الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

التوحيد وبناء أمة -6

التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين

التوحيد وبناء أمة -6
رضا الخطيب
الخميس ٠٤ فبراير ٢٠١٦ - ١٢:١٥ م
1211

التوحيد وبناء أمة (6)

كتبه/ رضا الخطيب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

من آثار التوحيد في النفس:

تاسعا: أن التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا والله هو العز الحقيقي والشرف العالي، فيكون بذلك متألها متعبدا لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه، ويتحقق نجاحه، فإن العبودية لله عزٌ ورفعة، والعبودية لغير الله ذلٌ ومهانة.

-فيا عجبا! ممن يخاف من المخلوقين كالسحرة والمشعوذين وغيرهم ويحسب لهم حسابا، فيطلب من عطائهم، ويلجأ إليهم، ويخاف منعهم، وقد شرع له أن يردد بعد كل صلاة: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)، فأين حقيقة التوحيد؟ وأين حقيقة هذه الكلمة؟ يرددها كثير من المسلمين بعد كل صلاة، لكن ربما بدون تدبر لمعناها، ولا عمل بمقتضاها، واسمع لهذا الكلام الجميل لـ شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: (المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا} [آل عمران]. أما الخالص من الشرك فيحصل له الأمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام]، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الظلم هنا بالشرك، كما في الحديث. فكان من آثار التوحيد القوة والشجاعة.

-واسمع لهذا المثل العجيب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج].

ولنضرب مثالا واحدا لعزة المسلمين يوم أن تعلقوا بالله ولم يخافوا إلا الله، ذكر جليب بن حبة قال: (ندب عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن، حتى إذا كنا بأرض العدو خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفا، فقام ترجمانٌ فقال: ليكلمني رجل منكم، وفي رواية للطبري: أن كسرى قال له: إنكم معشر العرب أشد الناس جوعا، وأبعد الناس من كل خير، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة أن ينتظموكم بالنشاب -أي: يقتلوكم- إلا تنجسا لجيفكم، فقال المغيرة رضي الله تعالى عنه: ما أخطأت شيئا من حقنا، نحن أناس من العرب، كنا في شقاء وبلاءٍ شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا ورسول ربنا -صلى الله عليه وسلم- أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيمٍ لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم).

هكذا يكون التوحيد الخالص عزة ورفعة وثقة بالله، وقوة في الدين والعقيدة.-يقول ابن تيمية رحمه الله: (فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبته لغيره، ليس عند القلب أحلى ولا ألذ، ولا أطيب ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له وإخلاص الدين له).

من آثار التوحيد في النفس:

عاشرا: أنه يسهل عليها فعل الخيرات وترك المنكرات، فالمخلص في توحيده تخف عليه الطاعات لما يرجوه من الثواب، ويهون عليه ترك المنكرات، وما تهواه نفسه من المعاصي؛ لما يخشى من سخط الله وأليم عقابه، وكلما حقق العبد الإخلاص في قول: (لا إله إلا الله) خرج من قلبه تألّه ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، نعم إن صدق العبد في توحيده صرف عنه الكثير من الذنوب والمعاصي، ألم يقل الحق عز وجل في القرآن: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف] فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عبادنا المخلصين، ويقول الحق عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} [الكهف]. فالمسلم بقدر ما في نفسه من التوحيد يكون إقدامه وحرصه على فعل الخيرات، والعكس بالعكس، ولما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم -أي: في قلوب المنافقين- ثقلت عليهم الطاعات وكرهوها، كما أخبر الله عز وجل عنهم في القرآن.

قال ابن القيم في مدارج السالكين: (اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر ذلك الشعاع وضعفه، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس -نسأل الله الكريم من فضله- ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، وبحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا، ومعرفة وحالا، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته.

وإلى أسرى الذنوب والشهوات والمعاصي الذين إذا ذُكِّروا تعللوا بالمشقة والعجز، فإذا قيل لأحدهم: اترك يا أخي تلك المعصية! قال: لا أستطيع، نقول لأولئك كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: (إنما يجد المشقة في ترك المعوقات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلةٍ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب). .. وللحديث بقية

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


تصنيفات المادة