسرى يخصون رجلًا كافرًا حسن الرأي في المسلمين فليأخذهم وقد كان المطعم بن عدى قد مات ولكن يضع النبي -صلى الله عليه وسلم- القاعدة من أن هذا الرجل الذي له يد على المسلمين لو كان حيًا وطلب شيئًا ليس فيه مداهنة مثل الأسرى الذين يجوز المن عليهم بدون مال أو فداؤهم بالمال فإذا طلب من دون مال جاز إعطاؤهم له وذلك لأنه أجار النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا ما.

نعود لأثر ابن الدغنة: عاد ابن الدغنة بأبي بكر وأعلن جواره لأبي بكر الذي كان يصلي أمام داره وهنا يظهر بجلاء أثر الدعوة بالسلوك فكان أبو بكر يصلي ويقرأ القرآن ويبكي فكان النساء والصبيان يجتمعون حوله ففزعت قريش من ذلك فكان الحسي العربي في هذا الوقت نقيًا فكان كل من يسمع القرآن يقولك محال أن يكون هذا من قول البشر ، دعك من الناس اليوم الذين ملئت أذانهم بالأغاني والموسيقى ناهيك عن بعدهم عن اللسان العربي السليم.

ذهبت قريش إلى ابن الدغنة وقالوا له أنت أجرت هذا الرجل وهو يؤذينا(1)  فقال : «إني لم أجرك لتؤذي قومك، فإن شئت فادخل دارك وافعل ما شئت» فقال له أبو بكر -رضي الله عنه- «أولك في غير ذلك؟» فقال: «وما هو؟» قال: «أرد عليك جوارك» فقال: «نعم» فذهب فنادى إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري، فانظروا ماذا أنتم منتهون معه، فهذا الفعل من أبي بكر أقل ما يدل عليه - إلا لم يكن يفيد رد  حماية الكافر الذي سيشترط علينا أمورنا- الاستحباب، لأن ابن ابن الدغنة لم يطلب من أبي شيئًا فيه مداهنة فلم يطلب منه الاعتراف بالباطل أو أن يثني على المناهج الكفرية بل قال له أن يقرأ القرآن في داخل داره وهذا الأمر يمكن أن يكون في بعض الأحيان من دون أن يقوله ابن الدغنة أو غيره هو المطلوب أو اللازم شرعًا لو كان يخشى مفسدة كبيرة، فالعزة الإسلامية حينما شعر أبو بكر أنه لأجل جواره سيفاوضه في دينه فقال له: «أرد عليك جوارك» إذن يجوز للداعي أن يقبل حماية المشرك أو يطلبها ولكن بشرط أن لا يكون في هذا مداهنة على حساب الدين

لذلك يقول: «وليست العلة في قبول ذلك مجرد تمتع المسلمين بالراحة والحياة، ولكن للتمكن من نشر الإسلام، والدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-، أو النجاة من إيذاء الكفار وبطشهم؛ للقيام مستقبلًا بالدعوة إلى الله تعالى، وهذا بشرط أن لا يكون على حساب أحكام الإسلام، أو التنازل عن شيء منها، وأن يطمئن  إلى عدم خيانته للمسلم، أو كشف ما يطلع عليه من أمر الدعوة إلى الله سواء كان لجميل عليه للمسلم، أو صدق معاملة، أو حسن خلق» أي أننا نعلم أن العهود من ضمن ما تربى عليه أو ما يعظمه أو يكون المسلم قريبًا لهذا الكافر أو يكون له يد عنده وهو يريد ردها فلا بد من النظر بعين ثاقبة في مراد هذا الكافر الذي يعرض أن يحمي المسلم هل يطلب ثمنًا لذلك من الثناء على الكفار والرضا بالكفر؟ أم أنه له غرض بعيد عن المداهنة فهذا مما ينبغي أن ينظر إليه.

يقول: « ولا ضير على المسلم إذا استعان على ذلك بموقف المشرك المفيد لأي سبب من الأسباب.

وأما الاستعانة بهم في قتال الكفار».

هنا يختلف الأمر عما قبله فالمسلمون هنا عندهم شوكة ويجاهدون،  أما ما قبله فالمسلم مستضعف وبالتالي يمكن للمستضعف إذا وجد كافرًا يجير من استجار به أن يستجير به بشرط أن لا يكون هناك مداهنة.

أما هنا فالمسلمون لهم شوكة هل يجوز لهم أن يطلبوا من أحد من المشركين أن يعينهم؟ الراجح: لا،  فلا يطلبون، بل ولا يقبلون ذلك من الكفار، فلو تطوع بعض الكفار واستأذن إمام المسلمين أن يقاتل معه فعليه أن يقول له: «ارجع فلن أستعين بمشرك» كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن جاء يقاتل معه، أما إذا دخل من دون استئذان يمكن أن نتركه إذا كان يقاتل وأبلى بلاء حسنا وعلمنا أنه مصلحة في ذلك فلا بأس في هذا، وهذا بالنسبة في استعانة المسلمين بمشرك على قتال مشرك آخر أما أن يستعين بهم على قتال المسلمين فهذا المنع فيه أظهر.

يقول: «أما الاستعانة بهم في قتلا الكفار، فالراجح المنع منه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ارجع فلن أستعين بمشرك» وأما في قتال المشركين فمنعه جماهير العلماء لأنه تسليط للكفار على المسلمين ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾

أيضًا من الصور الجائزة:

2- المؤاجرة والمبايعة مع المشركين

قال البخاري في «صحيحه»: «باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب» ثم ساق بسنده عن خباب -رضي الله عنه- قال: «كنت رجلًا قينًا» أي: حدادًا، وكان من عادات العرب قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن السادة منهم لا يشتغلون إلا بالتجارة والقتال، فيقاتلون ويأتون بالسبي فيكونون عبيدًا يزرعون ويصنعون ويعملون بالحرف اليدوية كالنجارة والحدادة والزراعة ولم يكن السادة يفعلون شيئًا من هذا، وكان خباب -رضي الله عنه- من العبيد المشتغلين بالحدادة يقول: «فعملت للعاص بن وائل، فاجتمع لي عنده» أي صار له عنده مبلغ كبير، يقول: «فأتيته أتقاضاه، فقال: «لا، والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-» فقلت: «أما والله حتى تموت، ثم تبعث، فلا» قال: «وإني لميت ثم مبعوث؟!» قلت: «نعم» قال: «فإنه سيكون لي مال وولد فأقضيك» فأنزل الله تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [مريم: 77]

ففي هذا الحديث أن خبابًا وهو من السابقين الأولين إلى الله تعالى وكان يعذب ويؤذى وقصته شبيهة بقصة بلال-رضي الله عنهم- أجمعين فعمل للعاص بن وائل ثم جحده حقه، الشاهد أنه عمل له حدادًا قال ابن حجر في «فتح الباري»: «أورد فيه حديث خباب - وهو إذ ذاك مسلم - في عمله للعاص بن وائل وهو مشرك، وكان ذلك بمكة وهي إذ ذاك دار حرب، واطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك وأقره، ولم يجزم المصنف بالحكم لاحتمال أن يكون الجواز مقيدا بالضرورة، أو أن جواز ذلك كان قبل الإذن في قتال المشركين ومنابذتهم وقبل الأمر بعدم إذلال المؤمن نفسه» وهذه طريقة البخاري - فقال  باب هل يؤاجر... الخ ولم يقل: باب جواز- فإذا كانت المسألة ظاهرة الدلالة أو كانت الخلاف فيها ضعيف فإنه يقولها بصيغة الجزم أما إذا كانت المسألة محتملة فإنه يأتي بصيغة التمريض كما فعل هنا فقال: باب هل يؤاجر ... الخ ولكن الراجح أن الدليل دل على الجواز بلا معارض والإشكال أن العرب كانوا يترفعون عن العمل اليدوي فجاء الشرع فأمر بأن يأكل الرجل من عمل يده إذن الشرع جعل عمل اليد من النجارة والصناعة أو غير ذلك من أفضل كسب الإنسان، وقد نظر بعض الفقهاء إلى هذه المهن نظرة العرب من أنهم كانوا يخصون بها العبيد فهل يجوز للمسلم والحالة هذه أن المشرك ينظر إلى هذا العمل نظرة ترفع؟ فقال: لا، الراجح أن الدليل دل على الجواز وأن الشرع قد اعتبر هذا عملًا لا إشكال فيه ولأن الشرع غير نظرة العرب إلى هذه الأعمال ناهيك عن تغير ذلك تمامًا في زماننا فهناك مهن يستشرف لها كثير من الناس وهي داخلة في  المؤاجرة مثل الطبيب فهو يؤاجر نفسه ناهيك عن الصناعات من النجارة والحدادة فإنها كلها داخلة في باب الإجارة.

«وقال المهلب: كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين: أحدهما أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله» [وفي هذا رد على] الفتوى الباطلة التي يروجها البعض من جواز تقديم المسلم الخمر للكافر أو جواز تقديم لحم الخنزير له وهذا خلاف إجماع أهل العلم من أنه لا يجوز للمسلم أن يؤاجر نفسه عمل لكافر محرم عندنا فليست العبرة بأن هذا العمل محرم عنده أم لا؟ وإنما العبر بتحريمه عندنا أو لا. 

«والآخر أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين. وقال ابن المنير(2) : استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة ولا يعد ذلك من الذلة»

الحانوت: المحل، فإذا كان له مكان يعمل فيه حدادًا أو نجارًا أو نحو هذا من الصور، فيأتيه بعض أهل الذمة فيطلب منه أن يصنع شيئًا معينًا فيقول أن المذاهب قد استقرت على جوازه، ولا يعد ذلك من الذلة لأن الشرع لم يعدها كذلك هذا من جهة وتغير نظرة الناس منذ أزمنة بعيدة من جهة أخرى بعدما ضيق الشرع موارد الرق واحتاج الناس أنفسهم أن يتعلموا الزراعة والصناعة ويقومون بها ومن ثم فلا إشكال أن يعمل له.

يقول: «بخلاف أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية(3) له» ا.هـ      

فهنا يفرق بين الأعمال اليدوية كالنجارة أو الحدادة وإصلاح الآلات كالسيارات وغيرها ناهيك عن الأعمال الأخرى التي تدخل في نفس الباب ولكن فيها نوع من العزة مثل الطبيب أو غيره وهذا كله لا  إشكال فيه، لكن الذي فيه الإشكال أن يعمل بوابًا لكافر على منزله أو يكنس البيت أو يقوم بالأعمال التي يترفعون عنها فهذا لا يجوز، ولكن يجوز أن يؤاجره على عمل وعلى مدة وليست العبرة بالعمل والمدة، وكان بعض الفقهاء قديمًا يفرقون بين العمل والمدة كمسألة عرفية فكان يذهب إلى الحداد أو النجار ليعمل له سيفًا أو سريرًا فكانت إجارة الحرف على عمل، أما أعمال الخدمة من الكنس والطبخ فكانت على وقت فتشبه أن يكون عبدًا له وقد ذكر بعض الفقهاء هذا الضابط ولكنه ليس ضابطًا منضبطًا، ففي زماننا قد يمتلك كافر مصنعًا للنجارة يمتلك فيه يعمل عنده مسلم على وقت فهذا ما زال نجارًا وما زال يعمل عملًا يدويًا فلن تختلف المسألة إذا كانت الإجارة على عمل محدد أو كانت الإجارة على وقت يعمل فيه عملًا تنطبق على هذه الشروط إذا اشترط عليه أن يعمل من الساعة كذا إلى الساعة كذا عملًا معينًا على أجرة بمقدار كذا فهذه لا تختلف وإن كان بعض العلماء ذكر الفرق بين العمل الموصوف بالذمة وبين أن يؤاجره على الخدمة فترة معينة وقلنا هذا غالبًا لأن الانقداح في الذهن أن الأعمال التي لا إذلال فيها موصوفة في الذمة ولم يكن شائع عندهم وجود المؤسسات والمصانع الكبرى التي يمتلكها شخص  قد يكون كافرًا ويعمل عنده مسلمون أعمالًا ليست فيها خدمة ولا امتهان، وعلى ذلك فيشترط لذلك ثلاثة شروط:

1-      أن يكون العمل يحل مثله للمسلم.

2-      أن لا يعينه مما يعود ضرره على المسلمين.

3-      أن لا يكون هذا العمل مهانة.

والضابط هنا عرفي أي يرجع إلى العرف في معرفته.

يقول قال ابن قدامة في «المغني»: «لا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته نص عليه أحمد في رواية الأثرم فقال: إن أجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز وإن كان في عمل شيء جاز وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر: تجوز لأنه تجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة فجاز فيها كإجارته من المسلم» فبعض العلماء لا يشترط أن يكون في العمل مذلة.

يقول: «ولنا» وللحنابلة احتجاجًا لمذهبهم في اشتراطهم أن لا يكون العمل ذلة «أنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر وإذلاله له [واستخدامه] أشبه البيع يحققه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه والبيع لا يتعين فيه ذلك فإذا منع منه فلان يمنع من الإجارة أولى فأما من أجر نفسه منه في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب [وقصارته] جاز بغير خلاف نعلمه،  لأن عليا -رضي الله عنه- أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فلم ينكره» وليس أنه محبوس على خدمته فترة لأنه جعل له على دلو تمرة، ولو كان محبوسًا على عمل غير الخدمة فترةً فهي جائزة هي الأخرى فليست العبرة أن يحبس مدة وإنما العبرة بنوع العمل نفسه فلو جعل له ساعة في اليوم ليقم له البيت ويكنسه لم يجز أما لو قال له لك كذا من الأجر على أن تعمل عندي نجارًا من الساعة الثامنة حتى الرابعة جاز ذلك، أو من باب أولى الصورة التي قال فيها: «بغير خلاف نعلمه» وذلك حينما يطلب منه تصنيع سرير أو باب أو شباك دون أن يكون هناك مدة يلزم فيها ويحبس على عمل هذا الكافر، فالصانع الذي تتفق له على أن يصنع لك شيئًا دون تحديد مدة صناعته لك والشيء الموصوف في الذمة هو أبعد الصور من أن يتسلط الكافر على المسلم وإن الراجح أنه يلحق بها أن يعمل معين معين لفترة معينة.

يقول: «وكذلك الأنصاري ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه أشبه مبايعته وإن أجر نفسه منه لعمل غير الخدمة مدة معلومة جاز أيضا في ظاهر كلام أحمد». الحاصل:

أنه يجوز للمسلم أن يعمل عند الكافر بشرط أن يكون العمل حلالًا للمسلم دون التفات إلى استحلال الكافر له من عدمه، أن لا يعينه على ما فيه ضرر للمسلمين، أن لا يكون عملًا من أعمال الخدمة الممتهنة.

وبالنسبة إلى «أن لا يعينه على ما فيه ضرر للمسلمين لا يجوز لأحد أن يقول: أن إعانتهم على كل عمل عندهم ينتج منه أن تزيد  أرباحهم وتكثر أموالهم التي يحاربون بها المسلمين لأن مؤداه أن ينقض الحكم الشرعي، فالشرع أباح العمل عند الكفار وأباح البيع والشراء معهم مع العلم بأن هذا ضمنًا فحينما يأتي شخص بآخر ليسقى له نخلًا فإنه لا يعطيه مالًا دون منفعة يرجوها من ورائه وإنما يعلم أن ما ينفقه في إصلاحه النخلة سيأتي بعد بيعها، وهكذا... إذن فمعلوم أن الأطراف كلها في التعامل التجاري تبحث عن الربح، فمن أباح لك الشرع أن تتعامل معه أباح لك ضمنًا أن تسهم في زيادة أرباحه ما دام كان لك غرضًا من البيع والشراء فأنت ترى هذا البيع من وجهة نظرك أفضل لك لأن البيع والشراء هو التقاء نظرة البائع والمشتري فالبائع يرى أن الثمن المعروض بالنسبة له أفضل من السلعة والمشترى أن السعلة المعروضة بالنسبة له أفضل من الثمن فإذا لم يحدث هذا الالتقاء لم يتم البيع فإذن راعى الشرع مصلحة المسلم إذا وجد مصلحة في شراء السلعة مع الجزم أن الكافر يربح في بيعها أباح له أن يبيع ويشتري منه، فلا يصح أن يقال: زيادة ربحه إعانة له على المسلمين فيقال له: هذا قياس في مقابلة النص وأنت تعود على الأصل بالنقض لأنه لا يتصور أن يأذن الشرع بالبيع والشراء في الحالة التي تتأكد فيها أن الكافر يكون خاسرًا فقط فهذا أمر لا يتصور ولا يتم إذن فالشرع أباح وأذن ضمنًا أن يكون فيه ربح للكافر ما دمت محتاجًا لهذا البيع والشراء وسيأتي تفصيل أكثر لهذه القضية.

4-      البيع والشراء

قال البخاري رحمه الله في «باب البيع والشراء من المشركين وأهل الحرب» جزم هنا بالحكم لأن البيع والشراء لا إذلال فيه ولم يجزم به في الإجارة لخشية احتمال أن تكون هناك مخالفة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الإسلام يعلو ولا على عليه» ولذلك لما جاء الحديث بالجواز ترجم له بصيغة التمريض يعني على الفقيه أن ينظر هل هذا الحديث معارض لحديث: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» وكيف سيكون الجمع؟ وكما ذكرنا أن الجمع أن كل صور الإجارة ليست فيها إذلال فيكون ما يتعارض مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» فهذا غير جائزة أما التي فيها تعارض فهذه جائزة، والأمر أيسر في البيع والشراء لأن البائع والمشتري كلاهما على رتبة واحدة.

يقول: «ثم ساق بسنده عن عبد الرحمن بن أبى بكر - رضي الله عنهما - قال كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بيعا أم عطية؟ - أو قال: أم هبة- » . قال: «لا بل بيع» فاشترى منه شاة»

قال ابن حجر في «الفتح»: «معاملة الكفار جائزة إلا مع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين»

كما ذكرنا لا يصح تفسير هذا بالأموال نعم لا يجوز أن يباع لهم سلاح أما الأموال التي نحتاجها مما لديه كشراء شاة وغيرها فالعبرة أن حق المسلم من الانتفاع بالمباحات التي أباحها الله له آكد من حق الكافر.

قال: «ثم قال: «وفي الحديث قبول الهدية من المشرك؛ لأنه سأله هل يبيع أو يهدي؟»  ويأتي في المسألة التي بعدها:

5-      قبول الهدية منهم والإهداء إليهم

قال البخاري رحمه الله: «باب قبول الهدية من المشركين» ثم ذكر حديث أنس في إهداء أكيدر دومة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديث أنس في إهداء اليهودية للنبي -صلى الله عليه وسلم- الشاة المسمومة وأكله منها وأصحابه»

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- عندهم في بعض مفاوضاته فأرسلت إليه شاة فأخذ منها نهسة وقال: «إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة»

قال: «وكذا إهداء ملك أيلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بغلة بيضاء، فكساه بردًا»

لما راسل النبي -صلى الله عليه وسلم- الملوك آمن بعضهم ورد بعضهم ردًا عنيفًا وبعضهم ردًا لطيفًا وأرسل بعضهم هدايا فكان منهم ملك أيلة فأرسل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بغلة بيضاء فأثابه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الهدية بثوب.

يقول: «وقصة هاجر التي أهداها الجبار لإبراهيم  -عليه السلام-، قال الحافظ في «الفتح» في الجمع بين هذه الأحاديث وحديث: «إني نهيت عن زبد المشركين» قال: «وجمع غير الطبري بأن الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة» فهنا العبرة في الكلام عدم جواز الموالاة التي من أهمها المحبة والنصرة والمتابعة ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة:8] يقول ابن القيم رحمه الله: «فكان الحب والموالاة المنهي عنهما غير البر والإقساط المأمور بهما» إذن القاعدة العامة أن هناك بابان باب موالاة محرم، وباب بر وإقساط فهذا مباح، أما ما كان موالاة جزمًا فهو مأخوذ من اسم الموالاة لغة وشرعًا كالنصرة والمحبة والمتابعة وهذا لا يجوز أما ما كان من البر فهو جائز فإذا وجد ذمي معاهد جائع فمن البر إطعامه فكل ما هو داخل في البر فهو جائز وما كان متردد فهو متردد فينظر في نتيجة الهدية ومحصلتها فإذا أتى مشرك يريد أن يتعرف الإسلام وأتى بهدية تقبل منه أما إذا أتى بهدية لأجل أن يقال للناس أن هؤلاء المشركين يراعون  الجيرة ونحو ذلك فإذا كان منتظرًا مدحًا وثناء فلترد عليه ومن باب الهدية أيضًا باب التهنئة والتعزية فإن كانت بابًا لدعوة كأن يكون عنده مناسبة يفرح بها الناس وليست تهنئة على كفره أو على مناسبة متربطة بدينه الباطل فإذا أتاه مال وفرح به فأنت تهنئه فتقول: هذه نعمة الله أشكره عليها فإذا كانت  كذلك جاز، أما إذا كان في التهنئة مداهنة لم تجز وكذلك التعزية فالصبر من كل الناس حسن والكافر الذي يصبر أفضل من الكافر الذي يجزع فسيفهم من ذلك أن المسلمين يعنيهم العدل وأن المسلمين يعنيهم إصلاح النفس قدر المستطاع فهذا الكافر لا نريده يجزع لأجل أن الكافر الذي يصبر أولى من الكافر الذي يجزع فإذا كان الأمر بهذا الاعتبار فلا بأس أما إذا كانت هناك مودة ومداهنة وكلام ينشر في الجرائد فيغتر به عوام المسلمين من أن هذه صداقة أو مودة  فهذا مما لا يجوز أن يكون شخص عدو ظاهر العداوة للمسلمين فعلى المسلمين أن يظهروا الفرح بموته فهذا كان يدعو المسلمين على ترك دينهم واعتناق الدين الباطل فيبشر الناس بأن الله قد أهلكه، فنحن إلى يومنا هذا وقد ذكرنا ذلك من قبل نصوم إلى الله شكرًا على هلاك فرعون ونجاة موسى -عليه السلام- وقومه، فهؤلاء يفتنون الناس عن دينهم فإذا هلك واحد ممن يفتن المسلمين عن دينهم فإنك تظهر البشر والسرور بأن الله قد كفى المسلمين شره فأهلكه فلا تجوز التعزية التي يفهم منها الحزن على فقد بعض أئمة الكفر فإذن باب الهدية والتهنئة والتعزية أبواب متررد بين أن تكون ذاهبًا لعوته أو فتح باب للدعوة وبين أن يكون منتظرًا منك مداهنة فلا يجوز حينئذ.

يقول: « وجمع غير الطبري بأن الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة والقبول في حق من يرجو بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام».

وقد روى البخاري في باب الهدية للمشركين حديث إهداء عمر أخاه المسلم حلة حرير»

وهذا الحديث لا يتعارض عندنا مع أنه لا يصح أن يعينه على أمر محرم عندنا لأنه يمكن أن يكون أهداه ثوب يمكن أن يلبسه الرجال والنساء وهذا مما يحدث ولذلك أهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ثيابًا من هذه فأمر بها أن تقسم بين النساء، فإهداه الحلة من الحرير إنما كانت لنسائه ونحو ذلك.

يقول: «وحديث أسماء في صلة أمها وهي مشركة وهذا على سبيل التأليف وصلة الرحم من غير مودة.

5-    رد السلام عليهم

لم يقل إلقاء السلام لأن ذلك من الموالاة التي لا يجوز أن تفعل مع الكفار لأن السلام اسم من أسماء الله -عز وجل- وإنما يستحق السلام في الدنيا والآخر الذين آمنوا بالله -سبحانه وتعالى- فأنت لا تلقي السلام ولا تدعو بالسلام إلا من دخل في دين الله تبارك وتعالى فهذا في لفظ السلام خصوصًا والظاهر أنه يعم جميع أنواع التحية ولكن أغلظ النهي أن يسلم المسلم على الكافر بلفظ السلام أما إذا أراد أن يتألف قلبه وفي سبيل دعوته إلى الإسلام فليقل: «السلام على من اتبع الهدى» فهو لم يسلم عليه وإنما ذكره استئناسًا وإنما قال: «على من اتبع الهدى» وهذا الكافر ليس منهم ففيه إغراء له أن يسلم، وكذلك إذا كاتب كافرًا في دعوة أو نصيحة أو نحو هذا وقال له: «السلام على من اتبع الهدى» لم يكن قد ألقى عليه السلام وأما إذا لقيه في الطريق ونحو هذا لا يلقي عليه تحية لأن هذا من المنهي عنه وأغلظه أن يكون ذلك بتحية السلام الذي هو تحية المسلمين وإنما يرد عليه.

قال ابن القيم: «اختلف في وجوبه: فالجمهور على وجوبه، وهو الصواب، وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم، كما لا يجب على أهل البدع، وهو أولى.

والصواب الأول، والفرق: أنا مأمورون بهجر أهل البدع، تعزيرًا لهم، وتحذيرًا منهم، بخلاف أهل الذمة» ا.هـ 

فالرد على أهل البدع منع منه مانع غير موجود في الكافر إذ كل الناس يعلم أنه كافر وأن دينه باطل.

يقول: «ووما يرجح رأي الجمهور في وجوب الرد على أهل الكتاب قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: «وعليكم».

6- الانتفاع بما عندهم

يقول: «يجوز أن يتلقى المسلم من غير المسلم ما ينفعه في علم الكيمياء، والفيزياء، والفلك، والطب، والصناعة، والزراعة، والأعمال الإدارية، وأمثال ذلك، وهذا حين تنعدم الاستفادة من مسلم تقي».

وهذه مسألة مهمة جدًا لأن الانتفاع لا بد أن ينقى ويرشح ويصفى إذ كل عقيدة لها تأثير فتجد الكفار عند كتابتهم لهذه العلوم يصبغونها بعقيدتهم حتى في الألفاظ ولذلك يجب أن يكون الذين يقومون بعملية النقل على درجة عالية من الدراية بالعلوم الشرعية وما الذي يصح قوله من الألفاظ وما الذي لا يصح؟ كذلك صياغة العلوم بعد ذلك إذ كل عقيدة لها تأثير، فهذا الانتفاع جائز من حيث الأصل ولكن ينبغي - بالذات في العلوم التي تدرس لأبناء المسلمين- أن يراعى هذا الأصل.

يقول: «كذلك يجوز الانتفاع بهم في دلالة الطريق، وما عندهم من سلاح، وملابس، وغير ذلك من الحاجات التي يحتاجها الناس، وجرت العادة فيها أن المسلم والكافر يستويان في الانتفاع بها، وأدلة الانتفاع بالكفار نجدها في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ورد في الحديث عن عائشة ك: «واستأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل ... هاديًا خرِّيتًا» أي دليل له خبرة عالية بمعرفة الطرق.

والمسألة لها تعلق بالإكراه وذلك أن الإنسان قد يضطر في بعض الأحيان أن لا يظهر العداوة للمشركين إذا كان مكرهًا إكراه معتبرًا شرعًا.

 ________________________________________

(1)  الحديث رواه البخاري ولفظه عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - -صلى الله عليه وسلم- قالت: «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة. فقال: «أين تريد يا أبا بكر؟!» فقال أبو بكر: «أخرجنى قومى، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي» . قال ابن الدغنة: «فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: «إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق» فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: «مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا». فقال ذلك ابن الدغنة لأبى بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم. فقالوا: «إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبى بكر الاستعلان». قالت عائشة: «فأتى ابن الدغنة إلى أبى بكر فقال: «قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له». فقال أبو بكر: «فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله -عز وجل-». الحديث

(2)  في «الفضل»: «ابن المنذر» والمثبت من «الفتح»

(3)  في «الفضل»: «تبعته» والمثبت من «الفتح».

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1563 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -11
1704 ١٨ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1665 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -6
1315 ١٤ ديسمبر ٢٠١٥