الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

نظرة في الفتن

لا بد لنا من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في كل مكان نوجد فيه، حتى يعصمنا الله عز وجل من الفتن

نظرة في الفتن
ياسر برهامي
الأحد ١٣ مارس ٢٠١٦ - ١٧:٢٥ م
1272

نظرة في الفتن

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قدَّر الله -سبحانه وتعالى- أن تكون الفتن متكاثرة قُبيل قيام الساعة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ) (رواه البخاري)؛ تلك الفتن إذا تكاثرت وامتلأت الأرض منها ظلمًا وعدوانًا، وجورًا وطغيانًا؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- يملأها بعد ذلك عدلاً وإحسانًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ؛ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي -أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي- يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وجَوْرًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وهذا في أرض الإسلام، فإن أرض الإسلام تُملأ قبيل الملاحم الكبرى قسطـًا وعدلاً، بعد أن مُلئتْ ظلمًا وجورًا، والله -سبحانه وتعالى- قدَّر ذلك.

ثم تَحدث الملاحم الكبرى بيْن المسلمين وبين الروم، ثم فتنة الدجال تقع فيها الملحمة مع اليهود مِن أتباعه، ثم يحدث الخير العظيم في الأرض كلها، مِن وجود المسيح -صلى الله عليه وسلم-؛ فيملأ الأرض كلها بهذا الدين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) (متفق عليه)، وفي بعض الروايات الصحيحة: "وتكون الملة واحدة".

فإذا كثرت الفتن وجب على المؤمن أن ينتبه ويحذر، ووجب عليه أن يزداد بصيرة في الحق، وإرادة له، وثباتًا عليه، وصبرًا ويقينا بوعد الله -عز وجل-، ويعلم أنه في وسط الفتن امتحان له، ودلالة على قوة إيمانه إذا ثبت؛ فيرتفع درجات عند الله، وليس ذلك بشر للمؤمنين، بل هو خير لهم كما قال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11)، مع ما كان لهم فيه مِن الألم الشديد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولزوجه الطاهرة المبرأة مِن فوق سبع سماوات أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، ولأفاضل المؤمنين وفيهم أفضلهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-!

كم كان الألم شديدًا، والفتنة عظيمة في أوساط المسلمين!

كانت فتنة أشد مِن فتنة الأعداء القادمين مِن خارج البلاد، وكذلك كانت فتنة المنافقين أشد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أصحابه مِن الفتن الأخرى، وكان ذلك خيرًا؛ ذلك أن الله -عز وجل- إنما أوجد البشر الذين يجتمع في قلوبهم أنواع الإرادات والشهوات والرغبات مِن الخير والشر "حتى في قلوب صفوة هؤلاء البشر" - إنما أوجد الله هذا الجنس الإنساني مِن أجل هذه الصفوة، مِن أجل وجود هذه الأنواع مِن العبودية في مقاومة الشر.

فالله -عز وجل- كان ولم يزل قادرًا على أن يَخلق مَن يعبده لا يشرك به شيئًا طرفة عين، وعلى أن يخلق مَن يسبِّح بحمده ويقدِّس له، ولا يسفك دمًا، ولا يظلم قيد أنملة، ولا يظلم أحدًا ذرة كما خلق الملائكة (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6).

وتلك عبودية... لكن هناك ما هو عند الله -عز وجل- أفضل منها، وأحب إليه -سبحانه-؛ مِن أجل ذلك خلق الناس الذين فيهم الشر الذي يكرهه -سبحانه وتعالى-، وقد نهى عنه وحرمه، ومع ذلك خلقه وقدَّره بعلمه وحكمته، وما خرج عن قدرته ولا قضائه ولا قدره، بل كان ذلك منه -عز وجل- خلقـًا وإيجادًا، وإن كان مَن فعل الشر مِن أهل الشر هو الذي اكتسبه وفعله.

خلق الله -عز وجل- الأشرار مِن الجِنة والناس، وخلق شياطين الإنس والجن؛ ليوجد مِن عباد الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين مَن يقاوم هذا الشر، وتوجد أنواع مِن العبودية، لا يمكن أن توجد إلا بضدها، فالخير كله في يديه والشر ليس إليه -سبحانه وتعالى-؛ فله الحمد على ذلك؛ لكن لا بد لنا أن نقاوم الشر، وأن نبذل جهدنا في فعل الخير.

قدَّر الله -عز وجل- أن تزداد أنواع الشر في زماننا، وفي أرضنا، وفي مجتمعاتنا؛ لينظر -سبحانه وتعالى- كيف نعمل في مقاومتها، وفي نشر الخير، وفي مقاومة أنواع الفساد...

لا يمكن أن نستسلم...

لا بد وأن نجتهد غاية الاجتهاد في إعلاء دين الله -سبحانه وتعالى- وكلمته، وهو بإذن الله ظاهر لا محالة، كما وعد -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (الفتح:28)؛ سنة ماضية مهما كانت العقبات، ومهما كانت نوعية المواجهات، ومهما كان ضعف أهل الإيمان فيما يبدو للناس، ومهما كانت ذلتهم فيما يعده الناس، ومهما كانت قوة المتجبرين والطغاة، ومهما كان مِن ظلم وعدوان؛ فإن النتيجة الحقيقية الحتمية لهذا الصراع محسومة مسبقًا في قدر الله، لا تبديل ولا تغيير في اللوح المحفوظ: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ . فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ . وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ . أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ . فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ . وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ . وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ . سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات:171-182).

 هذا القرآن ذكر للعالمين وسوف يعلمون، وقد علموا نبأه بعد حين، فسيعلمون النبأ العظيم بظهور الإسلام في كل مكان، سيعلمونه بعد حين كما كان مِن ذلك أن يشاء الله أن يكون، وقد علم المشركون ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم مِن أنه (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45)، وهكذا تكون العزة ويكون النصر باليقين بوعد الله، والصبر على طريق الحق والثبات عليه دون ارتباط بشخص أو مكان أو عمل معين إلا طاعة الله -عز وجل- التي لا ينفك عنها المؤمنون في كل حال مِن الأحوال (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163).

فقد قضى الله بعدله وحكمته أن يجعل الفرج مع الكرب، والنصر مع الصبر، وأن يجعل مع العسر يسرًا، كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن الله يجعل في اليقين أرفع المراتب، وفي الصبر معه وصول الإنسان إلى الإمامة في الدين؛ كما قال -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

ومِن أعظم اليقين أهمية في حياة المؤمن أن يوقن بظهور الإسلام وعزِّ هذا الدين، وأن الله -عز وجل- يدخله كل مكان وصل إليه ضوء الشمس وبلغه الليل والنهار، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ, وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ؛ بِعِزِّ عَزِيزٍ, أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ, عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ, وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:20-21)، وصفاته -عز وجل- لا يمكن أن تتغير وتتبدل؛ فهو القوي العزيز، وهو الرحيم بعباده المؤمنين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:9)؛ بعزته أعز المؤمنين بأن وفقهم للقول الطيب والعمل الصالح، كما قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر:10).

فلا بد أن نوقن بهذه الوعود مِن الله -تعالى- بأن الباطل يزهق ويضمحل، وأن الحق يبقى ويزدهر ويعلو -بإذن الله-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).

لكن لا بد أن نهتم بالعلم والعمل والدعوة إلى الله والتربية الإيمانية، والتعاهد لكل أبناء الدعوة وأبناء المجتمع على الخير ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ ولو أن كل واحد منا جعل مهمته أربعة أو خمسة مِن أبناء المسلمين يهتم بهم، ويتعاهدهم في صلاتهم، وفي أخلاقهم، وفي سلوكياتهم؛ يعلمهم ما يلزمهم، ويرشدهم إلى ما ينفعهم؛ فإن ذلك يكون مِن أعظم أسباب نشر الحق في المجتمع.

نحتاج إلى أن نكسر الحواجز بيننا وبيْن الناس التي يريد الأعداء أن يفرضوها علينا؛ يريدون إما أن نتحوصل ضد المجتمع حتى يطحن المجتمع أبناء العمل الإسلامي، وإما أن نتحوصل خارجه، وأن يفرضوا علينا حُجُبا وحواجز بيننا وبيْن الخلق.

ولا بد لنا أن نخترق هذه الحواجز، وندعو إلى الله -سبحانه وتعالى- بكل ما نستطيع مِن قوة، وأن نجتهد في إفشاء السلام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) (رواه مسلم).

ولربما غاب هذا عن الكثيرين حتى لا يختلطون بالناس فيعمقون نظرة التعالي التي يحاول الأعداء أن يرسموها عنا في مخيلة كثير مِن الناس؛ لذا فمِن أعظم ما تواجَه به الفتن قوة الترابط بيننا وبيْن أبناء مجتمعنا، وقوة الترابط بينا وبين بعضنا البعض حتى نكون نسيجًا واحدًا.

لا بد أن نحرص على قوة الترابط بيننا وبين بعضنا البعض، وبيننا وبيْن جميع أفراد المجتمع؛ حتى لا يتمكن الأعداء مِن تفتيت المجتمعات وتخريبها؛ فإن ذلك مِن أعظم أسباب الوقاية مِن الفتن كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإفشاء السلام بيننا.

لذلك نقول: لا بد لنا مِن العلم، ومِن العمل، والعبادة والذكر، كما لا بد لنا مِن الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- في كل مكان نوجد فيه، حتى يعصمنا الله -عز وجل- مِن الفتن.

وأسأل الله أن ينجينا مِن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي كلمته في مشارق الأرض ومغاربها.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة