الخميس، ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٥ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

النصيحة بين التبرير والتقويم

يا لها من قلوب نقية قبلت النصيحة وسعت إلى التقويم لا التبرير بلا استعلاء أو تخوين

النصيحة بين التبرير والتقويم
سامح بسيوني
الاثنين ٠٧ مارس ٢٠١٦ - ١٢:٠٣ م
1376

النصيحة بين التبرير والتقويم

كتبه/ سامح بسيوني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله  وبعد:

فالوقوع في الخطأ أمر متصور من بني آدم، وهو ليس عيبا في حد ذاته لأن هذا هو مقتضى البشرية، بدليل قول النبي : "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". إنما يكمن العيب في الإصرار على الخطأ والتمادي فيه، ويعظم الخطأ أكثر حين يحاول صاحب الخطأ إيجاد المبررات ليوهم نفسه ومن حوله بأنه لم يخطئ أصلا.

فالتبرير كمصطلح نفسي هو: العملية التي يختلق بها الإنسان المبررات لما يأتيه من سلوك أو ما يراوده من أفكار وآراء، وذلك لكي تحل محل الأسباب الحقيقية، بل هو بصورة أكثر وضوحا عملية ستر للواقع وللحقيقة بستار تقبله النفس وتستسيغه بدون تأنيب ضمير، و بالتالي فهو يؤدي إلى الانصراف عن إصلاح الذات وتفقد عيوب النفس ومن ثم يؤدي إلى الاستمرار في الخطأ الذي يؤدي في النهاية إلى الخسارة الفادحة، بل إن صاحب هذا المبدأ لا يكون في الحقيقة وبالا على نفسه فقط بل يكون وبالا على الآخرين، ذلك كونه لا يتقبل النصيحة بصدر رحب بل يكون شديد الخصومة كثير الجدل مما قد يؤدي إلى تحميل نفوس الناصحين له ما لا يطيقون، فيؤدي ذلك إلى كثرة الجدل بين الناصح (المتبع لسنة نبيه في قوله : "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم") وبين المنصوح (الحريص على التبرير بغض النظر عن محتوى النصيحة)، فيقع المحظور من بغض الله عز وجل كما في صحيح البخاري :"أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

وسلوك التبرير في الحقيقة سلوك يدعو إلى العجب، لا سيما إن صدر من أهل الفضل والديانة، فقد ذكر بعض المفسرين في قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، ما ورد في صحيح مسلم عن عليٍّ أنَّ النبي  طرقه ليلا وفاطمة فقال: "ألا تصليان؟" فقال علي رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا"، فانصرف رسول الله  حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {َكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.

قال ابن عاشور: "يريد النبي أن الأولى بعلي أن يحمد ويشكر إيقاظ رسول الله  إياه ليقوم من الليل، ويحرص على تكرار ذلك، وأن يُسرّ بما في كلام رسول الله من ملام، ولا يستبدل به ما يحبذ من نومه، فذلك محل تعجّب رسول الله  من كلام عليّ رضي الله عنه".

وفي الحقيقة فإن الوقوع في التبرير من قبل المنصوح قد يكون راجعا إلى سببين:

- إما عدم القدرة على ضبط النفس وتقيدها بقيد الشرع مع عدم الصدق مع النفس في ذلك.

- أو راجعا إلى كِبْرٍ وعُجْب ٍأصاب القلب يصعب معه الاعتذار أو قبول النصيحة لاستشعاره أن هذا يظهره بمظهر الضعف في ظنه، فتكون النهاية مؤسفة مهلكة، كما أخبر النبي : " ...ثلاث مهلكات: هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه".

وقد صدق القائل :(من اصفر وجهه من النصيحة، اسود لونه من الفضيحة). أي: أن من رفض النصيحة واتخذ مبدأ التبرير شعارا له لاعتباره أن النصيحة انتقاصا وإهانة له، فإن لون وجهه يصفر تبعًا لهذه المشاعر المسيطرة عليه، ثم تكون النتيجة المنطقية بعد ذلك هي الفضيحة أمام الناس واستبدال اللون الأسود باللون الأصفر لتفاقم الخطأ وتكرار وقوعه أمام الناس جميعًا.

ولو كان المنصوح لبيبًا لاستقبل تلك النصيحة بذلك المبدأ النبوي كما في الحديث عن أبى هريرة: "المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيبا أصلحه". فأحسن الظن في ناصحه وسعى في تقويم نفسه ومساره، ففاز بخيري الدنيا والأخرة.

ولنتذكر معا هذا الموقف الذي يبين الفرق الكبير في التعامل مع النصيحة بين الأفراد أو المؤسسات اليوم وبين حال أصحاب النبي  في القرون الخيرية: فقد استدعى عمر بن الخطاب امرأة كانت تتحدث عندها الرجال، فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم، فأجهضت ووقع جنينها على الأرض ومات، ولما بلغ عمر ذلك جمع أصحاب رسول الله وسألهم فقالوا: نراك مؤدبًا ولم ترد إلا خيرًا ولا شيء عليك. وكان علي -رضي الله عنه- جالسًا لا يتكلم، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال علي: قد سمعت ما قالوا، قال عمر: فما عندك أنت؟ قال: قال القوم ما سمعت. فقال له عمر: أقسمت عليك لتقولن ما عندك. قال: إن كان القوم قد قاربوك فقد غشوك، وإن كانوا ارتأوا فقد قصروا، إن الدية على عائلتك لأن قتل الصبي خطأ تعلق بك، فقال عمر: أنت والله نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي".

فانظر هنا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو يقسم على علي ليعطيه النصيحة، ثم انظر لكلام علي رضي الله عنه وهو يقول له: إن كان القوم قد قاربوك فقد غشوك وقصروا، والدية على عائلتك وقتل الصبى خطؤك، فلم يغضب عمر، ولم يقل هم جماعة وأنت فرد، ولم يبرر تصرفه بأنه يريد الإصلاح.

فيا لها من قلوب نقية قبلت النصيحة وسعت إلى التقويم لا التبرير بلا استعلاء أو تخوين.

فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

 موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة