الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

دعاة العالمانية والتنوير والتجديد... لماذا يكرهون "الأزهر"؟!

لكل واحد مِن هؤلاء دواء لدى العالمانيين؛ فهذا متطرف، وذاك رجعي، والثالث وهابي، وهكذا...

دعاة العالمانية والتنوير والتجديد... لماذا يكرهون "الأزهر"؟!
عبد المنعم الشحات
الخميس ٠٧ يناير ٢٠١٦ - ١٧:٥١ م
1944

دعاة العالمانية والتنوير والتجديد... لماذا يكرهون "الأزهر"؟!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أولاً: "العالمانية - التنوير- التجديد":

فـ"العالمانية" أو فصل الدين عن الدولة أو بالأحرى عن تنظيم حياة الناس - منهج غربي قد يمكن التعايش بينه وبيْن بعض الأديان، ولكن لا يمكن التعايش بينه وبيْن الإسلام الذي جاء في القرآن الكريم أول مصادره، قول الله -عز وجل- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163).

وأطول آية في القرآن تختص بالمعاملات، وهي آية الدين، وفي القرآن أحكام تختص بالبيع والإجارة، والقرض والهبة؛ فضلاً عن العقوبات التي تعتبر أخص ما تمارسه الدول مِن صلاحيات.

ودعاة العالمانية يقسِّمونها إلى ثلاث مراتب:

1- عالمانية ضد الدين وترفض وجوده: "ومِن أشهرها: المذاهب الإلحادية الدارونية والماركسية"، ويصفون هذه أحيانًا بالعالمانية الفرنسية.

2- عالمانية لا دينية: وهي عالمانية تنادي بفصل الدين عن الحياة، ولا "تمانع" مِن وجود الدين إذا كان دينًا عالمانيًّا أو حرَّفه أتباعه ليوافق العالمانية، وهي النوع الأكثر انتشارًا في أوروبا، ويصفونها أحيانًا بالعالمانية الإنجليزية.

3- عالمانية تحترم الدين: وهي الطور الجديد مِن العالمانية، الذي بدأت كثير مِن دول أوروبا في تطبيقه، ولا يختلف عن سابقه في ضرورة فصل الدين عن التشريع في الدولة، ولكنه يسمح للدولة بالاهتمام بذلك الدين "العالماني أو المعلمن"، بل ويرى توظيفه لتحقيق أهداف اجتماعية وسياسية بما يعني أن هذا النوع مِن العالمانية لا ينادي بالفصل التام بيْن الدين والسياسة، ولكنه يُخضِع الدين للسياسة بدلاً مِن إخضاع السياسة للدين، وهذه يطلقون عليها العالمانية الأميركية.

وإذا نظرتَ إلى هذه الأقسام الثلاثة؛ فستجد أنها كلها منحرفة ومصادمة للقرآن الكريم فضلاً عن السنة النبوية الشريفة مع أن بعضها أهون شرًّا مِن بعض، ولكن هذا الأقل شرًّا ينقلب إلى "الأكثر خطرًا" حينما يستعمله أصحابه لتمرير هذا الباطل، فإذا خرج مَن يبين مصادمة العالمانية للإسلام؛ قالوا: أنتم لا تدركون أن العالمانية أنواع، وأننا ندعو إلى النوع الذي "لا يضاد الدين" أو "النوع الذي يحترم الدين" غير منتبهين إلى أن هذه الأنواع جائرة في حكم الإسلام غير ملتزمة بالحد الواجب للعبد المسلم، وهو أن يقول للشرع: "سمعتُ وأطعتُ".

ثم إن هؤلاء متى انكشفتْ حيلتهم فروا إلى استعمال مصطلحات حسنة، ولكنهم لا يعنون بها إلا تلك العالمانية القبيحة، ومِن أكثر هذه المصطلحات خداعًا ومجانبة للواقع مصطلح التنوير، وحسبك مِن شر أن يرى البعض أن كل مَن ينتسب إلى الدين في ظلام يحتاج إلى تنوير هؤلاء، الذي لا يعدو أن يكون تشويهًا للدين وتحريفًا له.

وعلى مسار آخر: وَجد هؤلاء مصطلحًا له أصل شرعي ويكثر تكراره في كتب التراث، وهو مصطلح "التجديد"؛ فركبوا هذا المصطلح وهو لا يعني عندهم إلا معنى واحدًا، وهو إخضاع الدين للسياسة، ولكل ما يستجد ويتجدد مِن نظريات؛ سواء كانت في مجال كيف بدأ الخلق؟ "وهو مجال غيبي محض عند المسلمين"، أو في مجالات الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة، وكلما تطورت تلك النظريات أو انتقلت مِن النقيض إلى النقيض لزم علماء الدين في حث هؤلاء أن يعيدوا قراءة الدين أو تأويله أو بالمعنى الصحيح "تحريفه".

ثانيًا: مصر الجائزة الكبرى و"الأزهر" السد المنيع:

لا يخفى على أحد أن مصر هي الجائزة الكبرى التي يحلم بالسيطرة عليها كل مَن يريد أن يكون في موقع الصدارة -في العالم القديم على الأقل-؛ ولذلك فالجميع يطمح أن تكون مِن نصيبه، أو -على الأقل- أن يكون فكره هو السائد فيها، فما زال المشروع الإيراني الفارسي رغم أذرعه المتعددة في معظم أنحاء العالم الإسلامي يتمنى اللحظة التي يوجد له في مصر ذراع قبل أن يلتهمها بصورة نهائية "ولهذا مجال آخر".

كما أن العالمانية الغربية رأت أن بوابة مرورها للعالم العربي والإسلامي، ولقارتي إفريقيا وآسيا يتم مِن خلال مصر، وتصدى لهم في مصر الكثير مِن المصلحين، وكثير منهم ممن لا يُصنف في خانة الدعاة، بل منهم مَن هو إلى الأدباء أقرب، مثل: "مصطفى صادق الرافعي" -رحمه الله-، ومنهم مَن هو مِن الساسة الغيورين على الأمة ودينها، مثل: الزعيم "مصطفى كامل" -رحمه الله-.

ولكن لكل واحد مِن هؤلاء دواء لدى العالمانيين؛ فهذا متطرف، وذاك رجعي، والثالث وهابي، وهكذا... إلا "الأزهر" وعلماءه؛ فمكانته الكبيرة عند كل المسلمين معلومة، وهو جامعة إسلامية عريقة لا يمكن أن تُرمى بمثل هذه التهم؛ ولذلك عمد هؤلاء إلى محاولة التمسح في الأزهر لا سيما بعد الحراك الفكري الذي حدث بعد ثورة يناير، وتجدد الاشتباك في عددٍ كبير مِن القضايا، وكان هؤلاء يهرعون إلى الأزهر تحت عنوان: "الالتزام بالفكر الأزهري الوسطي"، وغرَّهم ما يجدون مِن دماثة خلق فضيلة الدكتور "أحمد الطيب" شيخ الجامع الأزهر، وحرصه على أن يكون الأزهر هو بيت العائلة الكبير، وحسن استقباله للجميع، وسعة صدره، وشدة أدبه مع الصغير قبْل الكبير؛ فظنوا أنه يمكن أن يوافقهم على ما يريدون.

ثم جاء الاختبار والمحك في أكثر مِن موقف.

ثالثًا: مواقف "الأزهر" وشيخه: الشيخ "أحمد الطيب" بعد ثورة يناير:

أ- الموقف مِن المادة الثانية:

كان مِن أول المواقف التي صُدم فيها الكثير مِن العالمانيين، الموقف الصلب الذي أبداه الشيخ "أحمد الطيب" في مواجهة الدعوات المنادية بتعديل أو إلغاء المادة الثانية مِن الدستور.

وقد كَتبتُ حينها مقالاً بعنوان: "شيخ الأزهر يؤم الأمة في الدفاع عن المادة الثانية... ولا عزاء للرويبضات"، ونشر في موقع "أنا السلفي" بتاريخ: "17-2-2011م" -ولم أكن حينها قد التقيتُ فضيلة شيخ الأزهر قط-، وكان مما قلته في هذا المقال: "وأما الآن، وقد تكلم "شيخ الأزهر" بكل ما يحمله هذا المنصب مِن قوة وتأثير؛ فنحن في قمة السعادة والفرح، ونحن نطير بتصريحاته، ونكون جنودًا مخلصين في نقلها وإلى أقصى الآفاق؛ ليعلم الجميع أنه إذا تعلق الأمر بالهوية الإسلامية فالأمة كلها يد واحدة، "الأزهر" وشيخه في الصدارة".

وجاءت تصريحاته عن المادة الثانية في الدستور لجريدة "اليوم السابع" في غاية القوة والوضوح، حيث أكَّد -حفظه الله-: "أن المادة الثانية مِن الدستور ليستْ مطروحة للتغيير أو التحديث، والاقتراب منها بمثابة محاولة لنشر الفتنة، فالمادة الثانية مِن الدستور هي مِن ثوابت الدولة والأمة، والحديث في تلك المادة هو مصادرة للديمقراطية التي نأمل الوصول إليها، ومصادرة على الحريات".

ب- الموقف مِن ضوابط تجديد التراث:

تكرر هذا الموقف مع دعوة الرئيس "عبد الفتاح السيسي" لتجديد الخطاب الديني، وحسنًا فعل، حينما أكد أكثر مِن مرة أن هذا الأمر مِن اختصاص الأزهر في المقام الأول، وحينئذٍ ظنَّ هؤلاء أنهم يستطيعون أن يفرضوا علمانيتهم بقوة الدولة "وإذا تعلق الأمر بفرض منهجهم رغم أنف الشعب ولو بقوة الدولة فهم أول مَن يبيع شعارات الحرية، والكرامة... إلخ"، ولكن الأزهر أكد مِن خلال شيخه ومِن خلال المشيخة، ومِن خلال الكثير مِن الرموز أن التجديد إنما يكون في ضوء ثوابت الشريعة، وعلى ضوء الكتاب والسنة، وأكد الرئيس هذا المعنى بتعيين الشيخ "أسامة الأزهري" مستشارًا دينيًّا.

وقد ساهمتُ أيضًا اقتناعًا مني بأن كلمة الأزهر أنجع أثرًا في تقديم رؤية الأزهر، بل رؤية شيخه حول ضوابط تجديد التراث مِن خلال مقالة اختصرت فيها كتابًا لفضيلة الشيخ "أحمد الطيب" حول هذه القضية، ونُشرتْ تحت عنوان: (ضوابط "تجديد التراث" عند "شيخ الأزهر")، وقلتُ في مقدمتها: "إذا طـُرحتْ قضية "تجديد التراث" أو ما شابهها مِن مصطلحات أمسكَ الكثير مِن المتدينين قلوبهم بأيديهم؛ ليس بسبب أنهم يرفضون مراجعة الإنتاج البشري الذي أنتجته الأمة، وإعادة صياغة ما يلزم منه وفق الثوابت الشرعية كما يتوهم -أو يحاول أن يوهِم- بعض العلمانيين؛ بل لأن بعض العلمانيين يطلقون الدعوة إلى "تجديد التراث" وغرضهم "تغيير التراث!"، أو ادعاء نسبية الدين بأصوله وفروعه؛ فلا يبقى مِن التراث إلا عبق التاريخ!

كما يتأمل الإنسانُ المعاصر صورَ الفلاح وهو يُلهِب ظهرَ ثوره بالسياط ليقود الساقية، أو يتأمل القرى التي بُنيت من اللبـِن، المضاءة بالمصابيح الزيتية أو بمصابيح الكيروسين... مجرد تاريخ له عبق، ولكن ليس له واقع! وأما الواقع؛ فليس مجرد الزراعة المميكنة، والعمارات الشاهقة، والأضواء الباهرة؛ وإلا فلا يوجد أحد يرى حرمة هذا دينيًّا "إلا أبطال الأفلام والمسلسلات التي يكتبها هؤلاء!".

وفي الآونة الأخيرة تَجدَّد الكلام على هذه القضية، ونحمد الله على وجود وَضع دستوري وقرارات تنفيذية تحيل الأمر إلى "الأزهر الشريف"، وأن فضيلة الدكتور "أحمد الطيب" شيخ الأزهر له "كتاب رائع" في هذه القضية، بعنوان: "التراث والتجديد" بيَّن فيه ضوابط قضية تجديد التراث بما يحافظ على الثوابت، والتعامل مع المتغيرات وفق هذه الثوابت؛ ومما يزيد الأمر أهمية أن الكتاب قد أُعيد طبعه مؤخرًا كهدية مع "مجلة الأزهر".

وقد أثنى عليه الكثير مِن علمائه؛ مما يجعله ليس مجرد اجتهادٍ شخصي، والمطـَّلع على هذا الكتاب لفضيلة الدكتور "أحمد الطيب" سيجد أن له هدفين أساسيين: الأول: بيان الضوابط التي تَجعل قضية "تجديد التراث" قضية مقبولة لا تصادِم الكتاب والسنة، ولا تعادي تراث الأئمة. الثاني: الرد على مشروع مِن أكثر المشاريع العالمانية رواجًا؛ لا سيما بيْن المثقفين المصريين، وهو مشروع الدكتور "حسن حنفي" الذي أطلق عليه عنوان: "التجديد والتراث".

وقد بيَّن فضيلة الإمام أن هذا المشروع تغيير للتراث، وليس تجديدًا له! وسوف ننقل في هذه المقالة أهم الفقرات التي تبيِّن هذه الضوابط، وتجيب على أهم الشبهات، وأول ما نبدأ به خاتمة كتاب الدكتور "أحمد الطيب"، حيث ختم بحثه بهذه الفقرة تحت عنوان: "تعقيب" التي وضعنا نحن لها عنوانًا هو: "ضوابط تجديد التراث، والفرق بينه وبيْن تغييره".

ج- الموقف مِن استغلال د."جابر عصفور" لأسماء علماء أزهريين لترويج ما أسماه بالتنوير:

قدَّمنا أن العالمانيين لا يمانعون مِن استعمال سلطة الدولة في نشر فكرهم، وأنهم يتناسون شعارات الحرية والديموقراطية، واحترام الإرادة الشعبية، إلى آخره... ! ومِن نماذج ذلك: موقف الدكتور "جابر عصفور" والذي كتب مقالاتٍ إبان شغله لمنصب وزير الثقافة يُروِّج فيها لما أسماه بالتنوير، مستغلاً اسم عددٍ مِن علماء الأزهر، مثل: "رفاعة الطهطاوي - ومحمد عبده - بل والشيخ أحمد الطيب نفسه!" رغم أنه حي يُرزَق!

فقام الدكتور "عباس شومان" وكيل الأزهر بكتابة مقالٍ رائعٍ للرد عليه بعنوان: "خطابنا الديني" جاء فيه: "نشرت الأهرام بتاريخ 24 يونيو 2014م على صفحة كاملة مقالاً للدكتور جابر عصفور عن "صراعات الخطابات الدينية في مصر"، حَشر فيه عددًا مِن خيرة أئمة الأزهر الشريف وشيوخه في زمرة مَن يسميهم التنويريين الذين دعوا إلى فصل الدين عن الدولة في مصر منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، ومِن هؤلاء الذين ادعى عليهم الدكتور جابر هذه الدعوى: رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وشلتوت، حتى شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب... فهل صحيح هذا الذي ادعاه الدكتور عصفور على هؤلاء العلماء؟!

إن الدكتور عصفور هو واحد مِن الذين يبشِّرون بالتنوير الغربي القائم على الفلسفة الوضعية التي أثمرت العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة، وأحيانًا فصلته عن الحياة، وهو دائم الدعوة إلى "مدنية الدولة" التي تعني -عنده- علمانيتها.

وكثيرًا ما كتب -في الأهرام- أن "المدنية" عنده هي العلمانية، ولكن لأن مصطلح العلمانية قد أصبح سيئ السمعة فإنه يستخدم مصطلح المدنية بمعنى العلمانية! ولا بأس أن يعتنق الدكتور عصفور ما يحلو له مِن المذاهب والفلسفات، لكن الذي نريد بيانه للقراء، وما جاء في مقاله مِن خلط للأوراق والمفاهيم عند علماء الأزهر الشريف الذين ورد ذكرهم في ذلك المقال.

ومما جاء فيه أيضًا: "كذلك ذهب الإمام محمد عبده إلى نقض مادية المدنية الأوروبية التي وصفها بأنها مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم، والليرة عند قوم آخرين، وانتقد عقب حواره مع الفيلسوف الإنجليزي سبنسر 1820-1903م فلاسفة الوضعية الغربية، ونصحهم "بالرجوع إلى الدين الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان".

كما انتقد العالمانيين الذين يبشرون في بلادنا بالتربية الأدبية بدلاً مِن التربية الدينية معلنًا أن الإسلام لا بد وأن يكون المرجعية ليقظتنا ونهضتنا، والإصلاح في بلادنا، قائلاً: "إن أنفُس المصريين قد أُشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعًا فيها، فكان مَن طلب إصلاحها مِن غير طريق الدين فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه فيها؛ فلا ينبت ويضيع تعبه ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك ما شوهد مِن أثر التربية التي يسمونها أدبية مِن عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل: إنَ لهم شيئًا مِن المعلومات، فما لم تكن معارفهم وآدابهم مبنية على أصول دينهم؛ فلا أثرَ لها في نفوسهم، إنَ سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم مِن طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين يحوجه إلى إنشاء بناء جديد، ليس عنده مِن مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد مِن عماله أحدًا.

وإذا كان الدين كاملاً بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة مِن بابها، ولأهله مِن الثقة فيه ما ليس لهم في غيرها، وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف مِن إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟!".

هكذا رفض "محمد عبده" الدولة الثيوقراطية، والمدنية المادية الأوروبية، ودعا إلى إسلامية الدولة المدنية، وإلى المرجعية الإسلامية لليقظة والنهوض والإصلاح في بلادنا، ولم يقل أحد ممن له دراية بفكر محمد عبده وجهوده الإصلاحية أنه "قد تمثل معنى وأهمية الفصل بيْن الدين والدولة" اللهم إلا الدكتور عصفور!

وجاء فيه أيضًا بيان موقف الشيخ "أحمد الطيب" شيخ الأزهر الحالي فقال: "لم يقف الدكتور جابر عصفور في مقاله هذا عند حدود ظلم الراحلين مِن علماء الأزهر الشريف، وإنما سولت له نفسه ظلم شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب، فحشره في زمرة التنويريين الداعين إلى مدنية الدولة بمعنى علمانيتها.

ولقد نسي الدكتور عصفور أو تناسى أن الدكتور الطيب قد رفض عند وضع وثيقة الأزهر، وأثناء وضع الدستور مصطلح "المدني" و"المدنية"؛ لإدراكه أن هذا المصطلح في معناه الأوروبي الحالي هو المقابل "للديني"، ولأن البعض في بلادنا ومنهم الدكتور عصفور يستخدمونه بمعنى "علماني" و"علمانية".

كما تجاهل الدكتور جابر أن الدكتور أحمد الطيب هو صاحب كتاب "التراث والتجديد: مناقشات وردود" وفيه أبلغ رد على دعاة التنوير الغربي والحداثة الغربية والتأويل العبثي للنصوص الدينية، الذين يريدون تفريغ الإسلام مِن الدين والوحي، والغيب والإعجاز، وتحويل الإلهيات إلى إنسانيات، ووضع الفيزيقيا محل الميتافيزيقيا، وتحويل الدين إلى أيديولوجية، والانتقال مِن العقيدة إلى الثورة، وعلمنة الدين وأنسنته، لتصبح الإنسانية بهذا الغلو اللا ديني بدون إله.

وهذا الكتاب الذي كتبه الدكتور "أحمد الطيب" قد طـُبع في هذا العام أربع طبعات، نشرته مجلة الأزهر مسلسلاً، ثم طبعته كتابًا وُزع مع عددها الذي صدر في شعبان 1435هـ، ونشرته دار القدس العربي كما نشرته حولية الإيسيسكو - الإسلام اليوم بالعربية والإنجليزية والفرنسية؛ فكيف جاز للدكتور "جابر عصفور" أن يظلم شيخ الأزهر الحالي على هذا النحو الذي صنع؟!".

د- الموقف مِن تجاوزات "إسلام بحيري":

صبر الأزهر كثيرًا على "إسلام بحيري" حتى ظنَّ في نفسه أن الأزهر يوافقه أو يَخاف منه! فلما استفحل خطره قام الأزهر بدوره الدستوري وأصدر بيانًا جاء فيه: "بناءً على المسئولية الشرعية والدستورية التي منحها الدستور المصري للأزهر الشريف في القيام على حفظ التراث وعلوم الدِّين، تقدم ببلاغ إلى النائب العام ضد الإعلامي "إسلام بحيري" اعتراضًا على ما يبثه مِن أفكار شاذةٍ، تمس ثوابت الدين، وتنال مِن تراث الأئمة المجتهدين المتفق عليهم، وتسيء لعلماء الإسلام، وتعكر السلم الوطني، وتثير الفتن، في الوقت الذي يحتاج فيه الوطن إلى توحد كل أبنائه، والتفافهم حول قيادتهم مِن أجل النهوض بمصر، وذلك عبر برنامجه التليفزيوني "مع إسلام" المذاع على فضائية "القاهرة والناس".

ورغم أن الأزهر لم يقم برفع دعوى إلا بشأن إيقاف البرنامج إلا أن مواطنين آخرين رفعوا دعوى لمحاكمة إسلام بحيرى بتهمة ازدراء الأديان وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، ثم خُفف في الاستئناف إلى سنة، ومع هذا فقد كانت هذه هي القشة التي أطلقت "الوحوش الكامنة"، وأظهرت للناس حقيقة موقف الكثير مِن هؤلاء مِن الأزهر، وربما مِن الدين ذاته!

هـ- الموقف من داعش:

مِن الأمور التي فتحتْ نيران العالمانيين على الأزهر؛ أن الأزهر رفض تكفير "داعش".

وخلاصة موقف الأزهر مِن "داعش":

1- أنهم مسلمون؛ لأنهم ينطقون الشهادتين.

2- أنهم أهل بدعة مذمومة.

3- أنهم يستحقون العقوبات الشرعية المقررة على ما يفعلون مِن جرائم.

وهو موقف متزن أعطى لكل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها، وفي المقابل نجد الذين يطالبون بفتح الباب على مصراعيه لتحريف الدين، ومَن يشتكون ليل نهار مِن تيار التكفير - يطالبون الأزهر والسلفيين على حدٍ سواء أن يرتدوا ثياب التكفيريين فيما يخص "داعش" فقط! وهذا هو اتباع الهوى الذي لا يَقبل به كل مَن كانت مرجعيته الكتاب والسنة.

رابعًا: الجمعيات الخيرية الدعوية والأزهر:

النظم الديمقراطية في تطوير تجاربها وجدتْ أن مجرد الفصل بيْن سلطات الدولة لا يحقق الغرض المطلوب والاستقرار المطلوب، بل لا بد مِن تشجيع دور المجتمع المدني ليشارك المؤسسات الرسمية في كل مناحي اهتمامات الأفراد والمجتمع، والدعوة إلى الله آكد المجالات التي ينبغي أن تطبـَّق فيها هذه النظرية بحكم كونها أصلاً في الشريعة وظيفة مجتمعية، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) (رواه البخاري)، وبحكم حاجة هذا الباب إلى الكثير مِن الجهود.

وفي هذا الإطار ترى الدعوة السلفية ما يجب أن تكون عليه العلاقة بيْن الأزهر "المؤسسة الدينية الرسمية" و بين أي جماعة دعوية تلتزم بنبذ العنف والتكفير، ولا تخالف ثوابت الدين، ولكن العجيب ممن يخالفون ثوابت الدين ويرون أن هذا حق لهم؛ فيحاولون بشتى الطرق الحيلولة دون وجود هذا التعاون بيْن المؤسسة الرسمية "الأزهر" وبين المؤسسات الدعوية الأهلية الملتزمة برفض العنف والتكفير.

ويحاول هؤلاء أن يثيروا قضايا خلافية بين أهل الحديث والأشاعرة مكانها الكتب والأبحاث، وليس صفحات الجرائد ليفخخوا العلاقة بيْن الأزهر وبين مَن يناصره مِن التيارات الدعوية، مع أنهم إذا خالف كلام الأزهر أهواءهم شنوا عليه مِن أنواع الهجوم ما شنوا، ومع أن الفقه السني الذي يرجع إليه كل مِن أهل الحديث والأشاعرة يقلل عمليًّا مِن الفجوة الموجودة في تأصيل بعض القضايا.

كما مرَّ في قضية الموقف مِن "داعش" وفي غيرها مِن القضايا، وفي حين أن شيخ الأزهر الشيخ "أحمد الطيب" يؤكِّد دائمًا أن وصف أهل السنة يشمل الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، وهم كذلك فيما يتعلق بالموقف مِن الشيعة ومنكري السنة وغيرها مِن القضايا التي تستوجب أن يتصدى لها كل غيور على السُّنة.

نسأل الله أن يوفـِّق "الأزهر" وشيخه، ومشيخته وعلماءه، وأن يوفقنا معهم إلى ما يحب ويرضى. اللهم آمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com