الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الولاء والبراء -11

إظهار الموافقة للكفار عند الإكراه والتقية

الولاء والبراء -11
عبد المنعم الشحات
الاثنين ١٨ يناير ٢٠١٦ - ١١:٠٩ ص
1704

الولاء والبراء (11)

عبد المنعم الشحات

من الصور التي ليست من الموالاة:

8- إظهار الموافقة للكفار عند الإكراه والتقية

لذا أورد الشيخ حفظه الله في هذا الباب الكلام على الإكراه، وباب الإكراه أقرب إلى علم الفقه وما يتفرع عنه من أصول فقه وقواعد فقهية ونحو هذا إلا أنه نظرًا لوجود أبواب كثيرة من العقيدة مثل - باب الولاء والبراء- يكثر فيها ادعاء الإكراه  فقد يتساهل بعض الناس ببعض الأحكام الشرعية ويدعي أنه مكره فناسب هنا أن يبين الإكراه وأنه يعذر بالإكراه لكن لا بد من معرفة شروط الإكراه ومتى يكون هناك إكراه معتبر شرعًا ومنى لا يكون، وباب الإكراه له علاقة بأبواب عقدية كثيرة جدًا ولعله ألصق بهذا الباب وهو من الموضوعات التي تصنف إجمالًا على أنها من الموضوعات الفقهية ولكن كما ذكرنا أن كثيرًا من الناس يدعي الإكراه في غير موضعه فيقدم على الأمور المحرمة بل والكفرية أحيانًا فناسب أن تذكر ضوابط هذا الباب.

يقول: «[لما المسلم قد يتعرض إلى ضرورة تكرهه على إظهار موالاة الكفار أو المنافقين أو أن يدفع عن نفسه شرهم وأذاهم باستعمال التقية لزم أن يكون على بينة من أمره فيما لا يجوز وما لا يجوز من ذلك وحدود الإكراه المعتبر شرعًا ومعنى التقية، وشروط اعتبار العمل بها - وهذا فصل مختصر في أهم مسائل هذا الموضوع-] قال تعالى ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]

هذه الآية من الآيات التي تبين العذر بالإكراه ولكن فيها قاعدة كلية مهمة جدًا في باب الإيمان والكفر وهي أن الأصل في الإيمان والكفر هو القلب والجوارح تبع له ولذلك فإن كل المسائل التي حكم الشرع ونص على أنها كفر تجد فيها انخرام في الباطن فتجد زوال المحبة زوال التعظيم زوال الانقياد، فتجد فيها زوال شيء من أصل الباطن فالإيمان أصله في القلب وفروعه على الجوارح وكذا الكفر وهذا يفيد في معرفة المسائل غير المنصوص عليها فالمسائل المنصوص عليها تخضع لهذه القاعدة الكلية ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ وليس من ذلك أنه لا بد  أن يقول أنه يريد أن يكفر، فكم من كافر لم يصرح بأنه يريد أن يكفر كالذين استهزئوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن العبرة في أن يكون الفعل لا يصدر إلا عمن انخرم باطنه وهذه أحد القواعد المهمة جدًا في باب ضوابط التكفير وبها يزول الإشكال بين من يقول أنه يتصور عمل للجوارح مجرد عن كفر القلب هو كفر وينتج عن هذا أنواع من التخبط قد تصل إلى قول قريب من قول الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة وبين من يقول لا بد معرفة ما في باطنه بأن يصرح بأنه أراد بقلبه الكفر لا، بل الأمر وسطًا بين هذا وذاك وهو أن الإنسان يكفر إذا قال قولًا أو فعل فعلًا يدل دلالة قاطعة على انخرام الباطن، وهنا أمر مهم لا بد من الانتباه إليه وهو أننا حينما نقرر فإننا نقرر الأحوال الطبيعية وليست الأحوال الاستثنائية، فإذا قيل هل هذا الفعل كفر أم لا؟ فكأن السؤال عن رجل عالم مختار قاصد هل يكون كفرًا أم لا؟ وليس السؤال عن الاستثناء فإذا كان السؤال عن السجود للصنم أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة أو استحلال محرم فكل هذا يفترض أن من فعله في الظروف الطبيعية فليس ينكر معلومًا من الدين بالضرورة إلا أن يكون مكذبًا أو مستكبرًا ومع ذلك يقال في بعض الأفعال التي هي كفر تأتي ظروف استثنائية تنتفي فيها دلالة هذا الفعل على كفر الباطن من أشهرها الإكراه، فإذا كان إكراه فإنه تنتفي دلالة اللسان على وجود تكذيب في القلب لكن الإنسان الطبيعي جزمًا الدلالة موجودة وإن زعم أنها غير موجودة فإذا قيل له هذه آية في المصحف يقول نعم هي في المصحف وأنا مؤمن بما فيه لكن هذا الكلام خطأ فلا ينفعه كلمة «أنا مؤمن» لأن كونه يكذب وهو عالم قاصد مختار فهذا يدل دلالة قاطعة على أنه مكذب في الباطن لأنه يكذِّب بلسانه وهي تساوي تكذيب في باطنه وهذا في الظروف الطبيعية لكن كان هناك إكراه فإنه تنتفي دلالة الفعل على كفر الباطن، وكذلك الخطأ كما في حديث: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» فهذه الكلمة من أكفر الكفر والعياذ بالله ولكن لما وجد الخطأ انتفت دلالة هذه الكلمة على كفر الباطن، إذن أفعال الجوارح التي تعد كفرًا هي الأفعال التي تدل دلالة قاطعة في الظروف الطبيعية على انخرام الباطن وتصنف في باب الردة وكذلك من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة كفر، من سب الله أو رسوله كفر، من استهزئ بشعيرة من شعائر الإسلام كفر ولا يقال في كل هذه المسائل إلا الناسي وإلا المكره وإلا الجاهل وإلا المخطئ لأن الكلام عن هذا الفعل في الظروف الطبيعية وكونك تفهم قاعدة الإكراه فسبب نزل الآية كما سيأتي أنها نزلت في عمار بن ياسر -رضي الله عنه- عندما تكلم بكلمة الكفر الصريح فقالت الآية أنه لم يكفر ولا ينبغي عليه يحكم عليه عند المؤمنين لأنه لم يشرح بالكفر صدرًا وعرف ذلك عنه من واقع أنه أكره على ذلك فهذه الكلمة لولا لم تكن مع الإكراه لكانت دالة على أنه شرح بالكفر صدرًا وهذه الآية دليل في مسألتين مهمتين جدًا أولهما أنها دليل على العذر بالإكراه ثانيتهما: دليل على مبدإ التكفير وبيان متى يعد الكفر كأصل ومتى يكون الفعل الذي اعتبرته كفرًا كأصل متى تعتبره انتقل عن هذا الأصل إلى أمر آخر فلم يعد يحكم عليه بأنه كفر.

يقول: «سبب النزول:

قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره»: «روى العَوفِيّ عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عمَّار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فوافقهم على ذلك مُكرَها وجاء معتذرًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي، وأبو مالك وقتادة» ا.هـ

وقال أيضًا: «ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يُوَالى المكرَه على الكفر، إبقاءً لمهجته» ا.هـ

يعني يقولون له: سب النبي -صلى الله عليه وسلم- جاز له أن يسبه إذا كان الإكراه معتبرًا وكذلك إذا قيل له: أظهر موافقتنا جاز له أن يظهرها ولو في عبادة لآلهتهم أو نحو هذا كل هذا متى وقع الإكراه المعتبر شرعًا، فإذن أصل العذر بالإكراه موجود ولكن المسألة هنا أن لا يتوسع أحد فوق القدر المأذون فيه شرعًا.

يقول: «شروط الإكراه المعتبر شرعًا:

ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» هذه الشروط» ومعظمها إن لم يكن كلها مجمع عليها وهي مستفادة من القواعد الشرعية العامة ومن معنى كلمة الإكراه في حد ذاتها.

فقال: «1- أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمأمور به عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار» فالمسألة في أمر محرم مقطوع بحرمته أمام باب تفتي بجواز الإقدام عليه لشخص معين فلا بد هنا من تيقن العقوبة لأن الإكراه عبارة عن تهديد فيقول له: افعل وإلا فعلت بك كذا وقد لا يغلب على ظن أن المكرِهَ جاد فيوقع المكره العقوبة فهذه العقوبة لا تعتبر إكراه لكن لو أجاب المكرِه فإنه يجيبه لأجل العقوبة المتوقعة فإيقاع عقوبة تنتهي بإيقاعها لا يعد ذلك إكراهًا لانتهاء أمرها فباب الإكراه كله مبني على التهديد إما تهديد ابتدائي ويغلب على ظن الإنسان صدق المهدِد وإما يغلب على ظنه كذبه فيشرع المهدد في تنفيذ العقوبة فإذا تبين له في هذه الحالة أنه صادق فإنه سيمتنع نتيجة التهديد بالاستمرار، فباب الإكراه مبني على التهديد وليس كل تهديد بل لا بد أن يغلب على الظن أن هذا التهديد سيقع وذلك بأن المهدد قادرًا إذ قد يهدد شخص بعقوبة ليست في إمكانه ولا يفهم من صور الإكراه فقط صورة الأسري الذي يمارس عليه نوع من الإكراه من قبل جماعة منظمة بل قد يكون فردًا أمام فرد كأن يخرج عليه قاطع طريق معه السلاح وهو أعزل إلى غير ذلك، ويمكن أن يجد أن يكون شخص ضعيف البنية ليس معه سلاح فيقول له امتنع من الطاعة الفلانية وإلا ضربتك وهو لا يقدر على ذلك فالعبرة هنا بغلبة الظن عند غياب اليقين، ويغلب على الظن أن هذا التهديد جديٌّ أولًا أن يكون المهدد قادرًا على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار كأن يقول له إما أن تشرب الخمر وإما أن تضرب ولو بقي عنده فسيضرب بالفعل وفي إمكانه أن يهرب فالواجب عليه أن يهرب.

2- أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.

لأنه ربما كان الإنسان قادرًا على إيقاع ما يهدد به ويكون معلومًا من استقراء أحواله أن لا يوقع ما يهدد به مع قدرته عليه فعلى سبيل المثال: قد يهدد الأب أبناءه بشيء معينة هم يعلمون من سيرته أن لا يصل إلى التنفيذ فكذلك يحدث أحيانًا مثل هذا الأمر فمثلًا مسلم بين قوم مشركين وعلم أنهم يحبونه لقرابته أو لغير ذلك وأنهم لا يتجاوزن طور التهديد فيهددون أنه إذا لم يرجع عن دينه فسوف يعذب وهو يعلم أنهم لا يوقعونه مع قدرتهم إذن فلا يعد هذا إكراهًا، إذن فمدار باب الإكراه على تهديد بإيقاع العقوبة ومعنى هذه الشروط كلها أن تحصل غلبة ظن بوقوع هذه العقوبة وهذا الغلبة تعلم من قدرة المجرم على التنفيذ ومن أنه يعتاد أن ينجز ما ذكر ومن عدم وجود وسيلة دفع عن النفس حتى ولو كانت بالفرار.

3- أن يكون ما هدد به فوريًا، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غدًا، لا يعد  مكرهًا  ويستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًا، أو جرت العادة بأنه لا يخلف.

فأمور الغيب لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- ولذلك قلنا أن يكون هناك غلبة ظن بوقوع العقوبة إذا لم يستجب الإنسان للإكراه، أما إذا كان الزمن بعيدًا فقد تتغير الأمور وتتبدل الأحوال فقد يفقد قدرته أو يتغير رأيه فلا يبادر بالاستجابة لعل الله -عز وجل- يجعل له مخرجًا.

4- أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره. ا.هـ

وهذا أمر يكون الشيطان في غاية الخبث فيه كبعض الأمور التي فيها شهوة كشرب الخمر أو الزنا وسيأتي التفصيل في الزنا فإذا أكره على شرب الخمر والمهدِد يريد منه أن يشرب الخمر لمجرد الإذلال النفسي فحسب فبمجرد أن يرتشف رشفة يقنع المهدِد منه بذلك لكنه قد يكون للمكرَهِ هوى قديم في الخمر وتاب الله عليها منها وأكره من قبل بعض الفساق على شرب الخمر كسرًا لنفسه، وهو يعلم أن المكرِهِ تكتفي منه برشفة فيستكمل هو باقي الخمر فهذا يحاسب على هذا الاختيار لأنه استبقى المعصية ولو مدة باختياره، وتنبه إلى أن باب الاختيار وباب الضرورة متقاربين ولكن باب الضرورة أيسر وسببه أن الإنسان قد يكون في وضع معين قد يفقد حالته أو صحته أو ماله أو تضيع مصلحة من المصالح التي رعاها الشرع وأمامه شيء يحفظ به هذه المصلحة فهنا هو الذي يختار لنفسه دون إكراه فهذه حال الضرورة، وهنا باستقراء نصوص الشرع نقول أن حفظ مصالح الشرع الرئيسية يجوز للإنسان أن يرتكب محرمًا من أجلها إذا كانت مفسدة هذا المحرم أدنى من المفسدة التي تتوقع أن تحدث لها كتحريم الشرع للميتة لأن فيها ضرر لكنه ضرر من جنس المرض بينما لو كان على وشك الموت فالموت أشد ضررًا من أكل الميتة لأنها ضرر من جنس المرض وكذلك حرمها الشرع من الطهارة والترفع [عن القاذورات] ونحو هذا وهذه من كماليات الإنسان، فإذا كانت نفسه ستتلف إذن فليأكل الميتة وليشرب الخمر، وكذلك تحريم الشرع للخمر لأجل الضرر وذهاب العقل وهذا لا يحدث مع أول رشفة ولذلك كانت الخمر مباحة في وقت من الأوقات لأن فيها منافع بقدر ضئيل منها ولأنه لا يستطيع ضبط هذا الأمر وهو معلوم من حال كثير ممن يشرب الخمر فكثيرًا ما إلى يصل إلى حالة السكر ويصبح أشبه بالبهيمة فيغيب العقل وتبقى الحواس نشطة يفعل بها ما يشاء من المنكرات والعياذ بالله فلذلك حرم الشرع الخمر، أما لو غص إنسان وليس معه إلا خمر - وهذا أمر يتصور في إنسان معه طعام وعصير قد تخمر- فليشرب الخمر لأن تحريم الخمر من باب حفظ كمالات النفس فلا تصيبه الأمراض ولا يغيب عقله فيمكن احتمال هذه المفسدة لأن الغصة تذهب بشيء ضئيل لا يصل إلى حد السكر غالبًا فهذا باب الضرورة، فكل شيء يفوت على الإنسان مصلحة وأمامه شيء محرم لمفسدة معينة فإذا كانت المفسدة التي  هذا الشيء من أجله أدنى من المفسدة التي ستحدث له جاز له أن يتعاطى هذا الشيء فيجوز له أن يأكل الميتة أو أن يشرب الخمر وكذلك يجوز له أن يأخذ مال أخيه ونحن نتكلم عن الاضطرار كتمهيد للكلام عن الإكراه لأنهما من باب واحد كجائع قد يموت من الجوع لا طعام عنده ويعلم بطعام لأخيه ولا يقدر على شرائه ولا يستطيع أن يستأذنه فيأخذ منه ويضمن له [كلمة غير واضحة] لكن لو أم إنسانًا شبت فيه نار والمكان الذي يستطيع أن يقفز منه سيقفز فوق مسلم معصوم أو ذمي لا يقفز لأن المفسدة التي يعاني منها أنه قد يموت والخيار الأخر أن يميت مسلمًا لم يجز فهنا من غير إكراه وهذه حالة ضرورة ولكن لو وجد لحافًا لمسلم يستخدم في إطفاء الحريق ولكن ستتلف فليأخذها ثم يعاوضه بدلًا منها أو يعطيه ثمنها وكذلك لو استخدم شيئًا ملكه في الإطفاء أما أن يقفز وهو يعلم فوق مسلم نائم مثلًا فيحرق أو غير لم يجز له أن يقتل مسلمًا للضرورة ولا يجوز أن يتلف له عضوًا ولا يتصور أن يعتدي على عرضه للضرورة وإنما هذه متصورة في باب الإكراه بأن يكرهه آخر أن يعتدي على عرض مسلم، إذن باب الضرورة يشابه باب الإكراه في أنه يجوز له أن يفعل المحرم للضرورة  ولكن هنا هو الذي يختار لنفسه بأن ينظر في المفسدة التي هو فيها وبين المفسدة التي سيقدم عليها فإذا رأى أن هذه الأشياء محرمة لأمور أقل من المفسدة التي هو واقع فيها كأن يتناول ميتة أو يشرب خمرًا أو يتلف مالًا لمسلم جاز له أن يتلف ذلك المال على أن يضمنه بعد ذلك فهذه حال الضرورة فهو يختار لنفسه بناء على الموازنة بين المفاسد على النحو الذي ذكرنا.

وهذه هي نفس الصورة بالنسبة للإكراه مضافًا إليها وجود طرف يمارس الإكراه فيهدد الإنسان مع الأخذ في الاعتبار أن قادر على تنفيذ هذا التهديد بكل الشروط: أن يكون لديه القدرة، أن لا يستطيع المهدَد الفرار أن يغلب على الظن أن يكون صادقًا في تهديده، أن يكون التهديد فوريًا وسواء في الضرورة أو الإكراه فإنه سيقال: الضرورة تقدر بقدرها فلو دفعت الغصة برشفة خمر لم يجز له أن يشرب الثاني فإذا فعل فقد شرب الخمر كذلك هنا إذا أكره على شرب الخمر وعلم أن يرضيه ويرفع عنه التهديد قدر معين من المعصية لم يجز أن يزيد عليها إذن فباب الإكراه والاضطرار من باب واحد لكن الفرق أن المكرِه طرف خارجي يقول للإنسان إما أن تقتل وإما أن تفعل كذا فينظر في الأمر المكرَه عليه لأننا قلنا أن هناك مفاسد لا يجوز ارتكابها البتة من الاعتداء على نفس مسلم أو على عضوه أو على عرضه فهذه مفاسد عظيمة جدًا لا يمكن للإنسان مهما بلغت حالة ضرورته أن يعتدي عليها لأن أقصى أحواله أن يموت فليمت فالمفسدة الأخرى أعظم بالذات إذا كان إيقاعها على الغير وأحيانًا قد يكرهه على فعل معصية في نفسه بأن يقول له اشرب الخمر أو كل الميتة فهذا إذا ذكرت فيه عقوبة تتناسب مع الذنب اعتبر إكراهًا أما أن يعتدي على آخر فهنا لا يجوز الاعتداء على نفس مسلم ولا عضوه ولا عرضه وكذا الكافر المعصوم بعهد ذمة أو نحوه فهؤلاء لا يجوز أن يعتبر الإنسان أن هناك إكراه في شأنهم أيضًا مما ينبغي أن يضاف من الشروط مما سيذكره الشيخ بعد ذلك من الموازنة بين العقوبة المهدد بها وبين الذنب، فمن رحمة الله تبارك وتعالى بالعباد أن شرع لهم الترخص عند الإكراه وفي ذات الوقت لم يجعل الإكراه على أي شيء عندما يكون السيف على عنقك فقط وإلا لا يعتبر هذا إكراهًا بل الشرع قد رتب المعاصي ورتب المنهيات إلى محرمات ومكروهات ورتب المأمورات إلى مكروهات ومستحبات، والمحرمات فيها كبائر وصغائر، وهناك أكبر الكبائر مثل سب الوالدين فإذا كان الشرع قد أرشدك إجمالًا إلى ترتيب المعاصي إلى صغائر وكبائر بل جعل كبائر وأكبر الكبائر وتحت الصغائر مكروهات فينظر في الإكراه في العقوبة التي يهدد بها وما المطلوب فعله من المكرَه ولذلك قال ابن مسعود: «ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلمًا به» يعني إذا كان الإكراه على كلام يسير كالأمراء الظلمة الذي كانوا يكرهون الناس على الثناء عليهم في مجلس خاصة فليس فيه كبير خطر، وليست كمعصية الكفر بالله أو شرب الخمر أو أكل الميتة، فإذا رتبت فهناك معاصٍ لا تدخل في باب الإكراه ولا في باب الاضطرار وهي قتل المسلم أو إتلاف عضو من أعضائه أو الاعتداء على عرضه  ويلحق بالمسلم الكافر المعصوم الذي أعطيناه ذمة بأن نحفظ له نفسه وعرضه فهذه درجات لا يمكن التنازل فيها وهناك أمور أخرى يلحقها بعض العلماء بهذه المرتبة وبعضهم لا يلحقونها ويقولون أنها مما لا يدخلها الإكراه وهي إتلاف مال المسلم والراجح أنها مما يدخلها الضرورة ويدخلها الإكراه والذين منعوا هذا الأمر لم ينظر إلى مسألة أخرى وهي أن المال يدخله الضمان والتعويض ونفس المسلم المكرَهِ معصومة هي الأخرى وإذا أنقذها بإتلاف مال أخيه فإنه يستطيع أن يضمن له هذا فالراجح في إتلاف مال المسلم أنها مما يدخله الإكراه وإن كان بعض العلماء قد أدخلها فيما لا يجوز فيه الإكراه والاضطرار وإن كان الجمهور على أن إتلاف مال المسلم يدخله الإكراه والاضطرار، فالضرورة كما ذكرنا أنه إذا كان جائعًا لدرجة انع قد يموت ويرى طعامًا عند أخيه المسلم وهذا المسلم غير موجود فيجوز له أن يأكل هذا الطعام على أن يعطيه ثمنه بعد ذلك فالراجح في إتلاف مال المسلم أنه يدخله الإكراه ولكن نظرًا لحرمة المسلم الشديدة قال بعض العلماء أنه لا يدخله والراجح أنه يدخله، كذلك الزنا بغير محصنة فقد قدمنا أن الاعتداء على عرض المسلم وكذا الذمي لا يدخله الإكراه مطلقًا لكن المسألة هنا أن يتصور الزنا بامرأة راضية أو هي المكرِهة أو المكرِهَ له على الزنا أتى له بامرأة بغي فقال بعض العلماء أن مفسدة الزنا عظيمة وهي مفسدة في ذاته فينتج عنه اختلاط الأنساب وكذا وكذا بغض النظر عن المفعول به، والمفسدة الثانية حق المفعول به فبالنسبة للمرأة لا تكون إلا مفسدة الزنا ذاته فيمكن أن تكره امرأة على أن يفعل بها أو يكره أحد على أن يفعل به فالقضية هنا أن البعض يعتبر قضية الزنا من الأبواب التي مفسدتها في ذاتها عظيمة جدًا تفوق مفسدة حفظ النفس والراجح أن الزنا المجرد عن الاعتداء على الأعراض - وهذا يرد في حق المرأة والرجل الذي يكره على أن يزني بموافقة- مما يدخله الإكراه ولكن لا بد أن تكون العقوبة المهدد بها كبيرة جدًا وليس أن يضرب سوطين بل ولا الحبس الطويل لأنه ليس إكراه على الزنا، فلا بد هنا من الموازنة بين المعصية التي يهدد بفعلها وبين العقوبة فالسجن قد يكون إكراهًا في كثير من الأمور ولكن نظرًا لأن مفسدة الزنا فاحشة جدًا فإنه لا يعد التهديد بالسجن إكراهًا على الزنا، إذن هناك أمور لا يدخلها الإكراه أصلًا وأمور اختلف العلماء فيها كإتلاف مال المسلم والزنا دون الاعتداء على الأعراض لأن الاعتداء على العرض جزمًا لا يجوز والراجح أن إتلاف مال المسلم يدخله الإكراه وهو أخف من الزنا لأن المال أمره يسير فإذا كان المكرَه يرى أن سيتلف مالًا لمسلم قيمته كذا فسيضمن له في قيمته الأرش فإذا وجد أن الأرش أهون من العقوبة التي يهدد بها جاز له أن يقدم على هذا، أما أن يزني بغير معصوم فهذا أيضًا يدخله الإكراه بالضرب الشديد المؤلم المؤذي للأعضاء أو التهديد بالقتل ونحو ذلك ولا يعتبر السجن مثلًا إكراه في هذه الحالة، فغلبة الظن بأن التهديد يقع وقالها الحافظ ابن حجر في ثلاثة من الشرط من باب التأكيد والتوضيح أن يكون قادرًا أن يكون جادًا أن يذكر زمنًا قريبًا أن لا يظهر الموافقة لأنه بعد ذلك يخرج بذلك عن باب الإكراه، ثم الموازنة بين العقوبة وبين الذنب الذي يطلب منه أن يفعله.

يقول: «أما لو تمكن من الفرار على أن يعطيهم ماله فعل» فلو كانت المسألة أن يكره على الكفر واستطاع أن يعطيهم ماله [على أن يخلوا سبيله] جاز بينما نقول في أحوال أخرى يكذب عليهم حتى لا يعطيهم ماله فالكذب حرام دائمًا والكذب على الظالم رخصة تقدر بقدرها لكي لا يعتاد المسلم الكذب وهنا نقول يجوز الكذب للحفاظ على المال فاعتبرنا المال مصلحة مهمة بينما إذا أكره على الكفر أو يأخذوا ماله فليترك ماله.

يقول: «قال ابن كثير : في «تفسيره» عند قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]  قال ابن عباس، وأنس، وسعيد ابن المسيب، وأبو عثمان النّهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي» فهذا سبب النزول ومعنى الآية عام فتشمل كل من ضحى في سبيل الله -عز وجل- وقوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي﴾ الشراء يطلق بالمعنى الذي نستخدمه في الشراء، ويطلق بمعنى البيع، وهو أقرب في لغة العرب إلى البيع وليس للشراء فلو فسر بالبيع فإنه يشمل كل من باع نفسه لله -عز وجل- ويشمل صهيب -رضي الله عنه- لأنه باع نفسه ووقفها لله -عز وجل- وإن فسر بالشراء فالمعنى واضح أنه اشترى نفسه بالمال فترك المال واشترى نفسه بجعلها تهاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول: «وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل» وفي بعض الروايات أنه هو الذي قال لهم ذلك لما وجدهم مصرين على منعه من الهجرة وحبسوه وكان قد أراد أن يهاجر في اليوم الذي هاجر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر فظفروا به وحبسوه ثم فر منهم بعد ذلك فأدركوه ففي بعض الروايات أنهم هم الذين قالوا له، تركت مالك تركناك ولعل الأقرب  أنهم هم الذين قالوا له: «أتيتنا صعلوكًا لا مال لك والآن تخرج منا بنفسك ومالك» فلما وجد أنهم  يقيمون لأمر ماله شأنًا قال: «أدلكم على ما لي وتخلو بيني وبين الهجرة» فدلهم عليه وكان قد هاجر بدونها ماله تحسبًا لهذا الأمر فخبأ المال في عتبة دار فأرشدهم إلى مكان المال فتركوه ورجعوا فأخذوا ماله -رضي الله عنه-.

 وقصة صهيب من قصص الفداء والتضحية العظيمة جدًا وقصة البحث عن الحق وإن كانت قصة سلمان -رضي الله عنه- - وإن كان كلًا منهما من السابقين الأولين- أظهر في موضوع البحث عن الحق وانتظار النبي -صلى الله عليه وسلم- لما علم من خبر أهل الكتاب ولكن أيضًا في قصة صهيب أنه سمع بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه بيع في مكة رغمًا عنه وفي بعض الروايات أيضًا أنه فر من بلاد الروم إلى مكة لما سمع من بعض أحبار الروم عن زمن خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة.

يقول: «منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة». فرح المسلمون كثيرًا بهذه الآية وهذه البشارة والمنقبة لصهيب التي أنزلها الله -عز وجل- على رسوله في صهيب وهو في الطريق فخرج بعض الصحابة منهم عمر -رضي الله عنه-  يتلقونه على مشارف المدينة ليبشروه قال: «فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة. فقالوا: رَبح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: «ربِح البيع صهيب، ربح البيع صهيب». وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتبعه نَفَر من قريش، فنزل عَنْ راحلته، وانتثل ما في كنانته. ثم قال: «يا معشر قريش، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شَيْء، ثم افعلوا ما شئتم» فذكر لهم أنهم لن يظفروا به إلا بعد أن يحدث فيهم مقتلة عظيمة «وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلما قَدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ربح البيع، ربح البيع» وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله».

ولا منافاة بينهم ففرق بين أن نقول أنها تنطبق [على فلان] وكان السلف أحيانًا يستخدمون نزلت انطباقها على كذا فكونها نزلت في صهيب فهذا ثابت في الروايات الصحيحة فهذا سبب النزول كما استقر عليه مصطلح أهل العلم  ونزلت بصيغة عامة «ومن الناس» ومنهم صهيب بلا شك وليس واحدًا فقط فذكرت أن هناك كثير من المؤمنين يشرون نفسهم ابتغاء مرضات الله إذن هذه الآية تشمل كل مجاهد بنفسه أو بماله في سبيل الله وإن كان سبب نزولها هو صهيب -رضي الله عنه- وما كان من تركه ماله، الشاهد هنا أنهم أرادوا أن يكرهوه إما على ترك الهجرة أو ترك ماله فينظر إذا كان الإنسان يستطيع أن يضحي بماله ولا يقع في الكفر يجب عليه أن يضحي بماله ولا يقع في الكفر.

يقول: «على أي شيء يصح الإكراه؟

قال القرطبي : في «تفسيره»: «أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الاقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذى نزل به، ولا يحل له أن يفدى نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم وابن الماجشون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله» الكلام على الزنا المجرد من الاعتداء على الحرمة وإلا فقد قال أجمع العلماء على أنه لا ينتهك حرمته بجلد أو غيره وانتهاك حرمته بالفاحشة أعظم فهذا داخل في الإجماع أنه لا يجوز أن يفعل هذا مهما فعل فيه ولكن الكلام في الزنا المجرد عن الاعتداء عن الأعراض فقال: هذا من المختلف فيه فقال بعضهم العلماء لا يفعل ذلك وإن قتل لأن مفسدة الزنا في ذاته مفسدة عظيمة جدًا وبالتالي يرى أن القتل أهون من أن يفعل المسلم الزنا وإن كان الطرف الآخر غير معصوم كما ذكرنا والراجح ما ذكرنا من أنه يجوز الإقدام عليه.

يقول: «فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد، وبه قال أبو ثور والحسن.

قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك، وقال ابن خويز منداد في أحكامه» كل هؤلاء من العلماء الذين ألفوا في أحكام القرآن لأن موضوع الإكراه موضوع فقهي توجد تفاصيله في القرآن أكثر فهناك كتب في تفسير آيات الأحكام وبعضها يكون تفسيرًا شاملًا كتفسير القرطبي «جامع البيان في تفسير أحكام القرآن» فهو تفسير شامل لكنه يفصل في تفسير آيات الأحكام وفي بعضها تفسير آيات الأحكام فقط ويرجع إليها في المسائل التي تكون أدلتها في القرآن أوفى من أدلتها في السنة فهو هنا ينقل نقولًا عن هؤلاء العلماء الذين لهم كتب في تفسير آيات الأحكام.

يقول: «وقال ابن خويز منداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى، فقال بعضهم: عليه الحد، لأنه إنما يفعل ذلك باختياره».

 قد تصل المرأة أيضًا إلى الاختيار الملجئ الذي يرتفع معه التكليف بالكلية فقد يقيد الإنسان ويفعل به المعصية فلا يقال في حقه هل يدخل في ذلك الإكراه أو لا يدخل لأنه قد تحول إلى آلة فيرفع عنه القلم ولا يوصف الفعل لا بوجوب ولا تحريم ولا استحباب ولا كراهة متى فقد السيطرة على أعضائه لأنه المكرِه هو الذي يحرك أعضائه فهذه مسألة خارج البحث مسألة الإكراه الملجئ التي تصل إلى حد أن الإنسان لا يتصرف في جواره فهذا يمكن أن يصل في المفعول به أما الفاعل يستحيل بل لا بد من قدر من الشهوة والعزم الذي به تحصل القدرة على الإيلاج فلا يتصور في الفاعل أن يكره إكراهًا ملجئًا تحت أثر العقوبة فمذهبهم أن العقوبة وإن كانت القتل لا تجيز له أن يفعل  ولذلك قال: «من فعل أقيم عليه الحد»  والراجح كما ذكرنا إن أجبر على الفعل بغير معصوم جاز.

يقول: «وقال بعضهم: لا حد عليه. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح.

وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد. وخالفه صاحباه فقالا: لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار» يعني انتشار ذكره قبل الإيلاج» فلم يعتبروا هذه المسألة، وهي معتبرة عند من يقول لو كان إكراهًا ملجئًا فهي خارجة عن موضوع البحث، والفاعل لا يمكن أن يصل إلى إكراه ملجئ وبالتالي لا يدخلها الإكراه ولو أنه فعل فعليه إثم الزاني وإن كان الراجح ما ذكرنا.

قال: «وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر».

يعني لو وضع السيف على رقبته وإن لم يزني قتل جاز له أن يعزم على الفعل مما ينتج عنه القدرة.

قال: «قال ابن المنذر لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان».

وهنا أمر لا بد من اعتباره غير أمر القدرة وهو الموازنة بين الذنب المكره عليه وبين العقوبة وهذا تقدم بيانه المسألة الثانية التي لا بد من أخذها في الاعتبار أن الإكراه رخصة يزول بها تحريم الشيء المحرم من الكفر فما دونه ولكن مع مراعاة الشروط التي ذكرناها فإن زال التحريم بقيت احتمالات وليس احتمالًا واحدًا ولا يلزم من وجود الإكراه أن يكون الشيء المكرَه ِ عليه مباحًا بل يمكن أن يكون مباحًا أو واجبًا أو مستحبًا أو مكروهًا بمعنى أن لا يأخذ بالرخصة فهذه لها أحوال نفس مسألة الموازنة بين المصالح والمفاسد فهناك مصلحة اعتبرها الشرع ولكن اعتبرها من جنس المستحبات لمشقتها مثل مصلحة إعزاز الدين لكن لم يجعلها الشرع واجبة في كل الأحوال وبالتالي فالإنسان الذي يكره من قبل كافر أو من قبل من غرضه كسر نفوس المسلمين وإذلالها يستحب له الثبات وعدم الأخذ بالرخصة في هذه المواطن فالرخصة جائزة من حيث الأصل ولكن حكمها تفصيليًا أنها مكروهة أو خلاف الأولى فالأخذ بالرخص في حالة الدين فهذه الأولى فيها الثبات كما قال -صلى الله عليه وسلم- سيد الشهداء حمزة ورجل قام على سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله» هذا إذا كان الأمر قاصرًا عليه لأنه لا يجوز في المستحبات أن يلزم الإنسان بها غيره ولذلك لما أسر ملك الروم عبدَ الله بنَ حذافة وأراد أن يظفر منه بأي شيء وينجيه من القتل لما علم أنه من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يكن في السرية أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عبد الله بن حذافة فأخذ ملك الروم يقتل أصحابه وأخره ثم ساومه بأن يكفر ويطلق سراحه فرفض، أن يكفر وأن يزوجه ابنته فأبي، أن يكفر ويقبل رأسه فأبى لعلمه بعظم شأن الصحابة، فلما قال قبل رأسي وأطلق صراحك قال: «لا إلا أن تطلق صراح جميع المسلمين» فقال: «نعم» فقبل رأسه فأطلق صراحه وصراح كل من لم يكن قد قتل من المسلمين فلما عاد إلى عمر -رضي الله عنه- قال: «حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة » فقام -رضي الله عنه- فبدأ بنفسه فقبل رأسه -رضي الله عنهم- أجمعين، إذن إظهار العزة في هذا الباب مستحبة وكذا المرأة إذا كانت مخيرة بين أن تقاوم وتعلم أنها إذا أخذت فعل بها - وكما ذكرنا أنها لو قيدت فهذا أمر آخر- لكن هي الآن فرصة أن تقاوم أو تستسلم وعلمت أنها إذا استسلمت يفعل بها الفاحشة فيتأكد استحباب أن لا تستسلم حتى يقتلوها أو أن يكفيها الله أمرهم ولكن لا تستسلم فالأفضل في حقها أن تقام حتى تغلب على أمرها مغالبة فيكون إكراهًا ملجئًا كما ذكرنا فهذا المستحب في حقها، لكن هل يجوز لها أن تستلم مع غلبة الظن أن يفعل بها؟ نعم  إن كانت لا تطيق الصبر على القتل ونحو هذا أو إذا قاومت كانت هناك جراحات عظيمة أثناء المقاومة جائز لها أن تستسلم إذن هناك أحوال يكون الأولى فيها عدم الأخذ بهذه الرخصة وفي غير مسألة إعزاز الدين ينظر إلى تفاوت المصالح فلو كانت المفسدة الموجودة في الأخذ بالرخصة لا تكاد تذكر في أمام المفسدة في عدم الأخذ بها يجب الأخذ بالرخصة وهذه متصورة في حالة الاضطرار إذا كان سيموت من الجوع وأمامه ميتة وجب عليه أن يأكل منها لأنه إن لم يأكل الميتة يكون كالقاتل نفسه والمفسدة في أكل الميتة مفسدة يسيرة جدًا يمكن تحملها في هذا الموطن لكي يحفظ حياته وما دمنا قد قلنا أن الإكراه رخصة فيمكن أن يكون رخصة واجبة أو مستحبة أو مباحة أو خلاف الأولى ويكون ذلك في المسائل التي فيها إعزاز للدين ويكون الأفضل الثبات.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

الولاء والبراء -12
1564 ٢٧ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -10
2032 ١١ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -9
2028 ٠٤ يناير ٢٠١٦
الولاء والبراء -8
1666 ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -7
1429 ٢١ ديسمبر ٢٠١٥
الولاء والبراء -6
1315 ١٤ ديسمبر ٢٠١٥