الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

دروس مِن قصة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- -4

قصة بناء البيت العتيق

دروس مِن قصة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- -4
سعيد محمود
الخميس ١٤ يناير ٢٠١٦ - ١١:٣١ ص
1750

دروس مِن قصة إبراهيم -عليه السلام- (4)

قصة بناء البيت العتيق

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

ـ تذكير بما وقفنا عليه في المرة الأخيرة في موعظة: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، وإشارة إلى ما تبقـَّى مِن القصة، وهي أحداث أعظم الكلمات التي اُبتلي بها إبراهيم -عليه السلام-، وهي قصة بناء البيت العتيق.

ـ تكريم الخليل -عليه السلام- في ختام حياته ببناء البيت واقتران اسمه به: قال الله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:96-97).

(1) قصة بناء البيت:

- تبدأ قصة بناء البيت بحلول الأسرة الصغيرة المباركة عند مكان البيت، ثم بدعوة مباركة مِن إبراهيم -عليه السلام- تَغيَّر بها وجه الأرض: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37).

- نزول المَلك بأول آية مِن آيات البيت "بئر زمزم" والتبشير بإقامة البيت: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ) (رواه البخاري).

- حلول قبيلة جرهم العربية، ونزولهم في جوار أم إسماعيل -عليهما السلام-، وتعلم إسماعيل -عليه السلام- منهم العربية وزواجه مِن نسائهم: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37).

- إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- يبنيان البيت العتيق: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (البقرة:127)، قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (رواه البخاري).

دروس وفوائد:

- عظم شرف هذا البناء العظيم الذي اختار الله مكانه، ورفعه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-.

- جعل الله بناء البيت على يد رجلين "نبيين" دون تدخل مِن بقية الناس مع مشقة ذلك عليهما؛ لئلا يكون للناس على بيت الله فضل يتنازعونه على حساب الدين.

- عدم الاغترار بالأعمال الصالحة: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (البقرة:127).

- جعله الله في بقعة وعرة مِن الأرض اختبارًا للإخلاص: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) (إبراهيم:37).

- أهمية الدعاء في حياة المسلم "دعاء إبراهيم -عليه السلام- قبْل وأثناء وبعد البناء": (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37)، (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:126-127)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم:35).

(2) أول حج للعالمين:

- الله -تعالى- يأمر إبراهيم بدعوة الناس في أنحاء الأرض للحج والزيارة لهذا البيت: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج:27).

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "نادِ في الناس داعيًا للحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكِر أنه قال: يا رب، وكيف أبلـِّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم اتخذ بيتًا فحجوه" اهـ.

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "قام إبراهيم على الحَجَر، فقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج، فأسمَع مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه مَن آمن، ومَن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك".

- وقفات مع الدعوة التي حوَّلت وجه الأرض:

أ- دعوة مباركة حولت الوادي المهجور إلى أعظم بقعة للحياة والحركة، وتحزن القلوب والنفوس لفراقه: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة:125).

ب- دعوة مباركة حولت الوادي الموحش المخيف إلى أعظم بقعة للأمن والأمان على وجه الأرض: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت:67)، (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) (التين:3).

ج- دعوة مباركة حولت الوادي الأجدب إلى أعظم بقعة تجتمع فيها ثمرات الأرض: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص:57).

(3) مِن فضائل مكة:

1- أحب البلاد إلى الله ورسوله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

2- اختصاصها بأحكام تقدسها وتعظمها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُنْشِد) (رواه البخاري).

3- مسجدها أول المساجد وأفضلها: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (صَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

4- مظهر لعزة الإسلام والمسلمين: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة:28).

5- لا يدخلها الدجال ولا الطاعون: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلائِكَةِ، عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكٌ لا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ، وَلا الطَّاعُونُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

(4) خاتمة: حول فضل إبراهيم -عليه السلام-:

- الإشارة إلى أن هذه بعض فضائله؛ وإلا فالفضائل تحتاج إلى حديث مستقل.

- أثنى الله عليه أعظم الثناء: قال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (النحل:120-122)، (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (البقرة:124)، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37).

- نسب الله إليه الملة القويمة في الدين، وألزم بها أعظم الناس: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123)، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:166)، (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة:130).

- أول مَن يكسى يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104)، أَلا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسَى، يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ) (متفق عليه).

فاللهم صلِّ وسلم وبارك على إبراهيم، واجمعنا مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء يوم الدين في جنات النعيم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة